“شيطَنَة” جان لوك ميلانشون واليسار الفرنسي.. ما هي الأهداف؟

لعقود عديدة ومديدة، كان "الشّيطان" عند أكثر النّخب والاعلام والصّحافة والمثقّفين في فرنسا هو حزب "الجبهة الوطنيّة" (أو "الجبهة القوميّة") بقيادة رمزه اليمينيّ المتشدّد والمُثير للجدل: جان ماري لوبان. وفي ما يُشبه الانقلاب السّياسيّ والاعلاميّ الرّاديكاليّ، انتقلت الشّيطنة هذه: من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، كما يُقال.

صار المتّهمون تاريخيّاً بالفاشيّة وبالعنصريّة وبالفوقيّة وبمعاداة السّاميّة والإسلام معاً: صاروا وعدَ المستقبل وأمَلَه عند كثير من المعلّقين والنّخب والاعلاميّين والصّحافيّين. أمّا الشّيطان، والخَطَر المُحدق بالجمهوريّة وباستقرارها وبمستقبلها، فغدا حزبَ “فرنسا غير الخاضِعة” (أو “فرنسا الأبيّة”، أو “فرنسا الأبيّة على الخضوع”): بقيادة أبي الأحمرِ وابنِهِ وأخِيه، القائد الاشتراكيّ-الشّيوعيّ الثّوريّ جان لوك ميلانشون.

غريبٌ هذا المنظر المستجدّ. بل هو عجيبٌ حقّاً. ولكنّه أيضاً مُثيرٌ للرّيبة وللشّكّ ولعدم الثّقة في هذه النّخب المذكورة آنفاً، خصوصاً بالنّسبة إلى من يحبّ فرنسا والنّموذج الفرنسيّ.. وإلى من يعلم جيّداً من هو جان ماري لوبان، وكيف كانت علاقته مع هذه النّخب (وكيف كانت تتمّ شيطنته تلقائيّاً، حتّى كنت تكاد تتعاطف معه أحياناً لشدّة الأمر ولحدّته!).

فما السّرّ وراء ذلك؟ هل استفاقت “النّخب” هذه فجأة وأدركت أنّ مارين لوبان هي غيرُ أبيها؟ أم صدّقت هذه النّخب فجأة أنّ رئيسة كتلة “التّجمّع الوطنيّ” البرلمانيّة: انقلَبت حقّاً على أفكار أبيها.. أو أنّها قد تابت، أو أنّها قد تعقّلت وتعقلَنَت.. أو أنّها أصبحت “لطيفة” فجأة وسبحان مُغيّر الأحوال؟ ما هذه المهزلة التي يُريدنا البعضُ أن نبلَعها، نحن المواطنين الفرنسيّين أو نحن المراقبين والدّارسين؟

أم أنّ مظهر رئيس “التّجمّع الوطنيّ” الحاليّ قد أعجب بعضَهُنّ وبعضَهم.. فغَدَوا بأهل الفاشيّة القديمة من المُعجَبين؟

فعلاً، ما هذا الهراء المستجدّ! وما هذا الهراء الذي لم يكن ينقصنا حقيقةً، في خضمّ الأزمات المجُتمعة والمتكاثرة في هذا البلد العريق والجميل والحرّ!

هل “بَلَفَ” جوردان بارديلّا الشّابّ جُلَّ النّخب الفرنسيّة فجأة، فنسيَت أصول وجذور “التّجمّع الوطنيّ” ومشروع آل لوبان السّياسيّ؟ يُريدونَنَا أن نُصدّق ذلك حقّاً؟

***

في سبيل تحليل هذا الأمر الفرنسيّ العَجَب، والذي يُشكّل برأيي خطراً حقيقيّاً على الدّيموقراطيّة الفرنسيّة لا سيّما من زاوية تآكل ثقة الفرنسيّين بهذه الأخيرة، خصوصاً من باب الثّقة (الهشّة أصلاً) بعدم التّلاعب بالرّأي العامّ من قبل نُخب أكثرها افسادٌ ولعبٌ بعقول وبقلوب العِباد: في سبيل تحليل هذا الأمر، فلنتوقّف قليلاً عند أهمّ نقاط الاتّهام المُلقاة في وجه الزّعيم اليساريّ جان لوك ميلانشون وحزبه راهناً.

وأقول قولي هذا دون تذكيرٍ للقارئ العزيز بكوني، على المستوى التّاريخيّ الشّخصيّ، من المصوّتين عن قناعة اجتماعيّة واقتصاديّة لأهل الدّيغوليّة الغرّاء وأهل اليمين غير المتشدّدين.. حتّى اضطَرَّتْني هذه المهزلة المستجدّة مؤخّراً إلى التّوجّه طوعاً، بل وَزَحفاً: نحو التّصويت لليساريّين وللماركسيّين والتروتسكيّين وبني الأحمَرِ وبني الأخضَرِ ورفاقِهم أجمَعين.

إذن، ما هي نقاط الاتّهام الأساسيّة المساقة اليوم في إطار ما سمّيناه “شيطنة” ميلانشون وحزب فرنسا غير الخاضعة؟

***

النّقطة الأولى إذن بحسب هؤلاء: هي تشدّد هذا الحزب في ما يخصّ برنامَجَه الاقتصاديّ بشكل عامّ (البعض يتحدّث عن “جنون” اقتصاديّ). فهذا البرنامج، بحسب هذا الاتّهام العامّ أيضاً، اشتراكيّ بل وشيوعيّ راديكاليّ: يعتقد باستغلال الأكثر ثروةً للأقلّ ثروةً كقاعدة عامّة، ويؤمن بأهمّيّة اعادة التّوزيع غير الطّوعيّ من خلال الضّرائب، لا سيّما من خلال الضّرائب العالية جدّاً على الأفراد والمؤسّسات الأكثر ثراءً (والعياذ بالله). وقد يؤدّي ذلك في ما قد يؤدّي إليه إلى ظُلمٍ مبينٍ من جهة، وإلى هروبٍ متسارعٍ لرؤوس الأموال من فرنسا (وبالتّالي إلى تراجع الاقتصاد الفرنسيّ نسبيّاً أو بالمُطلق) من جهة أخرى.

قد يُناقَش هذا الاتّهام أو هذا النّقد على المستوى الاقتصاديّ طبعاً، وقد يكون مُحقّاً في جوانب عدة. لكن المُثير للعجب وللرّيبة هو السّؤال التّالي: هل اكتشفنا فجأةً وجود التّوجّهات الاشتراكيّة والماركسيّة؟ هل علمنا بهذا الوجود مؤخّراً، خصوصاً في بلد كفرنسا؟ بعبارة أخرى: إنّ هذه التّوجّهات وهذه التّيّارات متواجدة وبقوّة في التّاريخ السّياسيّ الفرنسيّ القديم والحديث معاً، ولا يُمكن بالتّالي لهذا الجانب الاقتصاديّ أن يُبرّر لوحده هذا الحجم من الشّيطنة المُركَّزة.

يُمكنكَ أن تُتابع الخطاب السّياسيّ الفرنسيّ خلال العقود الثّلاثة الأخيرة مثلاً: منذ متى تجعل هذه الطّروحات النّموذجيّة والمتوقّعة اليسارَ الرّاديكاليَّ هو الخطر الأوّل على الجمهوريّة وعلى مستقبلها (خصوصاً بعد سقوط الخطر السّوفياتيّ المُبين)؟

من الواضح أنّ جوهرَ القضيّة في مكان آخر..

***

الصّنف الثّاني من الحجج المُساقة في سبيل تبرير حملة الشّيطنة الممنهَجة هذه: يتعلّق بخطاب ميلانشون وحزبه.. الحادّ تجاه الخصوم الدّاخليّين. وقد يَعتقد أو يُعلن البعض أنّه حادٌّ لدرجة اعتباره تحريضيّاً.. بل وفتنويّاً وتقسيميّاً. وقد تصاعد الحديث حول هذا الجانب انطلاقاً من الطّريقة الهجوميّة الحادّة لأهل ميلانشون واخوانه في مخاطبة الآخرين، وخصوصاً من خلال “استعراضات” هجوميّة متعدّدة داخل البرلمان الفرنسيّ مثلاً.

يُمكننا الحديث إذن عن:

(١) أسلوب ميلاشونيّ، يمكن وصفه بالاستعراضيّ-الهجوميّ-الحادّ، من جهة؛

(٢) مضمون خطاب سياسيّ ميلانشونيّ يُمكن اعتباره قاسياً وقاسياً جدّاً، من جهة ثانية.

لكن، صراحةً: هل يكفي ذلك لتبرير هذه الحملة المدروسة أو شبه المدروسة والمنسّقة؟ بالطّبع لا، هنا أيضاً، لسببٍ بسيطٍ ووجيهٍ معاً: إنّهما طريقةُ ونوعُ خطابِ كثير من الاشتراكيّين والشّيوعيّين الثوريّين.. وفي فرنسا تحديداً. هل اكتشف البعض فجأة هذه الطّريقة وهذا النّوع من الخطاب عند بني الأحمر واليساريّين؟

إقرأ على موقع 180  قليل من الكحول في سياسة بايدن تجاه أوروبا والعالم

هل إنّنا نكتشف تاريخ فرنسا السّياسيّ اليوم؟ ألم نسمع، مثلاً، بالقياديّ الشّيوعيّ السّابق جورج مارشيه.. أو بالقائد التروتسكيّ الفرنسيّ العالميّ بيار بوسيل (الملقّب ببيار لامبيرت)؟ ألم نسمع بانتفاضة أيّار/مايو 1968 وبطُرُقها وبأنواع الخطاب الذي استخدمته؟

مُجدّداً، نرى أنّ جوهرَ القضيّة يتواجدُ في مكان آخر على الأرجح..

***

قد يُبالغ البعض في عددٍ من الجوانب الاقتصاديّة الأخرى الجزئيّة. وقد يُبالغ آخرون في مسألة التّحريض والتّفرقة والخطاب التّحريضيّ. وقد يرفع آخرون أيضاً شعار التّنبّه إلى الخطر الشّيوعيّ الماركسيّ الدّاهم.. أو إلى خطر خسارة المُلكيّة الخاصّة، أو إلى خطر الفوضى العارمة القادمة على ظهر الخيول الماركسيّة واللّينينيّة والتّروتسكيّة واللّامبرتيّة وما إلى ذلك.

وقد يتطرّق بعضهم أيضاً إلى مسألة الدّعم العلنيّ أو الضّمنيّ من قبل ميلانشون لبعض النّماذج الدّيكتاتوريّة (روبيسبيار، ماو تسي تونغ، ستالين إلخ.) والاعجاب بها.. منادياً بصدّ هذا الخطر الدّاهم على الدّيموقراطيّة وعلى الحرّيّات الفرديّة.

وقد يُشدّد بعضهم على أنانيّة أبي الأحمَر الفرنسيّ وطريقته الفردانيّة في إدارة الحزب (ويبدو أنّ هذا النّوع من النّقد يتصاعد بين الحين والآخر). وقد يُذكّر أحدهم بعداء الرّجل لنفوذ الحليف الأمريكيّ داخل اللّعبة السّياسيّة والاقتصاديّة الفرنسيّة، أو بعدائه للنّاتو ولمشاريعه حول العالم..

كلّها أسباب قد تبدو قابلةً للنّقاش في الظّاهر كما رأينا، ولكنّ الواضح أنّها لا تكفي مُتفرّقةً ولا مُجتمعةً لتبرير هذه “الشّيطنة” الممنهجة لميلانشون ولحزب “فرنسا الأبيّة” في الآونة الأخيرة.. وصولاً إلى اللّعب على وتر خطير جدّاً داخل فرنسا، وهو وتر اتّهام القوم بدعم موجة مُعاداة للسّاميّة في البلد! والأنكى أن يستعمل رموزُ اليمين المتطرّف هذه الحجّة الخطيرة! فسبحان الله!

***

ما هو السّبب الحقيقيّ والجوهريّ وراء هذه الحملة إذن، هذه الحملة المدروسة جيّداً والمنسّقة على الأرجح؟

أعتقد أنّ أبا الأحمرِ الفرنسيَّ قد مسّ بمُحرّمتَين أساسيَّتَين في نظر النّخبة-الأقليّة التي تمسك عمليّاً بأغلب مفاصل اللّعب السّياسيّة والاقتصاديّة والاعلاميّة والثّقافيّة والاكاديميّة-التّربويّة في فرنسا.

المُحرّمة الأولى؛ هي مساعدته لبعض الأقلّيّات الشّعبيّة من المواطنين من ذوي الأصول المهاجرة بشكل خاصّ، على الإحساس بقوّة سياسيّة ما.. وربّما بهويّة سياسيّة ما، أو بتأثير سياسيّ مُحتمل ما. وهذا ما لا يجوز بتاتاً عند البعض من حرّاس الهيكل القائم: لأنّ الوهمَ الذي يعيشُ فيه هؤلاء لا يزال موجوداً، وهو وهم “الادماج” الكلّيّ والقسريّ. ممنوعٌ على هذا النّوع من الأقلّيّات أن يحسّ بأيّ تمايز هويّاتيّ من أيّ نوعٍ كان: على الجميع أن يُصبحوا “فرنسيّين مثلَنا” تماماً.. ولو بالقوّة! هذه العقيدة المجنونة السّائدة عند البعض من أهل النّخبة الواهمين في فرنسا تُفسّر جانباً مهمّاً من استشعار أكثر هؤلاء برأيي: للخطر الحقيقيّ، في نظرهم، من وراء ظاهرة ميلانشون وحزبه.

المُحرّمة الثّانية؛ هو استخدام ميلانشون وحزبه مؤخَّراً للقضيّة الفلسطينيّة كشعار، وكرمز لرفض الخضوع والاستسلام للرّأسماليّة ولمشاريعها الاستعماريّة والاستغلاليّة حول العالم. القضيّة الفلسطينيّة؟ يا لطيفُ الطُف بنا! كيف يتجرّأ أبو الأحمرِ على رفع هذا الشّعار واستعمال هذا الرّمز؟

ألا يعرف رُهابَنا الجماعيَّ النّابعَ من عقدة ذنبنا اللّا-واعية والواعية: في ما يخصّ جرائم ومجازر الحرب العالميّة الثّانية.. لا سيّما بحقّ مواطنينا المنتَمين إلى الدّين اليهوديّ؟ كيف تجرُؤُ يا ميلانشون؟

بَدَلاً من أن يدعوَ هؤلاء إلى عدم الخلط بين قضيّة الظّلم الذي تعرّض له المواطنون اليهود في أوروبا وعلى يد ظَلَمة أوروبيّين ومسيحيّين في الغالب (لا على يد فلسطينيّين، أو عرب، أو مسلمين، أو أفارقة، أو آسيويّين-شرقيّين إلخ.)، وبين قضيّة حقوق الشّعب الفلسطينيّ.. فَهُم يُغرقون أنفسَهم كالنّعام في بحر عُقدهم النّفسيّة ومشاكلهم الذّهنيّة. وخصوصاً: يُغرقون السّياسة الفرنسيّة في جوّ مَرَضيّ، ويُعرّضون الدّيموقراطيّة للخطر عمليّاً.

كيف تستوي الدّيموقراطيّة وتستمرّ وتتطوّر.. والبعضُ لا يزال يستخدم هذه الأساليب “تحت الحزام”، مع الهروب من النّقاش الحضاريّ الحقيقيّ والعميق والحلّال للمشاكل؟ بمعزل عن تأييدك أو معارضتك لأبي الأحمَرِ وحزبِه، وهذا بحثٌ آخر كما رأينا: لا بدّ من توقّفك كفرنسيّ وكمحبّ لفرنسا، مليّاً، أمام هذه الظّاهرة “التّكفيريّة” السّياسيّة الخطيرة إن جازَ التّعبير.

ولا شكّ عندي في أنّ الأيّام القليلة القادمة ستأتي لنا بالمزيد حول هذه القضيّة النّموذجيّة التي تعني مصداقيّة وحقيقة ومستقبل العمليّة الدّيموقراطيّة في فرنسا وفي الدّول الغربيّة بشكل عامّ.

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  رفح تختبر حدود صبر بايدن على إبتزازه إسرائيلياً.. "عالمكشوف"!