عزة طويل في حكايتها الأولى.. نوفيلا، سينوغرافيا، ورائحة كلمات

تمتلك عزة طويل قدرة فريدة على نسج عوالم جديدة وإحياء شخوص روايتها بمهارة تجعل القارئ يشعر وكأنه يعيش داخل نصها لا بل يكون أحياناً شريك الكاتبة، قصصاً، فكرةً، أسئلةً، وعوالم نفسية.

تسعى عزة من خلال “لا شيء أسود بالكامل” إلى طرح أسئلة عميقة تتعلق بالحياة والوجود. تكتب بأسلوب ذكي وسلس وجذّاب؛ يُخاطب القارىء بلا خطابية؛ يتحدى القارىء ولكن لا يُنفّره بل يجعله أكثر حماسة للقراءة حتى آخر صفحة. تجيد استخدام اللغة أداة تعبيرية، وتعرف كيف توظف الكلمات لبناء توتر درامي أو خلق مشاهد سينوغرافية ساحرة تأسر الخيال. لم يكن مجرد سرد جاف إخباري فقد روت قصصًا تترك أثرًا في نفوس قرائها. الكتابةُ عندها حقاً وسيلة فعل ضدّ النسيان وربما لأجل الشفاء ونبش الراسخ في عمق الأعماق.

هذا ما يقوله الكاتب الإسباني خافيير سانتيسو وما يقوله النفسانيون بأن الكتابة سبيلٌ للعلاج من كل ما تضيق به النفس. وما بين النسيان والتذكر ثمة أدب رفيع يندسّ في كتاب “لا شيء أسود بالكامل”، وهو الأول للمؤلفة. أدبٌ نجده من العنوان حتى الخاتمة الخارجة عن المألوف والمفتوحة على مشروع رواية جديدة.

رواية النوفيلا هي نوع أدبي يقع بين القصة القصيرة والرواية الطويلة، يجمع بين تكثيف السرد وعمق الشخصيات. تعتبر النوفيلا شكلاً من أشكال الأدب الذي يُتيح للكاتب فرصة لاستكشاف أفكار معقدة وحبكات متعددة وحالات متناقضة من دون الاسترسال المفرط.

“لا شيء أسود بالكامل” لعزة طويل مثالٌّ حيٌّ لروح وإيقاع هذا العصر السريع؛ بعمقٍ واعٍ للأحداث والشخصيات ونقاط التقاطع المفصلية ما بين أُمّين: أمها وحماتها. ما بين بلدين: لبنان وسوريا تُظلّلهما الحروب المتتالية على هذه البقعة الحزينة من هذا الشرق. أما فيما يخصّ النصّ الكثيف فهو اشتغال حساسّ بلغةٌ مرهفة جداً.

لم تُفاجئني عزة طويل في نشر روايتها الأولى، فنصوصها المنشورة في مواقع إلكترونية وصحف ومجلات عربية عدة كانت تنبىء بذلك. الأجمل أن هذه الفتاة أدمنت قراءة النصوص من خلال تجربتها في عالم دور النشر، ولكنها لم تكن قارئة عادية، بل تقرأ بروح النقد، بما يُوفّر فرصة تُشجّع الكاتب إن أصاب وتترك للقارىء أن يقرأ فتكون الإصابة مزدوجة ومرضية لهذا الثلاثي الإلزامي.

وما أن تُمسك الصفحات الأولى من الرواية حتى يساورك شك في أنها الرواية الأولى للكاتبة. هناك حرفة خفية وثقة عالية قد يكون مردها جينياً. فالراوية هي إبنة الكاتبة المحترفة يسرى مقدم التي أهدتها الرواية.

أعرف الرواية الجيدة من رائحتها. لقد دلّكت أنفي رائحة الأبنية المتداعية المتزوجة بروائح الحبّ الهارب من غرف النوم السعيدة إلى فضاءات حرة وغريبة.

في نوفيلاها، تحكي عزةّ قصة الموت كجزء أصيل من الحياة؛ وجه الموت الآخر بمعزل عما يُخبرنا به الدينيون. لم تخلُ قصصها من إمرأة تعاني في تحررها وإمرأة تعاني في استسلامها. الإثنتان تعانيان في تقاطعات غريبة من التعب حتى النخاع.

لا أطراف حادّة ولا زوايا جارحة في رواية عزة. ثمة سلاسة في السرد المتين ما يجعلك تعتقد أنها كتبت خلال قرن عن الموت الذي تصالحت معه وأعدّت أواصر الحب والمودة بين بيوته الأرضية وما المقابر إلا منازل مؤقتة لأجساد تكدّست فوق أجساد.

في الرواية تتناول عزة قصصاً تحدث على أطراف الحياة وعلى حافة موت الأشياء. موت الحب وموت ثمرته كالإجهاض. في الحرب يكون الموت عادياً لذا كل شيء يحدث على أطرافها إنما يحدث بغرابة. ثمة ولع بالأماكن المتداعية، شواهد حيّة على الخراب الداخلي وإهتراء البلد.

هناك من يُحبّ الغوص في فضاء المقابر وتاريخها. وتنشق رائحة الموت الكامن فيه والتصالح معه. الحبّ في الحرب يتخذ شكلاً متطرفاً مكانه تحت السماء في العراء المطلق أو في خرابة وسط عمارة بالغة الزخرفة والزيف.

في رواية عزة وجدتُ كل ما يُمكن لإمرأة مثلي أن تكتبه في روايتها الأولى.

ما أجمل مخاطبة “البطلة” لوالدتها: “في المقهى حيث جلسنا، كان البحر وحده قبالتنا. نظرت أمي حولها. حاولت البحث عن حائط تلجأ إليه لتنظفه وتشطفه وتركن إليه هربا من أسئلتي. تحسب أنها ستتمكن من استخدام سحرها على الحائط لتمحو كل آثار الألم”.

لا شيء يشبه لبنان وسوريا والحرب فيهما أكثر من عمارات آيلة إلى السقوط يقصدها عاشقون لممارسة طقوس العيش مثل ممارسة الحب والإستماع إلى الموسيقى والتدخين بنهم، فاللذة وسط الخراب تعطي سعادة مضاعفة.

وحسناً أن اختارت عزة لغلاف الصفحة الأخيرة هذا المقطع الراسخ:

“المقابر هي الفناءات الخلفية للحياة. حصون الذاكرة التي يختفي خلفها الأحباء.. تملّصوا كالزئبق من بين أيدي شخصيات الرواية، لكنهم ظلّوا مسكونين بهم. يتفقدونهم كل ليلة. يطلون عليهم من كوى الرواية بحذر. مسترجعين معهم شذرات من أعمارهم. ولحظات من الضوء، لا يخفت ضوؤها في الغياب. فهؤلاء هم الغيّاب الحاضرون من منحوهم رصيداً من النور يُضيء ما تبقى من أعمارهم”.

وسيرة المقابر هي سيرة فردية وجماعية. سيرة أحبة نفتقدهم وسيرة جماعات تتعرض للإبادة مثلما حصل في صبرا وشاتيلا اليوم الذي وُلدت فيه عزة طويل. يأخذنا نصها إلى حيث لا يُمكن أن تغيب:

إقرأ على موقع 180  "حليم".. العندليب الناصري الأسمر

“أتعلمين يا أمي أن أطفال فلسطين تساورهم الأحلام المرعبة بكثافةٍ أكبر بكثيرٍ مقارنةً مع باقي الأطفال؟ هي لعبةٌ من ألعاب الدماغ البشري، هي غريزة البقاء يا أمي، غريزة الحركة. إنه العنف مجدّداً متشبّثاً بسينوغرافيا الحياة”.

وكم أبهرتني الخاتمة السينمائية: “لقد كان هذا مقطعاً من سوناتا لم يكملها الموسيقي خوفاً من لعنة ما”.

كما لم يكتمل جنين نور كما لا شي كاملاً في الحياة كما “لا شيء أسود بالكامل” فعلاً.

(*) عزّة طويل؛ كاتبة لبنانية مقيمة في كندا. حائزة دكتوراه في إدارة الأعمال من غرونوبل في فرنسا. تعمل في مجال النشر، تولّتْ إصدار وتوزيع مؤلّفاتٍ لكتّاب عالميين وعرب ولبنانيين. لها العديد من المقالات الأدبية والاجتماعية في مواقع وصحف ومجلات عربية. «لا شيء أسود بالكامل» هي روايتها الأولى (112 صفحة و22 فصلاً)؛ صادرة عن دار نوفل (هاشيت انطوان).

Print Friendly, PDF & Email
أغنار عواضة

كاتبة وشاعرة لبنانية

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  العراق مُهدد بوحدته.. مع إنهيار بيئته وموارده المائية