فرنسا وانتخاباتها التّشريعيّة.. أزمة هوية عميقة الجذور

من المُحتمل جدّاً أن تدخلَ الجمهوريّة الفرنسيّة في أزمة نظام حقيقيّة في اليوم التّالي للانتخابات التّشريعيّة المُبكّرة ذات الدّورة الأولى الحاصلة غداً (الأحد).

قد تدخل فرنسا عمليّاً في “الأزمة الكبرى” إن تحقّق أحد السّيناريوهَين الأساسيَّين التّاليَين:

(١) إمّا حصول اليمين المتطرّف بقيادة “التّجمّع الوطنيّ” (Le Rassemblement National) على أغلبيّة مُطلقة تفرض تسلّمَه منصبَ الوزير الأوّل بشكل شبه حتميّ؛

(٢) وإمّا أن تنتهيَ الانتخابات من غير تشكّل أي أكثريّة مُطلقة لأيّ طرفٍ من الأطراف، مع وجود تكتّلات مُعارضة تستطيع عمليّاً تعطيل قرارات وتوجّهات الأكثريّة غير المُطلقة (إن تشكّلت أكثريّة كهذه أصلاً).

لا ريبَ أنّ الرّئيس إيمانويل ماكرون أمام خيارَين محتملَين أحلاهما مُرّ.. وقد يكون هو من وضع نفسَه والجمهوريّةَ في هذا المأزق الكبير، من خلال حلّه المفاجئ للجمعيّة الوطنية (البرلمان) غداة الانتخابات التّشريعيّة الأوروبيّة التي جرت أوّل شهرنا هذا: وذلك ما يدّعيه عموماً بعض مُعارضيه، لا سيّما من جهة اليمين الجمهوريّ ومن جهة اليسار بمختلف توجّهاته.

لكن، ما هي الجذور العميقة لهذه الأزمة التي وصلت إليها جمهوريّة متعمّقة وراسخة وذات رمزيّة عالميّة.. كالجمهوريّة الفرنسيّة؟ بشكل خاصّ؛ لماذا نحن أمام هذا الصّعود الكبير لليمين المتطرّف وبهذا النّمط الذي يبدو مُذهلاً من الخارج؟ لماذا وصلنا إلى هذا الخطر المحدق؟

يُمكننا ذكر الجذور الأساسيّة التّالية، وذلك من الأكثر قرباً من سطح المياه الفرنسيّة.. إلى الأكثر اختباءً في قعر البحر الفرنسيّ العظيم.

***

فالمجموعة الأولى من الجذور هي من الصّنف الاقتصاديّ. على رأس لائحة المذكور عادةً في هذا الإطار: ظاهرة التّراجع الصّناعيّ (Désindustrialisation) الكبرى. إنّها ظاهرة واقعيّة وعميقة التّأثير وبعيدة الأمد، بحسب أغلب الاقتصاديّين. وأحد أهمّ أسبابها يكمن في هجرة الشّركات المصنّعة وهجرة المصانع عموماً إلى الدّول ذات كلفة الانتاج الأقلّ (والانتاجيّة الأعلى) نسبيّاً. أمّا أهمّ نتائجها: فهو الضّغط النّزوليّ القاسي جدّاً على التّوظيف في سوق العمل “العمّاليّ” (أو “البروليتاريّ”) بشكل خاصّ، كما والضّغط النّزوليّ العامّ المؤذي على الرّواتب (الحقيقيّة لا الإسميّة) ضمن السّوق نفسه.

مساحات كاملة في فرنسا لم تزل تتأثّر بهذه الظّاهرة وبشكل متعمّق أكثر فأكثر.. خصوصاً في المناطق الصّناعيّة التّقليديّة (خارج المدن الكبرى، أو خارج مراكزها المُدُنيّة عموماً).

مقولة “إنّ الإسلام هو المشكلة”، الأكثر تداولاً لدى اليمين الفرنسي والأوروبي، هي طريق سهل للهروب غير الشّجاع من الأسئلة الكامنة وراء اشكاليّة الهويّة هذه. بالمناسبة: ما هي “الهويّة” الفرنسيّة تحديداً؟ هل نحن غَالٌ أم فِرنجة، أم مسيحيّون، أم مسيحيّون “باتوا لطفاء” مع اليهود بعد الحرب الثّانية.. أم نحن يونانيّون-رومان؟ هل نحن أوروبيّون، وماذا يعني ذلك؟

لا مفاجأة إذن من التّصويت الكثيف جدّاً لدى الطّبقات العمّاليّة (والقريبة منها) لمصلحة اليمين المتطرّف، في ظلّ فشل الأحزاب اليمينيّة واليساريّة التّقليديّة في معالجة آثار هذه الظّاهرة، وكذلك في ظلّ ما يُعتقد أنّه فشل الماكرونيّة السّياسيّة (“La Macronie”) أمام الأمر نفسه.

غير أنّ الجذور الاقتصاديّة لا تتوقّف عند هذه الظّاهرة، إذ يُمكننا ذكر ظاهرتَين عميقَتَين أُخرَيَين، يعلم بخطورتهما المتخصّصون في الاقتصاد الكلّي الدّيناميكيّ (La macroéconomie dynamique):

(١) الشّيخوخة السّكّانيّة العامّة وبعيدة الأمد (إلى جانب مضاعفاتها على المسائل الدّيمغرافيّة كافّة بطبيعة الحال)؛

(٢) تراجع التّفوّق التّكنولوجيّ النّسبيّ (والدّيناميكيّ) للاقتصاد الفرنسيّ بشكل عامّ ومستدام أيضاً (مع ما يجرّه هذا الأخير من تراجع للتّميّز النّسبيّ في مجال التّبادل الدّوليّ، وتراجع للإنتاجيّة Productivité النّسبيّة للعمل ولأدوات الإنتاج الأخرى).

لا يُمكن الاستهانة أبداً بالآثار العميقة للتّراجعَين أو “للتّأزّمَين” الدّيموغرافيّ من جهة، والتّقنيّ-الصّناعيّ من جهة أخرى. نحن نتحدّث عن اتّجاهات عميقة التّأثير وبعيدة الأمد والمدى. والنّتيجة هي نفسها عموماً: الضّغط على الإنتاج والتّصدير، وبالتّالي الضّغط على سوق العمل وعلى الرّواتب.. إلى آخر الحلقة الاقتصادّية التي لا تنتهي أو تكاد.

وطبعاً، للطّبقات الأغنى – كما نعلم – طُرُقها للنّأي بنفسها عن أغلب هذه الضّغوطات والمصاعب والآثار. لذلك، كالعادة، وكما يعتقد الكثير من الفرنسيّين: تكون النّتيجة الأساسيّة هي دفع الطّبقات المتوسّطة والأقل ثراءً لأغلب الثّمن الكلّي.

الجوانب الاقتصاديّة أكثر عدداً وتفصيلاً من أن تُذكر جميعها في هذا المقال، ولكن لا بدّ من ذكر مسألتَين اضافيّتَين مهمّتَين أيضاً، إلى جانب المسائل الجوهريّة السّابقة الذّكر:

(١) انفصال أو ابتعاد إدارة وتوجّهات السّياسة الضّرائبيّة عموماً عن إدارة وتوجّهات السّياسة النّقديّة وبشكل مبالغ فيه حسب بعض الخبراء، وذلك بسبب تحكّم الحكومات الأوروبيّة (على المستوى الوطنيّ المحلّيّ) بالأولى، بينما تتحكّم مؤسّسات الاتّحاد النّقدي الأوروبيّ بالثّانية. إنّها اشكاليّة لا يستهان بتأثيرها خصوصاً من زاوية السّياسات الاقتصاديّة الحكوميّة قريبة ومتوسّطة الأجل. (طبعاً، نحن نتموضع هنا بالأخصّ ضمن التّفكير الاقتصاديّ الكينيزيّ Keynésien)؛

(٢) بطبيعة الحال، أزمة التّضخّم الكبيرة المستجدّة لا سيّما منذ بدء حرب أوكرانيا، وما تبعها من ضغط معروف على الأسعار وأسواق الائتمان وما إلى ذلك.

***

كلّها إذن عوامل اقتصاديّة مهمّة في سبيل فهم ما يحصل اليوم في فرنسا.. ولكنّنا سنرى في ما يلي كيف تتفاعل هذه العوامل مع عوامل أخرى غير اقتصاديّة، أكثر عمقاً في الأعمّ الأغلب وأكثر خطورةً ومصيريّةً.. وسنرى كيفَ تُلهب هذه وتلك النّقاش حولَ بعضها البعض.

إقرأ على موقع 180  زيليسنكي بين نصيحة كيسنجر.. و"السلام البوتيني"!

مثلاً، في ظلّ ما سبق حول التأزّم الدّيموغرافيّ من جهة، والتّأزّم التّقنيّ النّسبيّ من جهة أخرى: هل يُمكن لدولة كفرنسا أن تتجنّب الاعتماد بشكل كبير نسبيّاً على الهجرة؟ تبدو الإجابة بديهيّة، ومع ذلك يُصرّ الكثير من الفرنسيّين على اعتبار أنّ المهاجرين يأخذون العمل والإنتاج والثّروة من طريقهم. بشكل أعمّ، ونحن هنا أمام نقطة استراتيجيّة يعتمد عليها اليمين المتطرّف: يعتقد الكثير (جدّاً) من الفرنسيّين اليوم أنّ هناك مشكلة كبيرة في مسألة إدارة الهجرة.. وقد فشل اليمين الجمهوريّ واليسار الجمهوريّ إلى جانب الماكرونيّة السّياسيّة فشلاً ذريعاً في حلّ هذه المشكلة أو معالجة آثارها.

ومن أهمّ آثار هذه المشكلة ربّما، أو هذا ما يظنّه الكثيرون على الأقلّ: المسألة الأمنيّة، أو مسألة الأمن بشكل عامّ. بات أكثر الفرنسيّين ربّما لا يشعرون بالأمن حتّى في الشّارع أو في النّقل العامّ أو في أماكن العمل أحياناً وما إلى ذلك. فعلاً، هي مشكلة حقيقيّة، وقد عايشتها شخصيّاً في ما يخصّ التّنقّل في باريس وبعض ضواحيها مثلاً. “الحكي مش مثل الشّوف”: عليكَ أن تزورَ بعض هذه المناطق لتعرف عمّا نتحدّث. نحن أمام مشكلة حقيقيّة وواقعيّة: ولكن، على ما يبدو، يصرّ جزءٌ كبيرٌ من الفرنسيّين على تحميل ذلك للمهاجرين وحدَهم، أو أقلّه للإدارة السّياسّية لمسألة الهجرة.. وربّما يذهب بعضُهم – مع أغلب قادة اليمين المتطرّف – إلى التّصويب بشكل خاصّ ومُبين: على المهاجرين العرب والمسلمين والأفارقة أجمعين.

***

ولكنّ مسألَتَي الهجرة والأمن، العزيزَتَين على آل لوبان (حزب التجمع الوطني المتطرف) ومن تبعهم من الأوّلين والآخرين.. والنّاخبين المستجدّين من أهل فرنسا أجمَعين: تتفاعلان بقوّة مع مسائل أكثر خطورةً وعمقاً بالتّأكيد. على رأس هذه المسائل: مسألة الهويّة، لا سيّما الهويّة الثّقافيّة والقِيَميّة. جزء كبير من الفرنسيّين بدأ يتساءل ومنذ سنوات عديدة: بسبب الهجرة، لا سيّما منها “الإسلاميّة” الطّابع، وبسبب العولَمة طبعاً.. هل بدأنا نخسر “هويّتنا” الحضاريّة؟ هل نحن نخسر “فرنسا” التي نريد؟

لكن، بالطّبع، مقولة “إنّ الإسلام هو المشكلة”، الأكثر تداولاً لدى اليمين الفرنسي والأوروبي، هي طريق سهل للهروب غير الشّجاع من الأسئلة الكامنة وراء اشكاليّة الهويّة هذه. بالمناسبة: ما هي “الهويّة” الفرنسيّة تحديداً؟ هل نحن غَالٌ أم فِرنجة، أم مسيحيّون، أم مسيحيّون “باتوا لطفاء” مع اليهود بعد الحرب العالميّة الثّانية.. أم نحن يونانيّون-رومان؟ أو: هل نحن أوروبيّون، وماذا يعني ذلك بالمناسبة؟ أو: هل نحن ذوو هويّة عالميّة كما يدّعي بعض اليسار؟

فعلاً، وبلا مبالغة تُذكر، بات هذا السّؤال يُقلق عقول وقلوب جزء كبير جدّاً من الفرنسيّين: “من نحن” (أو “ما نحن”) بالمناسبة؟ وأيّ نموذج حضاريّ نُريد (خصوصاً بعد أن دُفعنا دفعاً، بطرق متعدّدة، إلى تجميد أو رفض هويّتنا المسيحيّة.. لا سيّما منها الكاثوليكيّة)؟

عاد الفرنسيّون إلى سؤال الهويّة بشكل دراماتيكيّ إذن، وهو يتضمّن طبعاً – وبالأخصّ – الهويّة الوجوديّة والهويّة الأخلاقيّة والهويّة القِيَميّة. بل إنّني أعتقد شخصيّاً أنّ اشكاليّات هذه الهويّات الأخيرة هي باطنُ باطنِ الاشكاليّات الهويّاتيّة الأخرى. فهناك من قال للفرنسيّين، منذ قرن ونصف تقريباً: حسناً، لم تعودوا “مسيحيّين”! ولكنّه لم يقل لهم تحديداً، وبشكل مُقنع: إذن، من أنتم أو ماذا أمسيتم؟ أو ما معنى كلّ هذا التّطوّر الصّناعيّ والتّقنيّ.. وإلى أين نتّجه في البُعد الإنسانيّ العامّ للسّؤال؟

لو سمع هذا الحوارَ فيلسوفُ الحيّ اللّاتينيّ جان بول سارتر.. لتأثّر كثيراً، وربّما لحزن كثيراً. لأنّ سؤال “الماهيّة” لا يزال يحجب أغلب أهل فرنسا عن كون وجودهم سابقاً على أيّ ماهيّة (وبالتّالي على أيّ “هويّة”). أمّا غابرييل مارسيل؛ فأعتقد أنّه كان ليبتسم، فهو الذي نبّه إلى أهمّيّة ألّا تحجب الماهيّات (ومنها سؤال “ما-هو” و “من-نحن” طبعاً): ألّا تحجبَ عن الوجود الحقّ المتعالِ.. أي عن البُعد الرّوحيّ-الإلهيّ للإنسان. فقد تكون المشكلة في النّهاية كامنةً في سقوط الفلسفات المادّيّة سقوطاً ذريعاً في ما يخصّ الأسئلة الوجوديّة والمصيريّة الكبرى لدى الإنسان.

وقد تكون المشكلة الكبرى كامنةً، على حدّ تعبير مارتن هايدجر هذه المرّة وفي نفس السّياق العامّ: في فشل “عالم التّقنيّة” هذا، الذي نعيش فيه خصوصاً منذ القرن التّاسع عشر.. فشله في تقريب الإنسان من الإجابة على أسئلة “الوجود” أو كيفيّة التّقرّب من هذا الأخير (أو على أسئلة “معنى الحياة” حسب تعبير بعض علماء الاجتماع لمن يُفضّل هذه اللّغة).

ونقول قولَنا هذا دون نسيان فشل الحضارة التّقنيّة هذه في مسألة “السّعادة” طبعاً. فكثيرٌ من الفرنسيّين باتوا مقتنعين، كغيرهم من المواطنين الغربيّين، بأنّ الثّورات الذّهنيّة والتّقنيّة والصّناعيّة والانتاجيّة والماليّة (إلخ..)، وتراكم الثّروات المادّيّة بشكل عامّ.. ليست هي من يأتي حول “المعنى” و”السّعادة” بالخَبَرِ اليقين.

أمّا من يُذكّر أهلَنا الفرنسيّين وغيرَهم بأنّ “الخبر” هذا قد يكون أقرب إليهم من حَبْل الوَريد.. فهذا بحثٌ آخر.

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  الحريري يستشعر "إنقلاباً" وجنبلاط "يتموضع".. والدولار "يُهادِن"!