لنبدأ من عند ما تضمنته خطة جو بايدن حرفياً:
“إن مفاوضين من قسم السياسة الخارجية ومجتمع الاستخبارات والإدارات الأخرى لم يكتفوا في الأشهر القليلة الماضية بالتركيز بلا هوادة على وقف إطلاق النار الذي كان ليكون هشاً ومؤقتاً بشكل حتمي، بل ركّزوا أيضاً على الوقف المستدام للحرب.. هذا هو ما ركّزوا عليه. الوقف المستدام للحرب. ركّزوا على وقف مستدام للحرب يُعيد الرهائن إلى منازلهم ويضمن أمن إسرائيل ويُتيح مرحلة مستقبلية أفضل لغزة بدون أن تكون حركة حماس في السلطة ويعد لتسوية سياسية توفر مستقبلاً أفضل للإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء (…). آن الأوان لأن تنتهي هذه الحرب ويجب أن نصل إلى وقف الأعمال العدائية”.
ثمة مفارقات عجيبة غريبة تضمنها عرض بايدن يمكن ايجازها في السطور الآتية:
أولاً؛ طالما أنها مبادرة إسرائيلية لماذا أعلنها الرئيس الأميركي؟ وتالياً لماذا لم يعلنها رئيس الحكومة الإسرائيلية، خصوصاً أن الوزير في مجلس الحرب بيني غانتس قال إنها أُقرت بالإجماع؟ وكيف للولايات المتحدة أن تعلن المبادرة وتُعلّق عليها وتُجيب عن الأسئلة المتعلقة بتفاصيلها وهي ليست من صنعها؟
ثانياً؛ إذا كانت فعلياً مبادرة إسرائيلية أعلنها الرئيس الأميركي، لماذا تجاهد الولايات المتحدة دبلوماسياً لاقناع حكومة إسرائيل بقبولها طالما أنها من صنع تل أبيب، ولماذا استباق موقف حركة حماس وتوقع رفضها، حسب منسق الشؤون الإستراتيجية في مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي بقوله إن الكرة “الآن في ملعب حماس”؟
ثالثاً؛ طلبت الولايات المتحدة من إسرائيل وحماس قبول المبادرة وأعلنت الولايات المتحدة وقطر ومصر عن بدء وساطة ثلاثية باتجاه حماس وإسرائيل. السؤال هو الآتي: ماذا سيقول الوسطاء للطرف الفلسطيني أي حركة حماس: لا مكان لكم كحركة في غزة. تعالوا نتفق معكم على اطلاق “سراح الرهائن” وعلى الأسماء والدفعات والترتيبات واليوم التالي وبعدها لن يكون لكم مكان في غزة. ارحلوا عنها؟ وللقارئ أن يتصور ماذا سيكون جواب حماس عندما تتلقى مثل هذا العرض!
رابعاً؛ قال الناطق باسم الخارجية الأميركية إن بايدن توجه في كلمته إلى فريق من الإسرائيليين المعارضين لاقناعهم أن الاتفاق هو في مصلحة إسرائيل، لكن هذا الناطق تلعثم عندما تلقى سؤالاً أنه إذا أطاح المعارضون المتوقعون (ايتامار بن غفير وبتسئيل سموتريتش) بالحكومة ودخلنا في فراغ حكومي ولم يعد هناك من يتخذ القرار في إسرائيل.. في مثل هكذا حالة، ماذا سيكون مصير هذه المبادرة؟
خامساً؛ قال بايدن إنه آن الأوان لأن تنتهي هذه الحرب ودعا إلى وقف الأعمال العدائية.. وهذه لغة أميركية وليست أبداً لغة إسرائيلية. في المقابل، أعلن نتنياهو رداً على ما تسمى “المبادرة الإسرائيلية” التي أعلنها بايدن أنه لن يوقف الحرب مع أن هذه المبادرة تتضمن وقف إطلاق نار مستدام؟
الولايات المتحدة وإسرائيل يشتريان الوقت على وقع مزيد من المجازر في غزة ومحاولة ايهام الرأي العام الأميركي أنهما يريدان وقف الحرب و”يُعوّلان” على موقف رافض من حماس.. تمهيداً لالقاء اللوم عليها مع الإكثار من الكلام عن أنها “منظمة إرهابية” وأنها المسؤولة عن أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول
سادساً؛ يُطمئن بايدن إسرائيل أن حماس لم تعد قادرة على شن هجوم مثل الذي وقع في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 وأنه لا مكان لها في غزة فيما وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت يطلب عدم اعطاء أي دور لحماس في غزة بعد تنفيذ الاتفاق. أما بنيامين نتنياهو، فهو لا يقبل أي دور لحماس ويُطالب بالقضاء عليها (مع أنه يفاوضها) وكذلك يرفض أي دور للسلطة الفلسطينية، وهذا يعني أنه لم يعد هناك من حل سوى تسلم القوات الإسرائيلية الإدارة والأمن في غزة، أي إعادة احتلال غزة والعودة إلى ما قبل العام 2005.
سابعاً؛ وزير الأمن القومي بن غفير رفض المبادرة ورفض انهاء حالة الحرب وقال إنه لن يكون شريكاً في حكومة تُنهي حالة الحرب فاتصل به نتنياهو وأخبره أن الاتفاق لا يتضمن انهاء الحرب، برغم أن بايدن أكد على وقف اطلاق نار مستدام وعلى وقف الأعمال العدائية.
هذه الملاحظات السريعة تشي أن الأميركيين وباقي الوسطاء باتوا أسرى متاهة خطة لقيطة لا أحد يبدو مؤهلاً حتى الآن لتحويلها إلى مشروع اتفاق يُعرض على كل من حماس وإسرائيل، وفي الوقت نفسه، تبدو حماس الوحيدة التي لا تدور في المتاهة؛ فالحركة تعرف ما تريد: وقف الحرب وانسحاب قوات الاحتلال وعودة النازحين وتبادل للاسرى وادخال المواد الغذائية واعادة الاعمار. كما أن الحركة تعرف ما لا تريد؛ أي محاولة خداعها بالمفاوضات والاستحصال منها بالتفاوض على ما عجز الإحتلال عن أخذه بالحرب.
إذا أردنا أن نُفسّر هذه المفارقات لا يبقى أمامنا سوى الاستنتاج أن الولايات المتحدة وإسرائيل يشتريان الوقت على وقع مزيد من المجازر في غزة ومحاولة ايهام الرأي العام الأميركي أنهما يريدان وقف الحرب و”يُعوّلان” على موقف رافض من حماس.. تمهيداً لالقاء اللوم عليها مع الإكثار من الكلام عن أنها “منظمة إرهابية” وأنها المسؤولة عن أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول. كل ذلك في سبيل استمرار الحرب والعودة إلى ما قاله أمين عام مجلس الأمن القومي الإسرائيلي تساحي هنغبي، وهو من أكثر المقربين إلى نتنياهو من أن الحرب سوف تستمر لسبعة أشهر أخرى، أي حتى نهاية العام 2024.. وربما أكثر.