هوكستين: I am the king of Lebanon

إنها لعبة الوقت. أدمنها أهل السياسة في لبنان وأصابت عدواها أهل الحل والربط خارج بلدنا. وحدهم المواطنون العاديون يمقتون هذه اللعبة. مآسيهم لا تحتمل التأجيل من جريمة القرن ـ سرقة ودائعهم إلى يومياتهم التي تعطيهم الدليل تلو الآخر بأنهم يعيشون زمن الإذلال، بأفضل تعبير مهذب، لكن الأخطر، حالياً، هو قرع طبول الحرب جنوباً.. ماذا عن تلك المخاوف وماذا عن رئاسة الجمهورية المؤجلة؟

عندما إنطلقت اللجنة الخماسية الدولية العربية قبل حوالي السنة، كانت تعبيراً عن رفع منسوب الإهتمام الدولي والإقليمي بالملف اللبناني، ولا سيما ببعده الرئاسي. سجّل الفرنسيون، وقتذاك، أن رئيسهم إيمانويل ماكرون نجح في استدراج السعوديين إلى مرحلة “الأخذ والرد” في الملف اللبناني، بعد إهمال طويل أفسح المجال أن يكون القطريون أول “المتبرعين” بالتدخل على خط الملف الرئاسي، يليهم الفرنسي.. وحتماً الأميركي الحاضر دائماً.. وأبداً.

وعلى مسافة 480 يوماً، ها هو الفراغ الرئاسي يبقى مقيماً في قصر بعبدا، ولا شيء يكسر معادلة الإنسداد الرئاسي. لا الخارج وحده يستطيع حل العقدة ولا الداخل أيضاً. ثمة توليفة تحتاج إلى أدوار خارجية (الثلاثي الأميركي السعودي الإيراني) وداخلية (تفاهم “الثنائي الماروني” مقابل “اللافيتو” من عند “الثنائي الشيعي”). ما عدا ذلك، سيكون من الصعب انتخاب رئيس للجمهورية، وهو مسار قد يمتد من الآن وحتى الإنتخابات النيابية المقبلة، إلا إذا إستيقظنا في يوم ما على تفاهم دولي وإقليمي “وتفضلوا يا شباب عالمجلس لانتخاب الرئيس برفع الأيدي وبالإجماع”.. وهو خيار لا يبدو أنه بالمستطاع في المدى القريب.. وحسناً أن نفتح جبهة إشغال جديدة في مجلس النواب أبطالها نواب “كتلة الإعتدال” الشمالية.

لا يمنع هذا المدخل العام من وضع بعض الخلاصات إستنادا إلى معلومات متعددة المصادر، وذلك على الشكل الآتي:

أولاً؛ اللجنة الخماسية:

لم يبقَ منها شيء سوى أنها تعبير رمزي عن إهتمام دولي وعربي بلبنان لا يتجاوز حدود سفراء هذه الدول في بيروت، حتى الرهان على عقد إجتماعات وزارية أو قمم دولية لأجل لبنان، هو رهان في الفراغ. تصوّروا أن مسؤولاً لبنانياً يُصنّف في خانة “أصدقاء الخماسية” ووثيق الصلة بمراجع دولية لا يتردد في القول إن الخماسية “مجرد كذبة كبيرة”.

فعلياً، صارت الخماسية بحاجة إلى من يُنظّم العلاقات بين أطيافها، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً. زدْ على ذلك أن الصفة التي أعطيت للموفد الفرنسي جان ايف لودريان، بصفته ممثلاً لدول الخماسية، قد سُحبت منه، في إجتماع قصر الصنوبر الأخير. قالتها السفيرة الأميركية ليزا جونسون بالفم الملآن: “نحن لم نفوّض لا لودريان ولا أحد غيره على النطق باسمنا. يستطيع السيد لودريان أن يتحرك بصفته ممثلاً لرئيس فرنسا وليس بأي صفة أخرى (وافقها السفير القطري الرأي ذاته)”.. قبل ذلك بوقت قصير، بلغت مسامع أكثر من مسؤول لبناني رسالة مصدرها الرياض بأن السعودية لم تفوّض قطر التحرك باسمها أو باسم الخماسية.. لم يبقَ في الميدان حائراً إلا سفير مصر الذي يملأ الإعلام موقفاً تلو الآخر، الأمر الذي جعل أحد المسؤولين اللبنانيين يُعلق على مشهدية كفرذبيان الأخيرة بالقول “بيلبقلهم يشتغلوا حفلة علاقات عامة.. ربما يكون ذلك أكثر فائدة لهم.. ولنا”!

هوكستين: “لن أسمح للحرب بأن تحصل في الجبهة اللبنانية ـ الإسرائيلية. فقط أعطوني مهلة شهرين أو ثلاثة أشهر وحتماً سنتوصل لاتفاق ترسيم حدود برية. متطلبات اسرائيل أتفهمها كعسكري سابق خدم في الجيش الإسرائيلي في جنوب لبنان (بلدة برج الملوك).. أيضاً مطالب لبنان، أستطيع تدوير الزوايا بشأنها كما فعلنا مع ترسيم الحدود البحرية في العام 2022”!

ثانياً؛ الموقفان الأميركي والفرنسي:

قيل الكثير عن تطوير مهمة ممثل الرئيس الأميركي آموس هوكستاين، إلى حد تفويضه بالملف اللبناني بكل أبعاده الغازية والحدودية والرئاسية.. وربما يصل به الأمر حد أن يستقبل وفداً من موظفي مصلحة نبع الطاسة في جنوب لبنان يطالبون بتحسين رواتبهم!

ما تبلغه لبنان رسمياً من الأميركيين هو الآتي: أولاً؛ ملف الحدود الجنوبية (البحرية والبرية) بعهدة آموس هوكستاين بصفته ممثلاً للرئيس الأميركي جو بايدن، ما يعني أن هذا الملف بإدارة وإشراف البيت الأبيض. ثانياً؛ الملف السياسي اللبناني (الرئاسي في صلبه) بعهدة وزارة الخارجية الأميركية في واشنطن (باربرا ليف). هذا الأمر أكدته أيضاً السفيرة ليزا جونسون في إجتماع الخماسية الأخير في قصر الصنوبر “منعاً لأي التباس”.

لكن في المقابل، يتصرف هوكستين بوصفه القابض على أمور القرار في بيروت وتل أبيب. هو الملك والرئيس والأمير والموفد والعارف وهو من يأخذ ويعطي. تصوّروا ماذا قال لأحد محدثيه الأوروبيين مؤخراً: I am the king of Lebanon

عندما سأله الديبلوماسي الأوروبي عما يعنيه في تعبيره هذا، أجاب أن كل الموفدين الديبلوماسيين والأمنيين (ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وغيرهم) الذين زاروا بيروت بعد الثامن من تشرين الأول/أكتوبر 2023، تاريخ فتح “جبهة المساندة” في جنوب لبنان، لا يملكون شيئاً من معطيات هذا الملف، “أنا لن أسمح للحرب بأن تحصل في الجبهة اللبنانية ـ الإسرائيلية. فقط أعطوني مهلة شهرين أو ثلاثة أشهر وحتماً سنتوصل لاتفاق ترسيم حدود برية. متطلبات اسرائيل أتفهمها كعسكري سابق خدم في الجيش الإسرائيلي في جنوب لبنان (بلدة برج الملوك).. أيضاً مطالب لبنان، أستطيع تدوير الزوايا بشأنها كما فعلنا مع ترسيم الحدود البحرية في العام 2022”!

إقرأ على موقع 180  إيران و"اللعبة النووية".. "كل شيء أو لا شيء"!

أكثر من ذلك، تبلغ لبنان من الجانب الإسرائيلي، عبر قناة دولية، أن تل أبيب لم تُفوّض أحداً من الأوروبيين.. وأن هوكستين وحده المخول بالتفاوض!

بالنسبة إلى هوكستين، لا يملك الفرنسي أياً من أدوات الضغط على إسرائيل كتلك التي تملكها بلاده (المال والسلاح و”الفيتو” في مجلس الأمن وحاملات الطائرات والآلاف من جنود “المارينز” ممن تحركوا فوراً إلى شرق المتوسط لمساندة إسرائيل).

المقاربة الأميركية لملف الحدود البرية من جهة والتقبل اللبناني والإسرائيلي لها من جهة ثانية، أفضيا إلى شعور فرنسي بالإستفزاز الشديد. زاد الطين بلة تلك الورقة التي قدّمها الفرنسيون للبنان والمكتوبة باللغة الإنكليزية خلافاً لتقليد فرنسي عريق عمره مئات السنين بعدم اعتماد غير اللغة الفرنسية في المراسلات الرسمية. هذه النتيجة استفزت الفرنسيين كثيراً. صار لبنان أسير مقاربتين. أولى؛ فرنسية تقول بوجوب الفصل بين غزة وجنوب لبنان واحتواء الموقف عبر ديبلوماسية استباقية ترسي معادلة جديدة مختلفة عن تلك التي كانت قائمة قبل السابع من تشرين/أكتوبر، وهدفها سحب الذرائع ومنع إندلاع “الحرب الكبرى”. مقاربة ثانية؛ أميركية تقول باستحالة الفصل طالما أن حزب الله قرر أن يُبقي الجنوب اللبناني “جبهة مساندة” وبالتالي ترك الأمور تأخذ مجراها فيرتفع منسوب الضغط والتوتر ويسهل بعدها التوصل إلى حلول في التوقيت المناسب.

وإذا كان هوكستين واثقاً من معطيات اللاحرب، حاله كحال وزير خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان، في زيارته الأخيرة لبيروت، إلا أن الفرنسيين لا يخفون امتعاضهم من الطبقة السياسية اللبنانية ولا سيما “الثنائي الشيعي” الذي ينتقد أميركا ليلاً ونهاراً.. لكنه لا يفتح الباب أمام أي مبادرة خارجية إلا إذا كانت أميركية، وهذا المسار “ربما يبعد الحرب عنكم في لبنان، وعندها سنكون سعداء جداً أما إذا نفذت إسرائيل عدواناً واسعاً ضد بلدكم، فلا يلومن أحد فرنسا بأنها لم تفعل شيئاً لمنعها”، على حد تعبير مصدر ديبلوماسي فرنسي في العاصمة اللبنانية.

ثالثاً؛ نبيه بري:

لا أحد يلعب في ملعب السياسة اللبنانية بمعناها الحقيقي حالياً إلا بري بشراكة كاملة مع الزعيم الدرزي وليد جنبلاط. تعمد رئيس مجلس النواب عندما استقبل سفراء الخماسية أن يُحدّد مواصفات صعبة للرئيس المقبل: أن تكون له حيثيته الوطنية والمارونية ولديه مقبولية دولية وعربية وإقليمية وأن يُعطي ثقة للإقتصاد وأن لا يطعن المقاومة في الظهر. هذا ما يقوله أحد سفراء الخماسية نقلاً عن بري. راح كل واحد من السفراء الخمسة يبحث عمن تنطبق عليه هذه المواصفات، ليتبين أنها يمكن أن تنطبق على كثيرين ولا تنطبق على أحد. تماماً مثل المقابلة التي أجراها الرئيس بري مع الزميل في “الأخبار” نقولا ناصيف وقال فيها “ليس هناك الآن سوى مرشح واحد” هو رئيس تيار المردة سليمان فرنجية. “الباقون إما لم يعودوا موجودين أو لا يريدون الترشح.. الآن أمامنا مرشح هو فرنجية. إذا كانوا موافقين على ترشحه، أدعو إلى جلسة وليذهبوا إليها”. راح سفراء الخماسية يسألون: ما هو المقصود من هذا التصريح؟ هل يريد تشجيع الآخرين على الترشح لإطلاق صافرة المفاوضات وبازار “المرشح الثالث”؟

يتقاطع ذلك مع مبادرة “كتلة الإعتدال” (المرشح الثالث). عندما طرحتها الكتلة على رئيس المجلس، أجاب “أنا لن أدعو.. ولن أترأس”. ترك الباب مفتوحاً أمام المبادرين وأبلغهم أنه سيُسمي نائبين يمثلان كتلته لحضور الجلسة التشاورية. تدحرجت كرة المبادرة. وافق عليها رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل.. ثم رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع وعدد من الكتل على أن تتوج بسلسلة إجتماعات تعقد في اليومين المقبلين، وأبرزها مع كتلة الوفاء للمقاومة التي لطالما كان موقفها المبدئي التجاوب مع الدعوة إلى الحوار لكن إذا صدرت عن رئيس المجلس!

المُتأمَل، حسب أحد سفراء الخماسية، أن تفضي هذه المبادرة إلى ما كانت تصبو إليه لجنتهم، أي توجيه دعوة إلى دورات نيابية مفتوحة حتى إنتخاب رئيس جديد للجمهورية. فهل آن أوان الرئاسة أم أن موسمها الحقيقي لم ينضج حتى الآن؟

يبدو الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله حريصاً في أكثر من مناسبة على تأكيد عدم وجود ترابط بين الإستحقاقين الميداني (جبهة جنوب لبنان ـ غزة) والسياسي (رئاسة الجمهورية)، لكن الوقائع نفسها تشي بأن الفصل صار متعذراً.. وبأن الربط صار مُحكماً، أقله ليس من زاوية الإستثمار وتحقيق المكاسب، لكن من حيث الأوزان والأحجام والقدرة على الإلتزام وتنفيذ هذه الإلتزامات.. في الخلاصة، الرئاسة مؤجلة واحتمالات اللاحرب تتقدم على ما عداها في ضوء الهدنة المرتقبة في غزة وجنوب لبنان قبل بدء شهر رمضان المبارك.. للبحث صلة.

Print Friendly, PDF & Email
حسين أيوب

صحافي لبناني

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  الزر النووي لفلسطين.. غزة!