إيران لا ترد.. إيران ترد!

قد يكون أسهل الخيارات في تفسير ما حدث ويحدث وسيحدث، وخصوصاً عند الجمهور المخاصم لإيران، هو الحديث عن عدم قدرتها على الدخول في مواجهة شاملة مع كيان يقف خلفه الغرب برمته، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، لكن نظرة متأنية قد تفتح أبواب تحليل أخرى!

في عالم السياسة، تُقرأ القرارات المتأخرة بلغة تتجاوز الحدث نفسه؛ لغةٌ تتسم بالشك والحذر والترقب، وفي كثير من الأحيان، محاولة لحفظ ماء الوجه أو لتجنب الوقوع في فخ العدو. يبدو أن هذا هو الحال مع الرد الإيراني المرتقب على عملية اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية على أرض طهران.

ووفقاً لعدد من الخبراء، تعاملت إيران بشكل سريع ومباشر – ورمزي – عبر إطلاقها سرباً من الطائرات المُسيّرة في عملية “الوعد الصادق”، في ليل 13 – 14 نيسان/أبريل الماضي، رداً على  الاستهداف الإسرائيلي للقنصلية الإيرانية في دمشق.

في المقابل، مع استهداف إسرائيل شخصية مهمة وحليفة لطهران، وفي عقر دار المحور (قلب طهران)، تكتفي إيران طوال ثلاثة أسابيع بالتلويح بالرد، من دون أن تُقدّم تفسيراً مُقنعاً للتأخير حتى لجمهورها، برغم القول إن ذلك يترافق مع محاولات منها ومن حلفائها لاستعراض قدراتهم العسكرية، من دون استخدامها، كجزء من محاولة الردع والحرب النفسية والإعلامية ضد الخصم.

نعم، لم يكن اغتيال إسماعيل هنية هو الحدث الأول من نوعه الذي يستهدف شخصيات مرتبطة بإيران. فقد سبقته سلسلة من الاغتيالات بهدف تقويض النفوذ الإيراني في المنطقة، كان أبرزها اغتيال الجنرال قاسم سليماني في مطلع العام 2020 قرب مطار بغداد، لكن اغتيال هنية في توقيته وجغرافيته يُشكّل إحراجاً كبيراً لإيران ويضفي طبقة جديدة من التعقيد على الصراع بين إيران وإسرائيل، فالأولى تواجه اليوم معضلة استراتيجية في كيفية الرد على استهداف أحد أبرز رموز المقاومة الفلسطينية على أراضيها من جهة وقدرة إسرائيل على اختراق عمقها الأمني والاستخباراتي بعد ساعات قليلة من تنصيب الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان من جهة أخرى، مما وضع القيادة الإيرانية في موقف محرج على الصعيدين الداخلي والخارجي. يُثير هذا التأخير في الرد العديد من التساؤلات: لماذا تأخرت إيران في ردّها؟ هل تريد القول إنها هي من تختار التوقيت وليس الإسرائيلي من يفرض التوقيت عليها؟ هل تريد أن تسعى للحصول على مشروعية ما للرد، خصوصاً في ضوء حرصها على صدور بيان منظمة التعاون الإسلامي من جدة الذي اتهم إسرائيل باغتيال هنية؟ وإذا كانت إيران تريد لردها أن لا يُعطي مُبرراً لإسرائيل لإطلاق شرارة الحرب الإقليمية، فمتى تحين “اللحظة المناسبة”، حسب التوقيت الإيراني؟ وهل فعلاً تنتظر إيران الإعلان عن فشل آخر محاولة للوسطاء الأمريكي والقطري والمصري لوقف النار في غزة قبل أن يصدر القرار السياسي بالرد وبالتالي يبقى للميدان أن يُحدّد الموعد والهدف أم أن التأخير يهدف إلى تحقيق مكاسب اقتصادية أو سياسية، مقابل الالتزام بعدم الرد؟

من الواضح أنه كلما طال الانتظار، إزداد الوضع تعقيداً، واتسعت دائرة التحليلات، ليصبح المشهد أشبه بلعبة عض أصابع بين طهران وتل أبيب. إيران تسعى لتجنب الوقوع في الفخ الذي ينصبه بنيامين نتنياهو، الطامح إلى دفع الولايات المتحدة إلى مواجهة عسكرية مباشرة مع إيران يسعى إليها منذ حوالي العقدين من الزمن، ولم يكن خطابه أمام الكونغرس مؤخراً إلا خير تعبير عن رغبته المعلنة، وهو الأمر الذي من شأنه أن يجعل الحرب تتجاوز الحيز الجغرافي الحالي (غزة وجبهات الإسناد في البحر الأحمر وجنوب لبنان) وبالتالي يؤدي قرع طبول الحرب إلى إسكات كل معارضة في الداخل الإسرائيلي، وتصبح الحرب في غزة والمجازر التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي خبراً ثانوياً في سياقات ما تسمى “الحرب الكبرى”. كل ذلك يخدم مصلحة نتنياهو بالبقاء في السلطة ويُبعد عنه شبح المحاكمة التي تنتظره. يعني ذلك في ما يعنيه أن إيران اليوم في موقف لا تُحسد عليه. فهي تدرك مأزق التراجع عن الرد، الأمر الذي قد يجعلها تبدو ضعيفة أمام حلفائها قبل خصومها ويُخيّب آمال التيار المتشدد في إيران الذي طالب منذ اللحظة الأولى بالرد على إسرائيل بقوة. وتدرك أيضاً أن الدخول في مواجهة مع إسرائيل يعني الانجرار إلى ما يشتهيه نتنياهو نفسه.. لا بل أكثر من ذلك، يُمكن أن يؤدي ذلك إلى تدمير كل ما راكمته إيران من قدرات على مدى 45 سنة من لحظة إنتصار الثورة الخمينية حتى يومنا هذا.

وقد يكون الأمر بين بين. إذ قد يعكس التأخير في الرد استراتيجية مدروسة تسعى لتحقيق أقصى تأثير بأقل خسائر، وجزء من تكتيك إيران العسكري لاختيار أفضل توقيت ومكان للرد. هذا الانتظار قد يساعدها أيضًا في تجنب استفزازات إسرائيلية مستقبلية مباشرة واستخدامها بما يخدم تطلعاتها السياسية والاقتصادية في المنطقة.

سيناريوهات الرد

يظل الرد الإيراني على اغتيال إسماعيل هنية يُمثّل تحدياً كبيراً لإيران، بخاصة أن دبلوماسيتها تتسم بالصبر الاستراتيجي الطويل المدى. مع ذلك، من المرجح أن تختار إيران الرد بطريقة توازن بين الحزم والحذر، مستفيدة من تعقيدات المشهد السياسي الإقليمي والدولي، مما قد يمنحها فرصة لتحقيق مكاسب من دون الدخول في مواجهة مباشرة قد تكون مكلفة للغاية على المدى الطويل وبما يحفظ مكانتها ونفوذها في المنطقة وبالتالي إعادة تشكيل استراتيجيات الطرفين في معادلات المنطقة.

إقرأ على موقع 180  عن يوتوبيا العروبة.. وإنكار الهزيمة!

إذاً يبقى السؤال الأهم: هل سترد إيران بالفعل وما هي طبيعة الرد المتوقع؟

  • الرد العسكري المباشر على إسرائيل: هذا الرد هو الأكثر ترجيحاً ولكنه سيكون رداً غير تصعيدي، إذ أن وظيفته هي تثبيت معادلة ردعية تمنع إسرائيل من استهداف الجغرافية البرية الإيرانية، كما فعلت مع اغتيال هنية، وهو ثاني أكبر اعتداء بري بعد احتلال العراق لأراض إيرانية في خضم الحرب العراقية الإيرانية (1980 – 1988). هذا الرد، إن حصل، عليه أن يأخذ بالاعتبار احتمال التدحرج وتوسيع نطاق الحرب الذي سيكون مكلفًا للغاية لإيران من الناحية الاقتصادية.. هذا السيناريو هو الأكثر واقعية بضوابطه الإيرانية من جهة والأمريكية من جهة ثانية (لطالما أعلنت وتشنطن أنها تسعى بكل امكاناتها لمنع الحرب الكبرى). هذا الرد قد يبدو الأكثر ملاءمة لإيران والولايات المتحدة في آن، بشرط اندراجه في سياق لا يبدو بعيداً جداً عن رد منتصف نيسان/أبريل الماضي.
  • الرد غير المباشر عبر الأذرعة: وهو أن تختار إيران الرد عبر أذرعتها أو حلفائها في “محور المقاومة” وقد يطال الإستهداف العمق الإسرائيلي أو القواعد الأمريكية في العراق وسوريا، وهذا السيناريو يتيح لإيران الحفاظ على ماء الوجه من دون الدخول في مواجهة مباشرة قد تكون لها تداعيات كارثية.
  • الرد بالهجمات السيبرانية: (رد غير تقليدي) إذا قرّرت إيران خياراً يؤدي إلى إلحاق الضرر بما يحفظ ماء وجهها من دون تصعيد كبير، قد تلجأ إلى شن هجمات سيبرانية. هذا الخيار قد يضع ضغوطًا على الحكومة الإسرائيلية من دون الحاجة إلى استخدام القوة العسكرية التقليدية. وبرغم أن القدرات السيبرانية لإيران قد لا تكون متطورة بقدر تلك التي تمتلكها إسرائيل، إلا أنها قد تكون قادرة، بمساعدة حلفائها في المنطقة، على تنفيذ هجمات تخريبية تستهدف الثغرات السيبرانية في البنية التحتية والطاقة، وحتى الأنظمة العسكرية والاقتصادية.
  • سيناريو مُركّب (رد محدود وصفقة سياسية): السيناريو الأكثر توازنًا هو أن تجمع إيران بين رد غير مباشر عبر أذرعتها، وبين السعي لعقد صفقة سياسية تمنحها مكاسب إقليمية. هذا السيناريو يتيح لإيران الرد على إسرائيل بشكل ينسجم مع مصالح القوى الدولية، وبخاصة الولايات المتحدة. كما أن هذا السيناريو قد يسرع من الوصول إلى صفقة سياسية تشمل إيران كطرف فاعل في المنطقة، مما يعيد التوازن إلى العلاقات الإقليمية والدولية.

في معادلة الصراع بين إيران وإسرائيل، تقف أمريكا في الوسط، ومن حول الثلاثة عددٌ كبيرٌ من اللاعبين الإقليميين والدوليين. صحيح أن الوقت يُمثّل تحدياً كبيراً للجميع، ولو بحسابات مختلفة، إلا أن الأساس عند الإيرانيين هو حفظ النظام بينما أولوية إسرائيل توجيه ضربة لإيران تؤدي إلى تدمير برنامجها النووي وإعادته عقوداً من الزمن إلى الوراء. هل هناك من قرّر أن يسير على حافة الهاوية ومن يضمن عدم بلوغه الهاوية؟

لننتظر ونرَ.

Print Friendly, PDF & Email
ندى أسود وناز حمي

باحثاتان واستشاريتان في الشأن المدني السوري، سوريا

Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  عن يوتوبيا العروبة.. وإنكار الهزيمة!