قبل الخوض في الإجابات على السؤال، لا بد من الإشارة الى ما حفلت به هذه الانتخابات من تناقضات أولها حفلة التطبيل بٱسم “السيادة والدستور” التي لم يَسمع صوتها أحد حتى الآن في مواجهة العدوان الإسرائيلي وانتهاكاته اليومية المتمادية لهذه السيادة، ولهذا الدستور الذي تقول المادة الثانية منه أنه: “لا يجوز التخلي عن أحد أقسام الأراضي اللبنانية أو التنازل عنه”، إلا إذا كان الصمت عن الاحتلال ليس تنازلاً وتخلياً عن الأرض لأنّ “السّاكت عن الحق شيطان اخرس”.
أمّا ثانيها فهو سقوط الحُرم عن التدخلات الخارجية من أولئك الرّافضين ليل نهار لـ”التدخل الإيراني” مثلاً، الذي لم يُسمع له حفيف، أو كلمة طيلة استحقاق انتخاب الرئيس، فيما ٱنقلب معظمهم على أعقابهم في ليلةٍ واحدة، وٱنصاعوا للّجنة الخماسية بانتخابه، وإن كانت ليست المرة الأولى للوصاية التي عرفها لبنان منذ عهد المتصرفية (1861-1918) عبر نظام تركي وضعه تحت حكم متصرفٍ أجنبي مسيحي عثماني غير تركي وغير لبناني حتى، وبموافقة لجنة سداسية أوروبية (بريطانيا وفرنسا وروسيا وبروسيا والنمسا وايطاليا) وهو ما استمر حتى ٱندحار الٱحتلال العثمانيّ بٱنتهاء الحرب العالميّة الأولى عام 1918 وٱستبداله بٱستعمار فرنسي كان حكماً عسكرياً وامتداداً له بامتياز.
ومنذ أن ٱستولدت التسويات الإقليمية والدولية هذا اللبنان قبل أكثر من 81 عامًا وٱستنقذته من براثن الٱستعمار الفرنسي “المباشر” عام 1943، لم يدعه “غير المباشر” وشأنه، ولم يترك له عملية تسلّم وتسليم سلسة للسلطة بين رؤساء الجمهورية منذ أول تمديد لأول رئيس (بشارة الخوري) مدة ثلاث سنوات (1949-1952). ومن يومها بدت الأزمة أزمة حكم وحكّام بفعل المنظومات السياسية المتعاقبة، والتدخلات الخارجية التي جرّدت الٱستقلال من مضمونه.
ومنذ نشأة الكِيان الٱستقلالي عام 1943 على ثلاثية رئيس جمهورية ماروني (بشارة الخوري) ورئيس حكومة سني (رياض الصلح) ورئيس برلمان شيعي (صبري حمادة) بتفاهم على “ميثاق وطني”، مالت كفّة الميزان إلى طغيان كفّة “حكم الرئيس”، وتأرجحت المرحلة الميثاقية ما بين المرحلة الناصرية و”حلف بغداد” المضادّ مروراً بحوكمة “المارونية السياسية” وثورة نهاية عهد الرئيس الثاني كميل شمعون (1952-1958) قبل أن يحكم العسكر و”المكتب الثاني” بانتخاب الرئيس الثالث فؤاد شهاب أول قائد جيش رئيساً ثالثاً للجمهورية (1958-1964) بشعار “لا غالب ولا مغلوب” وإن شهد شعار العهد الشهابي مع الصعود الفلسطيني، بعض الغلبة التي ٱنفجرت تراكماتها بحرب أهلية عام 1975 ٱنتهت بـ”وثيقة الطائف” عام 1989 التي أنهت الحرب اللبنانية بمعناها العسكري، لكنها لم تنهِ الأزمة السياسية، أزمة الحكم الذي عرف لبنان خلاله 5 رؤساء جمهورية بعد الطائف، لكن الحياة السياسية والرئاسية لم تنتظم في عهودهم، تارة بفعل عقدة نقص مسيحية تقوم على اعتبار “الوثيقة” أخذت من “الميثاق” وقلّصت صلاحيات رئيس الجمهورية، وتارة أخرى على وقع الخلافات حول القضايا السياسية الكبرى، وطوراً بسبب تناقضات اللاعبين الإقليميين والدّوليين على الملعب اللبناني وأبرزهم الٱحتلال الإسرائيلي.
وهكذا كان أولُ شغور رئاسي دام عاماً واحداً و44 يوماً مع ٱنتهاء حكم الرئيس أمين الجميل (1982- 1988) عندما سلّم السلطة لحكومة عسكرية برئاسة قائد الجيش الجنرال ميشال عون إلى حين “الطائف” الذي جاء أولاً بالرئيس رينيه معوّض الذي تم اغتياله ثم بالرئيس الياس الهراوي (1989 – 1998) ليصبح ثاني رئيس مُدّدت ولايته لثلاث سنوات قبل أن يليه إميل لحود ثاني قائد جيش ليصبح ثالث رئيس تمديد (1998-2007)، وبعده عاد الشغور الرئاسي الثاني لمدة 6 أشهر ٱنتهت بٱنتخاب ميشال سليمان ثالث قائد جيش رئيساً (2008-2014) ليُنتخب بعده ميشال عون رابع قائد جيش (2016-2022) بعد شغور ثالث ٱستهلك 46 جلسة برلمانية وبعده عاد الشغور الرئاسي الرابع منذ 30 تشرين أوّل/أكتوبر 2022 ليستهلك 12 جلسة برلمانية دون جدوى.
إطلاق ورشة حوار وطني حول القضايا والعناوين العالقة كنقاط خلافية بين الأطراف اللبنانية، وأولها تحقيق الإجماع الوطني على كون “إسرائيل” هي العدوّ، وثانيها الاتفاق على وضع إستراتيجية دفاعية لحماية لبنان من عدوانها وأطماعها وكيفية مقاومتها، وثالثها حلّ إشكالية مشروع المقاومة المستدامة ومشروعيتها لتحرير ما تبقى من الأرض المحتلة
وبعد أقل من 24 ساعة على إعلان وقف إطلاق النار بين العدو الإسرائيلي والمقاومة في لبنان فجر 27 تشرين ثاني/نوفمبر الماضي، برعاية أميركية فرنسية، كان رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري يُحدّد يوم الخميس 9 كانون ثاني/يناير موعداً لانتخاب رئيس الجمهورية، وقبل 24 ساعة من الموعد كان معظم النواب، كتلاً وفرادى، ينتظمون صفاً صفاً، تحت مظلة أميركية- فرنسية أيضاً مطعمة بنكهة عربية في جلسة انتخاب الرئيس جوزف عون ليكون بذلك خامس قائد جيش ينتخب لرئاسة الجمهورية مع أنه يشغل المنصب منذ العام 2017 فلماذا لم يتفق الجميع عليه رئيساً طيلة عامَي الشغور الرئاسي بدون تعليمة خارجية ما دام هذا الجميع يُدرك أن المؤسسة العسكرية نقطة تقاطع بين المحلي والخارجي؟
قد يكون الجواب أن الأمر للخارج أولاً وآخراً منذ إنشاء هذا الكيان وهذا ما أثبتته “كلمة السر” عشية الانتخاب، وإن كان فشل الجولة الأولى في إيصال الرئيس ونجاح الثانية في إيصاله كسر هذه التعليمة، وأوصل رسالة لمن يعنيهم الأمر أن هذا البلد لا يُحكَم فقط من الخارج مثلما هو لا يُحكَم إلا بالتوافق بين مكوناته، وخصوصًا المكوّن الشّيعي الذي شكّل الرافعة التي أوصلت الرئيس بكتلتي أصواته الثلاثين، وما كان ليصل لولاه، ما أكد أنّ كل محاولات تظهير هذا المكوّن بلبوس الهزيمة بعد العدوان الإسرائيلي الأخير، هي محاولات فاشلة بفشل الجولة الأولى من جلسة ٱنتخاب الرئيس، وساقطة بسقوط مفاعيل العدوان، وهذا ما على الرئيس أن يُمارسه من خلال كيفية تطبيق خطاب القسم، وهو خطاب لا تكفي السنوات الست لتنفيذه، فلم يسبق أن جاء رئيس ونفّذ كلّ أو معظم ما تضمّنه خطابه، وذلك مردُّه إلى “الدولة العميقة”، وفي لبنان قد لا يوجد دولة غير الدولة العميقة التي تحكم وتتحكم؛ ففي لبنان يوجد كل شيء إلا السياسة، والسياسة لغةً هي”معالجة الأمور”، أما ٱصطلاحاً فهي “رعاية كافة شؤون الدولة الداخلية، وكافة شؤونها الخارجية”، وفي لبنان لا معالجة لأمور، ولا رعاية لمواطن، ولا مواكبة لشؤون داخلية وخارجية، و”الشعب الذي ينتخب الفاسدين لا يُعتَبَرُ ضحية، بل هو شعبٌ متواطئ”، على ذمة جورج أورويل.
ولهذا فقد لا يُقدّم انتخاب رئيس أو يؤخر في المشهد أكثر من إشاعة الشعور بالٱستقرار النّفسي كون الرئيس الجديد يسير بين حقول ألغام محلية وخارجية. فبماذا يختلف عهده وما التحديات التي تنتظره؟ يكفي أن يأخذ الرئيس من كل العهود والتعهدات التي قطعها على نفسه في خطاب القسم، أربعة تحدياتٍ داخلية، وثلاثة تحدياتٍ خارجية. أما الأولى فهي الآتية:
أولاً؛ تكليف رئيس الجمهورية الجديد رئيس حكومة مهمته تشكيل حكومة وحدة وطنية جامعة فاعلة ضمن المهل القانونية والدستورية المحددة لا ضمن شهور مفتوحة، فالمرحلة لا تحتمل، وإلا تحوّل انتخاب الرئيس إلى فترة ٱنتقالية من شغور رئاسي إلى شغور حكومي مكرّر.
ثانياً؛ إخراج البيان الوزاري للحكومة الجديدة ليكون بحجم المرحلة لا أكبر ولا أصغر، وهو بيانٌ يصلح أن يكون مُلخصاً لخطاب القسم ومندرجاته دون تحميله فوق طاقته أو أكثر مما يحتمل، وفهمكم كفاية.
ثالثاً؛ معالجة الأزمة الٱقتصادية بدءاً بوضع خطة للتعافي الٱقتصادي والمالي الذي يبدأ بمكافحة الفساد، مروراً بإطلاق ورشة إعادة الإعمار التي تعهّد بها الرئيس الجديد للجمهورية والدول التي دعمت ٱنتخابه، وصولاً إلى ٱستعادة أموال المُودِعين الذين فقدوا جنى عمرهم مثلما فقد معظم اللبنانيين أمنهم الاجتماعي، ورحم الله ابن خلدون القائل في مقدمته “ومن أهمّ شروط العمران سدّ حاجة العيش والأمن {الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف} (سورة قريش – آية -4) . وحسناً فعل الرئيس عندما جعل مقدمة تعهداته إصلاح القضاء إتكاءً على مقدمة إبن خلدون: “وكلما فقد الناس ثقتهم بالقضاء تزداد الفوضى، فالقضاء هو عقل الشعب ومتى فقدوه فقدوا عقولهم” .
رابعاً؛ إطلاق ورشة حوار وطني حول القضايا والعناوين العالقة كنقاط خلافية بين الأطراف اللبنانية، وأولها تحقيق الإجماع الوطني على كون “إسرائيل” هي العدوّ، وثانيها الاتفاق على وضع إستراتيجية دفاعية لحماية لبنان من عدوانها وأطماعها وكيفية مقاومتها، وثالثها حلّ إشكالية مشروع المقاومة المستدامة ومشروعيتها لتحرير ما تبقى من الأرض المحتلة في حال لم تستطع الدولة تحريرها الذي تعهّده الخطاب وتولّيها الحمائية الزمنية لها من العدوان.
أما التحديات الخارجية التي تواجه العهد الجديد فيمكن إختزال أبرزها بالآتي:
أولاً؛ تحدي العدوان والأطماع الإسرائيلية، فالمادة 49 من الدستور تنصّ على أنّ رئيس الجمهورية “يسهر على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه”. هذه الأراضي التي يصل الرئيس اليوم إلى القصر الجمهوري وهو لا يستطيع الوصول إليها في قراها الأمامية المحتلة من العدو الإسرائيلي، وهو ما يضعه أمام مسؤولية تحريرها بشتّى السبل التي يعرفها جيداً أكثر من غيره كإبن للمؤسسة العسكرية، بدءاً من المقاومة وصولاً إلى القرار 1701 قبل أن يتحوّل الأخير إلى قنبلة موقوتة تنفجر بوجه عهده في أيّة لحظة.
ثانياً؛ المُتغيِّر السوري الغامض، وهو مقيم على مفترق بين أن يكون مشروع جارٍ طبيعي بحكم التاريخ والجغرافيا بمعزلٍ عن طبيعة الحكم والحكّام الجدد، أو مشروعاً لبزوغ “فجر جرود” جديد كالذي قاده الرئيس جوزف عون بنفسه كقائد للجيش فجر السبت 19 آب/أغسطس 2017 لتحرير هذه الجرود من الجماعات الإرهابية المسلحة، ولهذا فهو يأتي من تلك الجرود التي تَشَارَكَ تحريرَها مع المقاومة من هذه الجماعات التي هدّدت لبنان تهديداً وجودياً، من الأمن، إلى الأرض، إلى السكّان، وعاد بعضها ليطلّ برأسه من على الحدود الشمالية ويعتدي على الجيش نفسه بين فينة وأخرى.
ثالثاً؛ المحيط الإقليمي ومن ورائه الدولي المختصر أولاً بالأميركي والفرنسي الساعي لربط لبنان بتبعية سياسية وٱقتصادية وثقافية، وثانياً بالتمحور العربي والاصطفاف ما بين محور مصر – السعودية – الإمارات – الأردن، ومحور قطر- تركيا، وما بينهما من تناقضات يقتضي القفز بينها فائض حذاقة، لإخراج لبنان منها إلى حيّز الحياد عنها وعدم الٱنحياز إلى أي منها وهذا هو الحياد المفروض في خطاب القسم الذي قد يصلح روزنامة عملية لبرنامج عمل طويل الأمد للبنان قد لا يكفي عهد واحد لتنفيذه، لكنه يبقى أكبر من المرحلة وتبقى العبرة في التنفيذ، و”الخبر ما ترون لا ما تسمعون”. لماذا؟
“لأنك رأيتَني، آمنت، طوبى للذين آمنوا ولم يرَوا” (إنجيل يوحنا 20: 29).