شنّ الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب الحرب الإقتصادية ضد إيران مُستخدماً عبارته التمويهية “الضغط الأقصى” كي يفتح ملف التفاوض مجدداً. إيران لم تنسحب من الإتفاق النووي بعد إنسحاب واشنطن منه، وزيادة التخصيب عن نسبة 3.67 التي يسمح بها الاتفاق، كي تبقي نفسها ضمن هوامش التفاوض ولم تصل إلى نسبة العشرين في المئة السابقة للاتفاق النووي عام 2015.
الجديد، أن الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن، يُندّد، في الظاهر، بإنسحاب ترامب من الإتفاق النووي، لكنه عملياً سيبني على سياسة “الضغط الأقصى” عندما يتحدث إلى الإيرانيين. وهو همس في آذان الأوروبيين كي يبنوا جبهة موحدة في مواجهة المطلب الإيراني بالعودة إلى الإتفاق النووي من دون شروط مسبقة.
لم يصدر موقف وزير الخارجية الألماني هايكو ماس من فراغ. مطالبته بـ”إضافات” إلى الإتفاق النووي، هو تماهٍ مع موقف بايدن الذي توقع “حواراً صعباً جداً” مع إيران برغم إبداء رغبة قوية بالعودة إلى الإتفاق النووي، ليضيف أن العودة يجب أن تسبقها “مفاوضات”، في تلميح إلى مسألة الصواريخ والنفوذ الإقليمي لطهران.
وما لم يقله بايدن بلسانه، قاله توماس فريدمان في “النيويورك تايمز”: إنها مسألة الصواريخ الدقيقة هي التي تؤرق إسرائيل وليس القنبلة النووية غير القابلة للإستخدام. وصحيفة “وول ستريت جورنال” رأت في إحدى إفتتاحياتها أن “بايدن يجب أن يشكر ترامب” على “المكاسب الإستراتيجية” التي حققتها سياسة “الضغط الأقصى”، وأن يبني عليها عندما يجلس إلى طاولة المفاوضات مع الإيرانيين.
بايدن عائد إلى إيران من البوابة الصاروخية وسيصطحب معه فضلاً عن الأوروبيين، دولاً في الإقليم، تنادي منذ الآن بأنها يجب أن تكون جزءاً من أي إتفاق جديد مع إيران
بايدن يبادر في الملف الإيراني ومعه أوروبا، ويريد أيضاً ضم روسيا والصين إلى موقفه إذا استطاع. وهذا ما سيشكل ضغطاً أقوى على إيران، مما شكّله ترامب الذي ذهب وحيداً إلى مواجهة إيران.
بايدن عائد إلى إيران من البوابة الصاروخية وسيصطحب معه فضلاً عن الأوروبيين، دولاً في الإقليم، تنادي منذ الآن بأنها يجب أن تكون جزءاً من أي إتفاق جديد مع إيران، كلما تراءى لها شبح باراك أوباما، وهو ينصح دول الخليج العربية عقب التوقيع على الإتفاق النووي، بأن تذهب وحدها إلى حوار مع طهران “لتشارك” المصالح في المنطقة.
ما فعله ترامب في العامين الماضيين، كان محاولة لنزع أوراق القوة من أيدي الإيرانيين. أراد إجلاسهم إلى الطاولة مجردين من أوراق الضغط ومن دون أنياب. في عام 2015، كانت طهران تملك أقوى ورقة وهي مسافة الشهرين اللتين تحتاجهما للوصول إلى القنبلة. كانت هذه أقوى ورقة في يد محمد جواد ظريف في مواجهة جون كيري. ولا يزال أوباما يفاخر في معرض دفاعه عن “خطة العمل المشتركة الشاملة” (الإسم الرسمي للإتفاق النووي)، بأن الاتفاق أرجأ جهود إيران للحصول على القنبلة إلى عام 2031 على الأقل، لأن كمية التخصيب المسموح بها لإيران حتى ذلك العام لا تكفيها لحيازة قنبلة.
مع ذلك، لا تزال ورقة التخصيب هي الأقوى إيرانياً على رغم خسارة إيران أبرز علمائها النوويين محسن فخري زاده وعلى رغم التخريب الذي أصاب منشأة نطنز في أيار/مايو الماضي، والإنهاك الذي حلّ بإقتصادها نتيجة العقوبات. وطهران بكمية الأورانيوم المخصب الذي راكمته منذ زيادة نسبة التخصيب فوق الـ 3.67 بعد إنسحاب ترامب من الاتفاق، هي من أقوى أوراق الضغط في يدها، وسط إلحاح مجلس الشورى الإيراني على العودة إلى مستوى العشرين في المئة رداً على إغتيال فخري زاده.
التأخير في العودة إلى إلتزام الإتفاق النووي، لن تصب في مصلحة إدارة بايدن، التي قد تجد نفسها أمام حكومة إيرانية مختلفة مع توقعات فوز المعسكر المتشدد والرافض للمفاوضات في الانتخابات الرئاسية الإيرانية
غاية إيران من العودة إلى أي تفاوض ستكون رفع العقوبات، بينما غاية بايدن على رغم لهجته الهادئة هي دفع إيران إلى القبول بـ”الإضافات” التي تحدث عنها هايكو ماس، وفي مقدمها مسألة الصواريخ الباليستية. الجانبان يتسلحان بسقوف عالية قبل الجلوس إلى الطاولة، وهما الآن أمام معضلة من أين نبدأ. وهذا بحد ذاته من مقدمات التفاوض.
وفي المساحة الفاصلة عن تسلم بايدن مهماته رسمياً في 20 كانون الثاني/يناير، لا يوفر ترامب أو بنيامين نتنياهو، وسيلة إلا ويستخدمانها لخلق ظروف يستحيل معها على الإدارة الأميركية الجديدة، الشروع في التفاوض في وقت معقول، بينما يُمني ترامب النفس بالعودة إلى الترشح لانتخابات 2024، في تحذير لبايدن، من أنه عائد لنسف كل إنجاز يحققه في سنوات ولايته الأربع، كما فعل مع أوباما.
وبمعزل عن تهويلات ترامب، فإن التأخير في العودة إلى إلتزام الإتفاق النووي، لن تصب في مصلحة إدارة بايدن، التي قد تجد نفسها أمام حكومة إيرانية مختلفة مع توقعات فوز المعسكر المتشدد والرافض للمفاوضات في الانتخابات الرئاسية الإيرانية في حزيران/يونيو المقبل.
عندها، قد تختلط الأوراق ولا يعود التفاوض أولوية، وتالياً يصبح إلتزام طهران بما تبقى من الإتفاق النووي محل شك. وتعود المنطقة لتدخل في فصل جديد من التوتر وضربات الإستنزاف من الجانبين.