إذاً الله هو الحقيقة النهائية التي تصبو إليها كل حركة في الكون. ولما كانت كل حركة في الكون مُثقلة بحدود المادة فإن الحقيقة النهائية (الله/الكمال) مُحتجِبة عنا ولا نفاذ لها بشكل يقيني إلا بمفارقة الجسد، ولذا قالوا: “العقل حبيس الجسد”. ويُنسب للإمام علي ما يتشارك مع هذا المعنى: “الناس نيامٌ فإن ماتوا انتبهوا”.
من هنا كان الخلاص الحقيقي في مُناشدة الحقيقة، فهي غاية المنى. وقد انشغل بها أفضل الناس من أنبياء وعلماء وفلاسفة وحكماء فأصابهم قبسٌ من قُدسيتها، الخلود، بينما انشغل عنها أغلب الناس باحتياجاتهم الوقتية فقضوا وترهم ورحلوا. قال عنها سقراط: “الحكمة لله وحده، وإنّما للإنسان أن يجّد ليعرف الحقيقة”. ويقول رابوبرت في مقدمة كتابه “مبادئ الفلسفة”[i]: “الإنسان مفطور على حب الإستطلاع، وهي رغبة متأصلة في أعماق نفسه لا تُستأصل، وهي دافع قوي يقوى بنمو العقل، ويحمل على معرفة الحقائق الكبرى للوجود والحياة”. ويُلخص هذا التوق إلى الحقيقة قول رسول الله: “الحكمة ضالة المؤمن، فحيث وجدها فهو أحق بها”. ولما كانت غاية المنى، مُحتجِبة بحُجُب كثيرة، منها ما يتعلق بطبيعة الحقيقة ذاتها ومنها ما يتعلق بطرق الوصول إليها؛ لذا انشغلت أغلبية الناس بحاجاتها.
الاختلافات الفكرية المتعددة بين شتى المذاهب والأفكار والنظريات والعقائد إنما تشير إلى أنّ الحقيقة في طبيعتها شديدة التركيب وليست بسيطة على الإطلاق. والعقل مهما علا وارتقى، أو جنح وتمرد، لن يقدر على سبر أغوارها بمفرده. إنّه أسير زمانه وبيئته وتجربة صاحبه. فطبيعة العصر والبيئة اللتين يتفاعل فيهما المفكرون على اختلاف طبقاتهم يحولان دائماً ما بين العقول والحقيقة. والهوى الشخصي الراجع إلى تجربة كل عقل ومعاناته الخاصة هو حاجب آخر. حالات المجتمع السياسية والاقتصادية والثقافيه التي تتفاعل معا منتجةً عاداته وتطلعاته وتحدياته وأمراضه حاجب إضافي. ومن بين تلك الحجب مُناشدة الجمال، فهو من أقوى الحُجُب التي تختفي خلفها الحقيقة وتتشتت بسببها معظم المذاهب الفكرية.
طرق الحقيقة والمنهج العلمي
ليس العقل هو الطريق الأوحد للحقيقة وإنما تتشارك معه الحواس والقلب. قد يبدو ذلك هوى دينياً أو صوفياً، ولكنه في الواقع مذهب بعض أكثر المفكرين تغولاً في العقلانية والعلوم. فالفيلسوف الألماني إيمانيول كانط، صاحب آخر بناء هائل لفلسفة عقلية كما يصفه هانز ريشنباخ، يؤكد على أهمية “المعرفة القبلية” من أجل الوصول إلى اليقين (الحقيقة). والمعرفة القبلية عنده هي مجموعة مبادئ ضرورية ذات صحة مطلقة تنبع من العقل ولا تُستمد من التجربة، رداً على المذهب التجريبي عند فرانسيس بيكون وجون لوك وديفيد هيوم الذين رأوا أن العقل مجرد صفحة بيضاء وأن الحواس (التجربة) وحدها هي ما تسطُر الحقيقة فيه. ويعترف كانط في مقدمة كتابه “نقد العقل الخالص” بأن سبب فرضه للمعرفة القبلية هو أن الحقيقة لا يُمكن أن تتكشف من العقل وحده فيقول: “كان عليّ أن أضع حدوداً للمعرفة لكي أفسح مكاناً للإيمان”. ويوافقه في ذلك نعوم تشومسكي الذي يرفض فكرة أن العقل صفحة بيضاء سلبية وإنما هو وعاءٌ تكمن فيه أفكار فطرية تكشف عن نفسها في معجزة توليد اللغة في الأطفال كما ينقل عنه عبدالوهاب المسيري في كتابه “الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان”[ii]. وهي فكرة أقرب ما تكون إلى المعرفة القبلية عند كانط.
وفي الإتجاه نفسه، أبحر العالم الفرنسي بليز بسكال فيقول بصراحة تخلو من أي إلتباس في كتابه “خواطر”[iii]: “نعرف الحقيقة ليس بالعقل وحده بل بالقلب أيضاً. وإننا بهذه الطريقة نعرف الأصول الأولى، وعبثاً يحاول العقل المعلل الذي لا حصة له فيها أن يناهضها”، ويضيف في موضع آخر “أمران فيهما غلوّ؛ نبذ العقل والإقتصار عليه”. كان الفيزيائي الألماني الشهير فيرنر هايزنبرج أيضاً يتململ من بعض الفروض العلمية التي لم يستسغها حدسه (قلبه) وإن فهمها عقله. ذلك الحس أو الحدس الفيزيائي، وهو خليط بين حدة الذهن وسعة المعرفة والاستبصار القلبي، هو أدق ما يُميّز الفيزياء عن الرياضيات. وقد لخّص ذلك الفرق الدقيق الفيزيائي الإيطالي إنريكو فيرمي بقوله[iv]: “شرط النظرية الفيزيائية هو إما أن تشتمل على فكرة فيزيائية واضحة، أو بناء رياضي متين”. وفي تشكيل الفكرة الفيزيائية الواضحة تلك تتداخل عوامل كثيرة تمس العصر ومقاييسه، بل وذاتيّة الأفراد أيضاً.
وقد حلّل ذلك توماس كون في كتابه “بنية الثورات العلمية” عندما تحدث عن دور المتحد العلمي في تطور العلوم. هذا المتحد العلمي يسميه توماس كون بـ”البراديغم”، وهو أشبه بالدستور الذي يُجمع عليه ويخضع له أغلبية أصحاب تخصص علمي ما. وهو يتطور من عصر إلى آخر وفق ما يُستجد من تحديات، ومن هنا وصف ذلك التطور بالثورة العلمية. ويُعّرف توماس كون “البراديغم” بأنه[v] “مجموعة العقائد والقيم والتقنيات التي يتفق عليها متخصصون تقع على عاتقهم كامل مسؤولية حل مجموعة من المشاكل/الأسئلة التي من شأنها دفع تخصصهم للأمام”. هذا تعريف كبير يقتضي تجزئته. فـ”البراديغم” إذاً تدخل به مجموعة من العوامل الذاتيّة الغيبيّة غير القابلة للضبط، وبالتالي غير العلمية، وهي ما أشار إليها التعريف بـ”العقائد”. ذلك لأن كل “براديغم” في بداياته يكون مُوجهاً بمقاييس جمالية أو رغبة في التبسيط، وهي معايير غير معملية، تبريرها أن مرحلة ميلاد “البراديغم” يعتريها كثير من الغموض الذي لا سبيل إلى كشفه الا بالمخاطرة والحدس. ولذا تزدهر مقاييس كالجمال والبساطة في الحكم على النظريات الجديدة. أما “القيم” فهي المرحلة اللاحقة لنشأة “البراديغم” الجديد وتشكل مجموعة العادات الموثوقة الموروثة من “البراديغم” القديم والتي تصلح لاقتفاء أثرها في توجيه وترسيخ “البراديغم” الجديد، وتلعب دوراً محورياً في ربط “البراديغميين”، وتُمكّن من الانتقال دون صدام أو انقطاع. ثم المرحلة اللاحقة والتي تُشكل العنصر الثالث في “البراديغم” وهي “التقنيات”، وتأتي بعد أن يكون “البراديغم” الجديد قد أخذ في النمو والتوسع وتراكمت التجارب التي تؤيده. عندئذ يحدث اتفاق على أهم الأدوات التي تصلح لشرح تلك النتائج. ومنها كذلك المقارنة بين الظواهر الجديدة والمماثل لها من ظواهر قديمة كنوع من القياس للكشف عن النمط الذي يُمكّن من حلها. والملاحظة المهمة هي أن تلك الأركان الثلاثة السابقة لا يُحدّدها عالم مفرد بل لا بد من أن يتفق عليها مجموعة منهم (الإجماع) حتى تصير “براديغم”. وحتى المنهج العلمي لا يقتصر على التجارب والبناء الرياضي، بل فوق ذلك مجموعة من البديهيات المُوجِهة التي تُشكّل فروضاً لا سبيل إلى إختبارها تجريبياً أو إستنباطها رياضياً، وإنما هي أشبه بالمعرفة القبلية التي تحدّث عنها كانط، وهي غالباً ما يُشار إليها في العلوم بالمصادرات أو الفروض. كما تدخل فيه أيضاً معايير جمالية وتفضيلات شخصية، خصوصاً في المراحل الأولى لبناء المُتحد العلمي كما بين توماس كون. فالمنهج العلمي من هذه الزاوية هو خليط بين العقل (الاستنباط) والحواس (التجربة) والحدس (القلب) بنسبٍ مختلفة. وبرغم ذلك فإنه لا ينشُد اليقين (الحقيقة الكاملة)، وتظل الحقيقة مُحتجِبة بتركيبها وقصورالطرق إليها.
حجب الحقيقة ودوار الأفكار
عند تناول قضية معرفية بشيء من الدراسة فإن غالبية الباحثين يشرعون في تأصيلها أولاً، بمعنى أنهم يبدأون بالبحث عن جذورها البعيدة والمحطات المختلفة لتطورها. وكأنهم بذلك ينسبونها، بمعنى أنهم يبحثون لها عن شجرة عائلة.. من جدها ومن أبيها ومن أبناء عمومتها ومن أبنائها إلى أخره. ربما كان ذلك أثراً للصعوبة التي تُواجه البشر في فهم الأمور المجردة وتفضيلهم للأمور المتعينة في جسد واضح. ولكن الأهم من ذلك أنه أياً كانت القضية المعرفية محل البحث فإن لها جذوراً بعيدة، وكأننا في عالم مغلق به مجموعة محددة من الأفكار تطوف به بشكل دوري دون أن تُحسم حسماً نهائياً. ولذا تعاود الظهور من عصر لآخر بلباس جديد. فمثلاً أحد أهم الأسئلة في الفيزياء هو ما يتصل بتحديد طبيعة الكون: هل الأصل فيه المادة بمعنى أنه يتكون من جسيمات صغيرة غير قابلة للانقسام تكون له نواة يتشكل هو من تراكمها وتراكبها؟ أم أن الأصل فيه أنه كيان أشبه بالموجة أو المجال الممتد، وهو متصل دائماً لا يعرف الانقطاع؟
كلاهما له جذور بعيدة. فان كانت الفيزياء جنحت إلى النموذج الأول في بداية القرن العشرين باكتشاف الجسيمات الأولية وعالم الكم، فقد كان لذلك وجود مسبق في اليونان القديمة بالحديث عن الذرة بإعتبارها الجزء الذي لا يتجزأ الذي يتكون منه الكون كله. وعندما تقدمت الفيزياء بداية من منتصف القرن الماضي ومالت أكثر إلى أن الأصل هو المجالات وأن المادة مجرد تموجات مؤقتة في تلك المجالات.. فذلك أيضاً له جذور أبعد حتى من اليونان القديم. ففي معظم الثقافات كان هناك ذلك التخيُل عن الكون بأن الإله قد أنشأه على الماء. والماء هو أقرب التصورات القديمة إلى فكرة المجال، فهو ممتد في كل الاتجاهات وتموجاته المؤقتة أشبه ما تكون ببناءات لحظية. ويُنسب إلى المسيح تشبيه للحياة بالماء يقول فيه: “من ذا الذي يبني على موج البحر داراً.. تلكُمُ الدنيا فلا تتخذوها قراراً”. ثم؛ الزمن نسبيٌ أم مطلقٌ؟
نجد في الملحمة الإغريقية “الأوديسا” لهوميروس أسطورة “كهف سيرسي” الذي يسير فيه الزمن ببطء شديد مقارنة بمن يعيش خارجه. وهي فكرة وجدت أيضاً في التراث الهندي والصيني. ثم في الإسلام، تعرض القرآن في أكثر من موضع لنسبية الزمن ففرّق بين زمن الدنيا والآخرة. ثم جاءت الفيزياء الحديثة فتبنى نيوتن مفهوم الزمن المطلق الذي يسري في الكون كله بقدر متساوٍ، ولكن عارضه أينشتاين وعاد إلى نسبية الزمن مرة أخرى. ويمكننا الحديث عن الكثير والكثير من الأفكار الفيزيائية ودورتها من حال إلى آخر ثم إرتدادها إلى الحال الأول ذي الجذور البعيدة في الثقافات المختلفة، ولكننا نتركها إلى حقول معرفية أخرى لنُعّرج سريعاً على بعض الأمثلة فيها. ففي علوم السياسة والإجتماع مثلاً، إذا ما توقفنا أمام نظم الحكم وتحدثنا عن الديموقراطية فإن الحديث سيقودنا إلى الرجوع إلى الجمهورية الرومانية الأولى وتأثيرها على الديموقراطية الحالية. وإذا ما تحدثنا عن العلمانية حيث فصل الدين عن الدولة، في أحد تفسيراتها، نجد القرآن ينقل لنا سجالاً بين شعيب وقومه فحواه[vi] : “قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد أباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد”. فاحتجاجهم الأساسي ألا يكون للدين قيود على معاملاتهم المادية وسياساتهم الإجتماعية متمثلة في “ما يعبد آباؤنا”. والرشد في نظرهم أنه لا ينبغي له الخلط بين الدين والحياة، وأن الرشيد هو ذلك السلبيّ الذي يكتفي بصلاته متأملاً محايداً بلا أثر أو تأثير.
وإذا ما انطلقنا إلى الفلسفة، فالصورة فيها أوضح. انتقالٌ دوري من السيولة المطلقة ونسبية كل شيء عند السفسطائيين اليونانيين (العلمانية في تعريف آخر)، إلى الفلسفة الإلهية والمرجعيات المتجاوزة للمادة عند سقراط وافلاطون، إلى الفلسفة المادية في مراحل معينة بعصر النهضة بمسميات مختلفة منها الداروينية والنيتشوية والبراجماتية والوجودية، إلى ما بعد الحداثة والعودة إلى النسبية المطلقة (تناقض في الصياغة) والسفسطة من جديد. والأديان ليست ببعيدة عن هذه الدورية أيضاً. فتارة يسود الدين وأخرى يسود الإلحاد. وقد رصدنا تلك الظاهرة في مقال سابق عن أزمة الحضارة الغربية. حتى داخل الدين الواحد تنبع أفكار وتصورات شتى عن الإله. ففي اليهودية، بدأ الإله مجرداً تماماً، متعالٍ عن التجسيد. ثم في فترة لاحقة تجسّد في يهوه، ثم عاد متجرداً ثانية مُنزهاً عن التجسيد. وفي المسيحية انقسمت المذاهب على طبيعة المسيح بين من يراه رسولاً كالكنائس التوحيدية، ومن يراه إلهاً كالكاثوليك والبروتستانت والأرثوذكس، ومن اختلط رأيه فيه كالأريوسيين. وهي مذاهب لم تتواجد كلها في مرحلة واحدة، وهو ما يشير إلى الدورية التي نقصدها. وفي الإسلام أيضاً ظهرت الفرق التي اختلفت في تصور الله. فالمعتزلة أصروا على التنزيه المطلق لله عن كل صفة ليصبح كامل التجرد والتعالي عن أي شبيه، والسلفية أصرت على كل الصفات حتى التي قد تقود إلى التجسيد والتحيز، والأشاعرة توسطوا بين الإثنين فقبلوا بعض الصفات وأولوا أخرى. والشيعة كالأيروسيين في المسيحية أصروا على أن الله مجرد وألوهيته خاصة ولكن ألحقوا بعض صفاته ببعض خلقه (الأئمة). وكذلك، فإن كل تلك الفرق لم تظهر في مرحلة واحدة بل توالدت بعضها من بعض.
الشاهد من تلك الأمثلة على إختلافها هو أن الأفكار في الكون محدودة وتتكرر بين العصور. تنشأ الفكرة في عصر ما لأسباب متداخلة. تسوده فترةً من الزمن، ثم تتراجع بإختلال تلك الأسباب وتتقدم أخرى، في الغالب تكون مناقضة لها، وتسود هي الأخرى فترة من الزمن ومع اختلال أسبابها تتراجع لتعود الفكرة القديمة كما هي في جوهرها ولكن بزّي جديد ضروري، لأنها سقطت من قبل وهي في زّيها القديم. فمفهوم نسبية الزمن مثلاً، وإن عاد من جديد مع أينشتاين فهو ليس بالمعنى الحرفي له في أسطورة كهف سيرسي أو الثقافة الإسلامية، ولكنه يلتقي معهما في الجوهر. وبذلك تكون حركة الأفكار دورية، منسجمة بذلك مع كل حركة أخرى في الكون. وكأن ذلك مناقضاً للرؤية الداروينية التي ترى الإنتقال الخطي من أسفل إلى أعلى، فهي أقرب إلى التقدم والإرتداد. وليست كالتطورالخطي الإجتماعي عند ماركس من المجتمع العبودي إلى المجتمع الإقطاعي إلى المجتمع الرأسمالي إلى المجتمع الإشتراكي. وإنما تكون كل تلك الإصدارات إنما هي صور مختلفة لعدد محدد من النماذج. فالعبودية مثلاً لم تنعدم في اي من تلك المجتمعات ولكنها تمّوهت. فبدلاً من العبودية الصلبة القديمة، أصبحت العبودية الحديثة تأخذ أشكالاً مختلفة منها عبودية الوظيفة وعبودية الإستهلاك وعبودية الإدمان ثم عبودية الأفكار والأحلام من خلال وسائل الإعلام المختلفة، وندخل الآن عصر عبودية الآلة التي سيُوكل إليها تدريجياً الحكم على مصير الإنسان، بل على شعوبٍ بأكملها. ربما من هذا المعنى صرّح القرآن[vii] “اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً”، فلا جديد من الأفكار يُمكن أن يُطرح، وإنما تتلون فقط بصياغات جديدة وتتعدد أشكالها مع ثبات جوهرها.
ربما كان هذا الدوار الفكري نوعاً من العدالة الإلهية. فالتحديات التي واجهها الإنسان القديم هي نفسها التحديات التي نواجهها اليوم، وستظل نفسها إلى أن ترفع الحياة من الأرض؛ صراعٌ بين حق وباطل، بين عبودية وحرية، بين التجبر والعدالة، بين من يضحي في سبيل المثل ومن يقتل ويطغى في سبيل القوة والمنافع الزائلة، بين فرعون وجنوده وموسى وقومه، بين من ينشد الحقيقة ومن لا يرى إلا نفسه ولا ينشد إلا هواه. وعلى كل فردٍ أن يختار لنفسه. الجميع سيواجه نفس الامتحان الذي تحتار فيه العقول بين شتى الأفكار والمذاهب. وهي حيرة لا سبيل إلى تسكينها، لأن الطريقة الوحيدة للوصول إلى اليقين المطلق (الحقيقة النهائية) هي بالإلتحاق بالمطلق الأزلي (الله). ولما كان غيباً، فقد تأجل الحسم النهائي بين تلك المذاهب، ولذا فهي تتقدم وتتراجع حسب معطيات كل عصر وظروفه ولن تُحسم نهائياً. وفي هذا المعنى نصّ القرآن[viii] “وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء.. فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون”. فقط عندما يتجلى المطلق الأزلي ينكشف اليقين المطلق ويُفصل بين كل المذاهب. ولكن إلى هذا الحين فالدوار الفكري الناشئ عن حُجُب الحقيقة النهائية حتمي، وهو الغرض من الإمتحان بالحياة في بادئ الأمر. وقد تغنت أم كلثوم بهذا المعنى للخيام: “لبست ثوب العيش لم أستشر.. وحرت فيه بين شتى الفكر.. وسوف أنضو الثوب عني.. ولم أدرك لماذا جئت أين المفر”. كان هذا وقفة مع الحجاب الذاتي للحقيقة، بمعنى أنه لا سُلطة لنا عليه، وإنما هو ملازم لها ولا سبيل إلى تخطيه. ولكن هناك حُجُبٌ أخرى تنبع منا نحن وقد نجد طرقاً لتجاوزها وعلى رأسها فتنة الجمال.
فتنة الجمال
إن للجمال فتنة بمعنى أنه قد يتقنعه الباطل ويتقدم إلى الناس بإعتباره حقيقة فيلتبس عليهم بما للجمال من سطوةٍ على عقولهم وسكرة. في الثقافة المصرية هناك مثل دارج للتعبير عن الجمال الفائق لامرأة فيقال: “جمالها يحل من على حبل المشنقة”، وهو يعني أن شدة جمالها يشفع لإجرامها وان كانت جريمتها القتل. وفتنة الجمال تلك التي قد تدفع إلى التجاوز عن أعظم الجرائم هي أبعد أثراً في خداع العقل وتجميده عن الوصول للحقيقة. فمن الأساطير اليونانية الشهيرة أسطورة “ميدوسا”. وهي امرأة بارعة الجمال لعنتها “أثينا”، ألهة الحكمة عند اليونان لتدنيسها معبدها، وكانت لعنتها أن كل من ينظر اليها من الرجال يتحول إلى حجر. وكأن الرضوخ للجمال إستسلام للتحجر والجمود. وللأفكار الجميلة نفس القدرة على سحر العقول وتجميدها ومن هنا تكمن خطورة الجمال وفتنته. إن أكثر الأفكار انحطاطاً ودمويةً وشراً وتدميراً يمكن أن تتسرب إلى العقول، حتى أذكاها، إذا ما تزيّنت ببعض الصياغات الجمالية. ولذا كان سقراط شديد الكراهية للشعراء لما رأى من قدرة الشعر على الترويج لأفكار اذا ما جردت من الصبغات الجمالية التي تغلفها تصبح واهية تماماً وأحياناً مدمرة. ففي حواره مع أطيفرون، رجل دين يوناني، يسأله سقراط عن طبيعة التقوى والفجور فيجيبه[ix] “التقوى هي كل ما هو عزيز لدى الآلهة، والفجور ما ليس بعزيز لديهم”. عبارةٌ رنانةٌ مثيرة قد يكتفي بها الكثيرون ويجدون فيها الدواء الشافي. ولكن سقراط ليس بالرجل الذي يركع للجمال، بل يأبى الركوع إلا للحقيقة. فيبدأ بتحليل تلك العبارة محاولاً تجريدها من جمالها من خلال تجزئتها وتحري كل جزء من تلك العبارة بشكل مستقل، ومن خلال محاصرة أطيفرون بسؤال من هنا ومن هناك انتهى الأمر بأطيفرون باعادة تعريفه للتقوى على أنها “فعل ما أنا فاعل”. فالعبارة في صياغتها الأولية مضللة يتخفى خلفها أطيفرون وأغراضه، إذ أصبح سُلوكه هو معيار التقوى. ولذا عاش سقراط حياته محارباً للشعراء والسفسطائيين الذين يتسترون خلف الأفكار الجميلة. وحتى في أحلك لحظاته، وقت أن قُدّم للمحاكمة كان حريصاً على إزدراء الشعر عندما يُستخدم للتعتيم على الحقيقة، فبدأ مرافعته قائلا[x]: “لست أدري أيها الأثينيون كيف أثّر مُتهميّ في نفوسكم، أما أنا فقد أحسست لكلماتهم الخلابة أثراً قوياً أُنسيتُ معه نفسي، وإنهم لم يقولوا من الحق شيئا”.
وبرغم ذلك، تسرب الجمال إلى الفلسفة اليونانية حتى أصبح يشار اليها بالفلسفة الجمالية، وكان لذلك أثره في تعطيل العلوم. فقد أنكروا مثلاً الدوران الإهليجي (البيضاوي) للكواكب برغم توافر بعض الملاحظات التي تدعم ذلك التفسير، لأن المدار الدائري وفق معيارهم آنذاك هو الأكثر اتساقاً وجمالاً وبالتالي الأقرب إلى الحقيقة. هذا الافتتان بالجمال واتخاذه مقياساً على الحقيقة تسرب للعلوم الحديثة إلى يومنا هذا ولم تتحصن منه حتى أذكى العقول. ففي الفيزياء توجد مدرسة مُعتبرة من أعلامها ألبرت أينشتاين وبول ديراك يرون أن البساطة والأناقة، وهي معايير جمالية استاطيقية، مؤشر على الحقيقة. فكلما ازدادت النظرية تعقيداً رياضياً بعدت عن الجمال والصواب معاً. فللجمال سطوة يصعب الفكاك منها، حتى من يتنبه لها يسقط في آخر الأمر أسيراً لها. فهذا نيتشه، الذي أعلن الحرب على الأخلاق والأديان وكل ما يرتبط بالميتافيزيقا في كتابه “هكذا تحدث زرادشت” الذي أراد من جانب فيه أن يقدح في الإنجيل بأن يثبت أن الصياغة الأدبية أو الفنية، وإن شئت قلت الجمالية، لنصوصه هي سر جاذبيته. فأراد أن يُحطم تلك الجاذبية بأن ألفّ كتابه بصياغة بليغة على هيئة أسفار الإنجيل، فوقع في الشيء الذي أراد أن يدحضه. إذ استخدم الجمال لنقض الجمال، فنجاح كتابه من هذه الزاوية لا يُعبّر عن صوابية أفكاره بقدر ما يُعبّر عن جمال صياغتها. فجاء كتابه دليلاً على قدرة الجمال في تمرير الأفكار وان كانت في جوهرها عنصرية ومدمرة للمجتمع. وأحياناً يلجأ بعض المفكرين إلى الصيغ الجمالية هروباً من العجز عن إقامة البرهان. يقول هانز ريشنباخ[xi]: “إنّه ليبدو أن الفيلسوف عندما يصادف أسئلة يعجز عن الإجابة عليها، يشعر بإغراء لا يقاوم لكي يقدم إلينا لغة مجازية بدلاً من التفسير”.
واذا كان للجمال تلك الفتنة والقدرة على أسر العقول الفذة فهي إذاً أمضى على العقول الأبسط. ولذا يتراجع العلماء والفلاسفة عن تصدر المجتمعات، ويتصدرها المشتغلون بالسياسة والفنون وأدعياء الثقافة والمتاجرون بالأديان لما لهم من قدرة على الخطابة والمرواغات اللفظية والتمثيل. ومن هنا أيضاً تم تسليع المرأة واستخدامها في حقول التسويق والترويج للمنتجات وكذلك الرجال الذين يتمتعون بقدر من الوسامة. فللجمال بكل صوره، أدبياً أو سمعياً أو مرئياً، سُلطة على تغييب العقل وخداعه بأي شيء. كذلك فإن الشخصيات القيادية غالباً ما تتمتع بصفات جمالية كالطول، ولمعان الأعين، وحدة الوجه، ما يضفي عليها نوعاً من الرهبة تُشارك في إخضاع الآخرين لمنطقها وإن كان ضعيفاً. وامتداد ذلك التأثير هو شيوع الثقافة السريعة، ثقافة الأقوال المأثورة. فتنتشر بين الناس وخصوصاً على مواقع التواصل أقوال مأثورة لبعض المفكرين أشبه ما تكون بكبسولات ثقافية تتميز بجاذبية الصياغة الأدبية وجمالها. وهذا نوع من الثقافة السريعة التي تُكسب صاحبها شعوراً زائفاً، بالفهم والإلمام بحقائق الأمور. وربما من هذه الزاوية تنتشر بين الناس الأمثلة الشعبية لأنها تُعبّر عن خلاصة تجربة مُقولبة بعبارات لفظية جذّابة.
عمق التركيب ونسبية النطاق
مثل هذه الثقافة السريعة لا يمكن أن تهدي إلى حقيقة. فالحقيقة بطبيعتها شديدة التركيب، نرى ذلك من خلال تعدد المذاهب والأفكار التي يصيب كل منها في جانب ويغفل جوانب أخرى. وربما أبسط طريقة لنُسلّط الضوء على هذا التركيب هو بالعودة إلى العلوم الطبيعية، لأنها علوم مادية بحتة مما يسهل دراستها. ففي الفيزياء مثلاً يكثر الإعتماد على مفاهيم مثل الغاز المثالي والجسيمات الحرة لفهم قوانين الحركة للغازات أو التصادمات بين الجسيمات. بينما في الواقع لا يوجد غاز مثالي ولا يوجد جسيم حر! لأن بعض القوى في الطبيعة مثل قوى الجاذبية والقوى الكهربائية يمتد تأثيرها إلى ما لا نهاية. بمعنى ما، فإن زميلين متجاوران في أحد المكاتب توجد بينهما قوة تجاذب متبادلة، ليس ذلك فقط ولكن هناك أيضاً قوى تجاذب بينهما وبين البناء الذي يجلسون به، وبينهما وبين الأرض ككل، وبينهما وبين الشمس وباقي الكواكب وهكذا إلى أبعد جرم سماوي يمكن تخيله. وبذلك فإن أي محاولة لدراسة القوى التي تؤثر عليهما بشكل يقيني ينبغي ان نأخذ بالاعتبار عدد لانهائي من العوامل، وهذا حد هائل من التركيب لا يمكن أبداً تحقيقه ولذا يبعد اليقين. ولكن نظراً لأن هذه العوامل ليست كلها بنفس الوزن، بمعنى أن تأثير الجرم السماوي البعيد على الزميلين في مكتبهما أضعف ملايين بل مليارات المرات من تأثير الشمس عليهما، وهي بدورها أضعف آلاف المرات من تأثير الأرض عليهما.. يُمكن إهمال كل تلك العوامل (اللانهائية في عددها) والإقتصار فقط على التأثير الأكبر (الأرض وحدها) مقابل التضحية باليقين، وإن كانت ستظل النتائج على درجة عالية من الدقة. وبذلك لفهم الظواهر المادية لا بد أولاً أن نبدأ بتسطيح أو تبسيط الظاهرة المركبة، فنفترض حرية الجسيمات أو وجود الغاز المثالي لنقيم عليهما فهمنا التقريبي لتلك الظواهر. أما اليقين فيكاد يكون مستحيلاً لما يتطلب من إلمام بعدد لا نهائي من العوامل وهو ما لا يمكن تحقيقه. حتى مع ظهور فرع حديث نسبياً في الفيزياء، وهو الفيزياء التي تدرس الظواهر المركبة مثل الطقس والشبكات العصبية والأنشطة الحيوية، فان نتائجه لا يمكن أبداً أن تقارن من حيث الدقة بما للنظم البسيطة التي تُحكم بالقوى الأولية مباشرةً كما في حالة الجسيمات الأولية. فالتبسيط أو التقريب شرط الفهم، وهو أيضاً سبب عدم اليقين، ولا سبيل إلى رفع هذا التعارض. وإذا ما انتقلنا الآن إلى العلوم الإنسانية نجد دقة الفهم أضعف كثيراً من نظيراتها في العلوم الطبيعية. لأننا الآن نواجه الظاهرة الإنسانية بكل ما يكتنفها من غموض. فالعوامل التي تتحكم في سلوك الفرد الواحد على درجة عالية من التركيب. فالفرد قد يصعب عليه تحديد موقفه من شخص ما، فهو قد يحبه ولكن يداخله في ذلك الحب شك وحذر، وينقلب أحياناً إلى كراهية وتوجس، فما بالك بمجتمع زاخر بالأفراد. ولذا يصعب التنبؤ الدقيق بسلوك المجتمعات، فلا يمكن التحديد بدقة موعد قيام ثورة ما، أو أزمة اقتصادية كبرى، أو نشوب حرب. ضعف الدقة هذا انعكاس لعوامل مؤثرة غير قابلة للتعيين. ولذا كان ذلك التركيب أحد حجب الحقيقة النهائية، ولكنه قابل للترويض بشكل ما. إذ أن القدر الذي ندركه من الحقيقة يتوقف من هذه الزاوية على مقدار العوامل المؤثرة التي تم الاعتماد عليها في دراستها، فان توسعت تلك العوامل تكّشّف قدرٌ أكبر من الحقيقة، وذلك ما نشير إليه بنسبيّة النطاق. إذ لمّا نظر الانسان إلى السماء بعينه المجردة ورأى كل ما يحيط به أصغر منه تخيّل نفسه مركز الكون. فلما ضخّم حواسه باكتشاف التيليسكوب بدأ يدرك ألا خصوصية له في هذا الكون وأنه صغير جداً فيه. وفي المقابل، في عصر التنوير اكتشف الإنسان قدرة العقل على حل معظم الأحجيات. فظن أنه قد امتلك الحقيقة النهائية وتُوج على الطبيعة وأخضعها. فأخذ ينظم الكون، لا بل يخلقه خلقاً جديداً، بما يتناسب مع هدى العقل وحده لا شريك له. فإذا به يصطدم بحروب كبرى مدمرة، وأزمات إقتصادية طاحنة، وأوبئة فتاكة، وتغيرات بيئية كارثية، ونظم اجتماعية تعتمد العنصرية والإبادات الجماعية، فنكص على عقبيه يبحث للعقل عن معين يوسع له نطاق بحثه بعد أن ضيقه وقصره على العقل وحده.
مناعة السؤال
إلى الآن تحدثنا عن آليتين يمكنهما مساعدتنا على الإقتراب أكثر فأكثر من الحقيقة الكبرى وهما: الحذر من فتنة الجمال بتفكيك الصيغ الجمالية تحرّيأً عن حقيقة الأفكار، وتوسيع نطاق البحث للنفاذ إلى جزء أكبر من تركيب الحقيقة. ونختم هذا المقال بالحديث عن سيد العوامل: السؤال. فمداومة السؤال هو المصل الذي يقي الأفكار من العطب. ولخطورة هذا الدور فقد يتحول أحياناً إذا ما أسيئ استخدامه ليصبح سبب العلّة. وربما كان أحد أسباب تفوق المنهج العلمي على المناهج الأخرى هو قدرته على إنتخاب أفضل الأسئلة وطرح ما سواها من أسئلة تقود في نهاية الأمر إلى الشطط واللغو. فالتخصصية التي أرساها المنهج العلمي دفعت العلم ليصبح أكثر تركيزاً بعد أن تم تحييد أسباب التشتت الناتجة عن مجموعة واسعة غير ملمة بالتفاصيل، تلقي مجموعة من الإعتراضات التي تفتح أبواباً كثيرة للجدل الذي لا يقود إلى إضافة، بل إلى نوع من السفسطة الفارغة من عينة:
وكأننا والماء من حولنا.. قوم جلوس حولهم ماء
ويقال إن الناس تنطق مثلنا.. أما الخراف فقولها مأماء
كل الرجال على العموم مذكر.. أما النساء فكلهن نساء
هو نوعٌ من الشطط الذي ينتج إما عن جمال الصياغة كما في المثال السابق، أو قوة جدل وحضور صاحب الإعتراضات، ولكنها في النهاية اعتراضات فارغة وأسئلة مُشتته لا تقود إلى أي جديد، بل ربما تُشّوه قديماً مفيداً. بينما المنهج العلمي استطاع تطوير آليات ناجحة في تحديد الأسئلة الهامة وحدها وصرف انتباهه إليها. يقول توماس كون[xii]: “إن أحد الأشياء التي يكتسبها متحد علمي بفضل “البراديغم” هي معيار اختيارمشكلات (أسئلة) يفترض أن لها حلول. بينما يعزل مشكلات أخرى تتعدى حدود ما تستحقه من وقت، إما لكونها ميتافيزيقية أو تخص نظاماً معرفياً آخر. وبذلك يعزل “البراديغم” المتحد المعرفي عما يُمكن أن يكون انحرافاً في الإنتباه”. هذه العزلة هي التي سمحت للعلم بالتركيز على أسئلته بعيداً عن تشتيت المتطفلين. وقد كان ذلك ممكناً لطبيعة العلم ذاته التي لا تجذب إليه إلا المهتمين به، وهم دائماً قلة بخلاف فروع أخرى يقبل عليها عدد أكبر من الناس كالشِعر والدين. يقول كون[xiii]: “إن أكثر الشعراء غرابة أو أكثر اللاهوتيين تجريداً هم معنيون أكثر من العالِم بموافقة جمهور الناس على عملهم المبدع. بينما العالِم لا يعمل إلا لجمهور من الزملاء، وهم يشاركونه في قيمه ومعتقداته، ولذا يستطيع أن يأخذ مجموعة واحدة من المعايير ويُسّلم بها. ولذلك يقدر أن يحسم مشكلة ويتقدم إلى المشكلة التي تليها بأسرع من هؤلاء الذين يعملون لمجموعة أكثر ابتعاداً عن التمسك بمعتقدات معينة”. ولذا فإنّ من الجرائم الفكرية طرح موضوع على قدر من التخصص للنقاش العام بمرجعية نسبية، بمعني أن يكون لكلٍ رأيه دون التقيد بمعايير متفق عليها. فذلك لا يقود إلى حقيقة وإنما إلى فوضي أكثر تدميراً حتى لو كان الغرض من النقاش هو تنقيح الأخطاء. وقد قال فرانسيس بيكون “ظهور الصدق من الخطأ أسرع من ظهوره من الفوضى”.
فجزء كبير من مناعة الفكر هو بمداومة السؤال السليم وعدم الرضوخ للكسل والجمود. والتجديد الحقيقي يبدأ من طرح الأسئلة الصحيحة أكثر منه من تقديم إجابات. لقد أهدى إلينا الدكتور زكي نجيب محمود ثلاثيته[xiv] التي يتأمل فيها بما حاق بالعقل العربي من جمود وأخذ يُنقّب عميقاً عن أسباب ذلك الجمود ويبحث لنا عن معين علي كسره. ففي كتابه “تجديد الفكر العربي” كان حائراً في التوفيق بين التراث القديم الذي ما زال حياً فينا، وثقافة العصر التي تفرض نفسها علينا. وفي كتابه “المعقول واللامعقول” أخذ يستطلع التيارات الفكرية المختلفة التي سادت الحضارة العربية بدءاً من عصر الخلافة الراشدة إلى عصر الجمود الذي بدأ بنهاية الدولة العباسية، وأخذ يشير إلى بعض التيارات التي استطاعت عن طريق العقل تقديم أطروحات تصلح لأن نستدعيها اليوم دون أن تتصادم مع العصر لتكون الجسر بيننا وبين تراثنا. ولكن هانز ريشنباخ يُقدّم لنا معياراً أفضل من ذلك في ربطنا بالتراث دون الغرق فيه، والاستفادة منه بدلاً من هدمه، وهو أن نقف في التراث على أسئلته لا على إجاباته. يقول ريشنباخ[xv]: “كيف يتسنى للعقل كشف الحقيقة التركيبية؟ على هذه الصورة وجّه كانط هذا السؤال، بعد ما يربو على ألفي عام من عصر أفلاطون. لم يكن أفلاطون قد صاغ السؤال بهذا القدر من الوضوح”. ويضيف: “من الواجب عند قراءتنا للعرض الذي يُقدّمه الفلاسفة لمذاهبهم أن نُركّز إنتباهنا على الأسئلة لا على الإجابات المُقدمة. ذلك لأن كشف الأسئلة الأساسية هو في ذاته إسهامٌ عظيم الأهمية في التقدم العقلي، وعندما يُنظر إلى تاريخ الفلسفة على أنّه تاريخ الأسئلة، فإن الوجه الذي يتبدى عليه يغدو أخصب بكثير من ذلك الذي يبدو لنا عندما ننظر إليه على أنه تاريخ للمذهب”.
فالعبقرية تكمن في تحديد السؤال السليم. وذلك لأنه كما ذكرنا في فقرة “دوار الفكر”، فالأفكار والمذاهب المختلفة تدور في كل العصور لأنه لا يمكن أبداً الوصول للحقيقة النهائية. ولذا نحن متصلون بالماضي بعمق، ولسنا منفصلين عنه كما يحلو لكثيرين أن يُروّجوا. ولكّن الأفكار لا تعود بنفس شكلها القديم، بل تتقولب في أشكال جديدة، ويمكن أن تقترب اكثر من الحقيقة النهائية إذا ما تم استدعاء الأسئلة القديمة بشكل أكثر عمقاً وتحديداً كما فعل كانط مع أفلاطون.
كانت تلك وقفة مع الحقيقة وحُجُبِها وطرق الوصول إليها. ربما نعود مستقبلاً لإستكمال جوانب أخري عجزت عن الإلمام بها في هذا المقال، أو لتصحيح بعض ما قد يتكّشف من أخطائها.. والله من وراء القصد.
المصادر والمراجع:
[i] أ.س.رابوبرت، مبادئ الفلسفة، ص11
[ii] عبدالوهاب المسيري، الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، ص 54 و55
[iii] بليز باسكال، خواطر، ص 107، ص 102
[iv] – فريمان دايسون متحدثاً عن فيرمي https://www.youtube.com/watch?v=hV41QEKiMlM
[v] توماس.س.كون، بنية الثورات العلمية، ص 290؛ ص 299
[vi] سورة هود، الاية 87
[vii] سورة المائدة، الآية 3
[viii] سورة البقرة، الآية 113
[ix] أفلاطون (ترجمة زكي نجيب محمود)، محاكمة سقراط، ص 16؛ ص 18
[x] أفلاطون (ترجمة زكي نجيب محمود)، محاكمة سقراط، ص 49
[xi] هانز ريشنباخ، نشاة الفلسفة العلمية، ص 25
[xii] توماس.س.كون، بنية الثورات العلمية، ص 102
[xiii] توماس.س.كون، بنية الثورات العلمية، ص 276
[xiv] زكي نجيب محمود، تجديد الفكر العربي – المعقول واللامعقول في تراثنا – ثقافتنا في مواجهة العصر
[xv] هانز ريشنباخ، نشاة الفلسفة العلمية، ص 34