“نكسة 1967 السيبرانية- الأمنية”.. ليست قدراً

الكثيرون شبّهوا الانتصارات السيبرانية - الأمنية الإسرائيلية في لبنان بنكسات حرب 1967 التي حسمت فيها تل أبيب مصير الحرب ضد ثلاثة جيوش وأنظمة عربية خلال ستة أيام (أيضاً عبر الحرب الاستخبارية - الأمنية أساساً) وغيّرت وجه الصراع (آنذاك) في إقليم المشرق المتوسطي.

في هذا التشبيه قدر كبير من الصحة. فكما اعترف الشهيد السيد حسن نصرالله، كان الهجوم السيبراني – الاستخباري الإسرائيلي ناجحاً للغاية وقوياً للغاية، ما سهّل كثيراً دقة الغارات الجوية على المواقع والمخازن الحربية للمقاومة.

قد لا يكون الآن وقت التدقيق والتقييم والمساءلة لكل ما جرى. فالحرب الإسرائيلية ما تزال مشتعلة بقوة، وهي مُعزّزة إلى حد كبير (كما يتجلى الآن بوضوح شديد) بالدعم والمشاركة الأميركية اللوجستية والمعلوماتية الكثيفة بها. كما أن المخاطر ما تزال كبيرة وتلاحقنا في كل خطوة نقوم بها، سواء عبر عيون الأقمار الإصطناعية و”الدرونز” في السماء، أو من خلال شبكة العسس والجواسيس الإسرائيليين الكثيفة على الأرض.

لكن، ثمة خلاصتان مترابطتان لما جرى ويجري يمكن طرحهما الآن على بساط التفكّر والتدقيق:

الأولى؛ أن الحرب الكلاسيكية التي عرفناها على مدى عشرة آلاف سنة من عمر الحضارة البشرية، باتت تحث الخطى سريعاً إلى رفوف التاريخ المُغبرة: فمكان الجندي الشجاع تحل الآن المُسيّرة الإلكترونية ليس فقط الشجاعة بل أيضاً الانتحارية. فالذكاء الإصطناعي العسكري بدأ يُحيل الذكاء البشري العسكري إلى التقاعد المُبكر، ويتقدّم بخطى ثابتة نحو الإمساك بكل مغاليق ومفاتيح مفهوم الحرب في القرن الحادي والعشرين (بما في ذلك منصات الصواريخ النووية، حروب الجينات والحروب الإلكترونية).

وبدلاً من الحروب الإيديولوجية، وعلى الرغم من الأهمية القصوى التي سترتديها هذه في القرن الحالي في “الصراع الوجودي” بين المادية الميكانيكية المطلقة المجردة من أثمن انجازات البشرية (الضمير والمحبة والسلام) وبين الروحانية (بمعنى وحدة الوجود) والإيكولوجيا والحكمة والتراحم، ينتصب الآن بدلاً منها جنرالات الحرب المعلوماتية – السيبرانية الجديدة التي ستُمهد لنشوء أخطر ديكتاتورية عنصرية بيولوجية – ميكانيكية في التاريخ.

1967 السيبرانية ليست قدراً، كما أن 1967 العربية لم تكن هي الأخرى قدراً لا مفر منه، كما دلّت على ذلك حرب 1973 ثم كل سلسلة الحروب المتصلة التي خاضتها شعوب المنطقة، هذه المرة، ضد التحالف الصهيوني- التكنو رأسمالي المتعولم

كتبت “فورين أفيرز” في تموز/آب 2018 الآتي: “الارهاب الجهادي سيصبح قريباً ضحية الذكاء الإصطناعي. فالمُسيّرات الخرساء المتزاوجة مع الآلات المُحلّلة التي تحشد معلومات سيبرانية كاسحة، ستطرح الجماعات جانباً. وحين تصبح المُسيّرات أكثر قدرة وبرامج التوجيه فيها أذكى، لن تتسنى لأي منظمة لديها تكنولوجيا منحفضة فرصة للبقاء”.

أضافت: “عموماً، الحروب نفسها ستصبح بقيادة الآلات. أما حاملات الطائرات وصواريخ الكروز فستتنحى جانباً لمصلحة الحروب السيبرانية. والدول التي لا تمتلك الذكاء الإصطناعي ستعرف أن لا فرصة لديها للفوز، هذا في حين أن الأطراف التي لديها قدرات ذكاء اصطناعي متفوّقة ستحصل على كل ما تريد”.

بالطبع، القوى التي تمسك الآن بتلابيب ثورة المعلومات، ومن بينها إسرائيل التي تحط فيها منذ عقود شركات التكنولوجيا المتطورة، الأميركية والغربية، لها الآن بالفعل اليد العليا في ساحات الحرب، من جبال ناغورنو كارباخ إلى سهول أوكرانيا وروسيا وصولاً الآن إلى لبنان وإيران، وربما قريباً في الباسيفيك ومناطق بحر الصين الجنوبي.

بيد أن هذا الاحتكار لا يتمتع قط بطول العمر. إذ أن السمة الأساسية لثورة المعلومات هي القدرة الهائلة لأدواتها على الانتقال من يد إلى يد بسرعة الضوء، ومعها تدهور الأكلاف المالية لصنعها. فـ”الدرونز” الذي كلّف صنعه في البداية عشرات ملايين الدولارات، قد يُباع بعد حين بعشرات ومئات الدولارات. والمطرب الذي يصنع شريطاً مصوراً لأغنيته بكلفة مائة ألف دولار، سيجد “سي. دي” هذه الأغنية يباع في الطرقات بدولار واحد. وقُلْ الأمر نفسه عما تنتجه الآن المختبرات البيولوجية والإلكترونية من منتجات باهظة التكلفة في البداية. إنه قانون النمو المضطرد والمتسارع (Exponential growth) الذي يعتقد الفيلسوف بيتر راسل أنه سيختم بالفعل بالشمع الأحمر مصير الجنس البشري برمته عبر دفعه إلى الإنقراض.

ماذا يعني كل ذلك؟

هذا السؤال يقودنا إلى الحصيلة الثانية:

أجل. طبيعة ثورة المعلومات والاتصالات تُسقط أي محاولة لاحتكارها. وكما أن الالكترون، كما دلّت فيزياء الكم، يرفض بشكل عنيف أي محاولة لحصره في حيّز ضيّق واحد، كذلك المعلومة تتمرّد على أي جهد لجعلها حصرية أو ملكية خاصة.

لقد إنتصر كارل ماركس وهو في قبره على الملكية الخاصة الرأسمالية. وما يجري الآن، كما يقول المفكر البريطاني بول ماسون (Paul Mason)، هو دخول البشرية في مرحلة ما بعد الرأسمالية.

لقد فصّل ماسون في كتابه (post capitalism) الصادر عام 2015 كيف تنتصب ثورة المعلومات كنقيض تام للرأسمالية، فيقول: “الرأسمالية هي نظام تأقلمي معقد وصل إلى حدود قدرته على هذا التأقلم. والآن، أشكال أخرى من الملكية تبرز. إن ثورة المعلومات والأتمتة اللتين توقعهما كارل ماركس في العام 1858 ستُقلّص كلفة العمل المطلوب لانتاج السلع والخدمات إلى لاشيء. وهذا سيُغيّر مفهوم العمل بطريقة لا عودة عنها، ويقود المرحلة الانتقالية الراهنة من النظام الرأسمالي إلى نظام ما بعد الرأسمالية. وكل هذا بسبب عدم قدرة الرأسمالية على التحكم التام بسيرورة المعلومات”.

المطلوب هو التفكّر والتعمق المبكرين بدروس الحرب الحالية ومعنى نهاية حقبة الحروب الكلاسيكية، ثم بلورة الإرادة الحرة وتسليح شعوبنا ونخبنا بالوعي الجديد وإطلاق الطاقات المشرقية العلمية الهائلة حقاً القادرة حقاً على اقتحام المرحلة الجديدة من التاريخ البشري

هذا يعني أنه بمقدور قوى التغيير البيئية والديموقراطية واليسارية والليبرالية الاجتماعية في العالم، ومعها بالطبع شعوب العالم الثالث الرافضة للهيمنة، أن تحوّل سلاح المعلومات والذكاء الإصطناعي المُصوّب الآن نحو صدغها، إلى سلاح ضد قوى هذه الهيمنة.

إقرأ على موقع 180  مات لبنان.. هل مَن يدفنه؟

كل ما يتطلبه الأمر هو استنساخ ما فعلته إسرائيل منذ نهاية حرب 2006 في لبنان، حين تسلّحت بالإرادة السياسية، وانطلقت منها لتصب كل جهودها العلمية السيبرانية (عبر تعاون الوحدة 8200 مع وكالة الأمن القومي الأميركي المتخصصة بالمراقبة والحرب السيبرانية) والاستخبارية والمالية لتحضير الحرب التي نرى الآن أحد فصولها على الأرض في لبنان.(راجع أدناه نص مقال “نيويورك تايمز” اليوم في هذا الشأن).

بكلمات أوضح؛ 1967 السيبرانية ليست قدراً، كما أن 1967 العربية لم تكن هي الأخرى قدراً لا مفر منه، كما دلّت على ذلك حرب 1973 ثم كل سلسلة الحروب المتصلة التي خاضتها شعوب المنطقة، هذه المرة، ضد التحالف الصهيوني- التكنو رأسمالي المتعولم.

كل المطلوب هو التفكّر والتعمق المبكرين (هنا والآن) بدروس الحرب الحالية ومعنى نهاية حقبة الحروب الكلاسيكية، ثم بلورة الإرادة الحرة وتسليح شعوبنا ونخبنا بالوعي الجديد وإطلاق الطاقات المشرقية العلمية الهائلة حقاً القادرة حقاً على اقتحام المرحلة الجديدة من التاريخ البشري.

ونحن قادرون على ذلك، لأننا كنا الإقليم الأول في التاريخ الذي اخترع، الزارعة، والمدن – الحضارة، والحرف، والرقم صفر (أساس ثورة الكومبيوتر)، وطوّر علم الفلك (السومريين) والطب (إبن سينا والعباسيين) والأهم: أنه اكتشف للمرة الأولى التوحيد والضمير (في عهد أخناتون والمصريين القدماء).

معظم هذه الانجازات حدثت، حين كانت القبائل العبرانية لا تزال ترعى الإبل والماعز، وتخرط في حروب دائمة مع الشعوب الحضارية حولها، ثم تحيك الأساطير حول إله قبلي اختار قبيلة بعينها على كوكب الأرض (من بين مليارات النجوم والكواكب والمجرات) لتكون شعبه المفضل وليدعوها إلى تدمير القرى والمدن وقتل كل طفل بكر وإمرأة وحتى الحيوانات في الدول المجاورة، وتدمير البيئة الطبيعية التي كان يرمز إليها النظام الأمومي – الأنثوي في المشرق.

كنا قادرين بالأمس على إجهاض هذه البربرية. واليوم، ومع الارادة والتخطيط لاقتحام العصر العلمي الجديد، سنكون قادرين اليوم.

حتماً.

(*) راجع المقال في صحيفة “نيويورك تايمز” بعنوان: As Hezbollah Threat Loomed, Israel Built Up Its Spy Agencies

Print Friendly, PDF & Email
سعد محيو

كاتب سياسي، مدير منتدى التكامل الإقليمي

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  "الحيسوب".. جان دايه