مفاجأة سبينوزا.. هل نحنُ “مُخيَّرون” حقّاً؟ (١)

لا شكّ في أنّ كثيراً منّا يعتقد اليوم أنّ سؤال الـFree Will ("الإرادة الحرّة") هذا قد أصبحَ وراءَنا إلى غير رجعة. من الذي يشكّ أو يشكّك بعدُ في أنّنا "مُخيّرون"، كما بتنا نُعبّر عادةً بلغتنا العربيّة؟

مهلاً؛ قد يتفاجأ كثيرون إذا ما راجعوا أعمال أهمّ الفلاسفة والمفكّرين، من كلّ الثّقافات وإلى يومنا هذا: إذا ما راجعوا أعمالهم، بتعمّق، حول هذه القضيّة. فقد تكون فرضيّة الـ(Libre Arbitre) هذه تصحُّ فقط عند الأقلّيّة، بعكس ما نظنّ.. أو أقلّه، لنقلْ إنّها بعيدةٌ عن أن تشكّل موضع اجماع (أبداً).

فكيف يُمكن فهم هذه المعضلة التي قد يُعيدُ احياؤُها أعلاماً كباراً من قبورهم، إدانةً ورفضاً، امتعاضاً وثورة: من أمثال كارل ماركس، جان بول سارتر، ألبير كامو، ومن أمثال كثير من المفكّرين والفلاسفة الذين يبنون صروحَهم الفكريّة والمفاهيميّة عموماً على الحرّيّة الفرديّة (التي لا تقوم ولا تستقيم بلا اثبات الـ(Free Will) المُبين طبعاً)!

كيف يُمكن فهم وجود عدم التيقّن هذا إلى اليوم، ووجود التّردّد هذا، ووجود عدم الاتّفاق هذا، حول هذه القضيّة.. التي قد نظنّ، خصوصاً ضمن سياق هيمنة مفاهيم الرّأسماليّة اللّيبراليّة حاليّاً، أنّها قد حُلّت بالفعل منذ زمن بعيد، كما ذكرنا، وأنّها باتت من أساطير الأوَّلين.. وتحديداً الأوَّلين “الرّجعيّين” أو “المُتخلّفين” أو الجامدين أو المستسلمين.. إلى ما هنالك من تسميات؟

***

يُعرِّفُ مفهومَ الـ(Libre Arbitre) (“الإرادة الحرّة” إذن) أحدُ الفلاسفة المعروفين والمحوريّين حاليّاً في فرنسا وفي الغرب، أقصد الفيلسوف والبروفسور والكاتب والوزير الفرنسيّ السّابق، لوك فيري.. يُعرّفهُ كما يلي:

-“الايمان بوجود حرّيّة بشريّة قادرة على أن تخرُج بنفسها عن الواقع الحقيقيّ لتدخلَ في مُقاومة ضدّ القَدَر[1]“.

أو بشكل أبسط وأوضح ربّما:

-“القدرة على الاختيار بين “إمكانيّات (أو مُمكنات)”، بين خيارات مُختلفة[2]“.

كيف يُمكن نفيُ وجود “حرّيّة” كهذه؟ أليست من البديهيّات التي نعيش جميعاً معها وضمنها في كلّ يوم وفي كلّ ساعة.. بل وفي كلّ لحظة؟ كيف يُمكن التّشكيكُ بالـ(Free Will) المُبين.. من قبل المؤمنين “بالإله” وغير المؤمنين به على حدّ سواء؟ هل جُنّ البعض أم اختلّ توازنه العقليّ.. أو أنّنا قد عدنا إلى أوهام الأيّام الغابرة؟

الأكيد أنّ هؤلاء “البعض” كثيرون على كلّ حال، ومنهم أعلام كبار ومدارس عريقة. يُسمّي جول فيري عادةً: أصدقاءَنا الرّواقيّين (Les stoïciens) من الإغريق والرّومان والمشرقيّين والنّاس أجمَعين؛ وكثيراً من الحكماء والسّالكين والمفكّرين البوذيّين؛ بالإضافة إلى السّبينوزيّين واللّايبنيزيّين وبعض الهيجيليّين وأتباعهم أجمَعين (نسبةً إلى الفلاسفة: سبينوزا ولايبنيتز وهيجل).

ولكنّه يُشدّد طبعاً على من يعتبره (نقداً وانتقاداً) شيخَ القَدَريّين الغربيّين المُحدثين أجمعين: أقصدُ منارَ الحكماء، ودليلَ العقلاء، وهاديَ الغربيّين من العرفاء، أخَ السّالكين، ورفيقَ المتوكّلين، وحبيبَ المتأمّلين.. باروخ سبينوزا (ت. ١٦٧٧ م).

أمّا بوتلر-باودن[3] فهو يذكر أيضاً، بالإضافة إلى سبينوزا، بعضاً ممّن ينفون الإرادة الحرّة عمليّاً، أو يشكّكون فيها بشكل ملموس و/أو خطير، ولو بطرق مختلفة: رالف والدو إيميرسون، دايفيد هيوم، فرايدريخ نيتشيه، جوليان باغيني.. وطبعاً، الفيلسوف الألمانيّ آرثور شوبنهاور. وهو يضيف الفيلسوف الأمريكيّ المعاصر سام هاريس، الذي سنعود إليه لاحقاً.

ويمكننا أن نضيف إلى كلّ هؤلاء، طبعاً، بعض الجَبريّة ضمن ثقافتنا العربيّة-الإسلاميّة، وبعض الجَبريّة من أهل الأديان السّماويّة وغير السّماويّة، وبعض المتصوّفة من اليهود والمسيحيّين والمسلمين والرّوحيّين أجمَعين (بمن فيهم بعض إخواننا الهندوس والطّاويّين).

***

كيف يُمكن، إذن، أن نصل إلى نتيجة كبيرة وخطيرة كهذه: تنفي وجود الـ(Free Will) المُبين؟

على غرار البروفسور لوك فيري، واستناداً إلى شرحه العلميّ والدّقيق والمشهود له أكاديميّاً لمفاهيم سبينوزا على ما نعلم، سنعرض في ما يلي واحداً من أهمّ الصّروح الفكريّة في تاريخ الإنسانيّة ربّما.. ومن أكثرها بساطةً في نهاية المطاف، ومن أكثرها خطورة على صديقنا الـ(Free Will).

إنّه الصّرح السّبينوزيّ العظيم، والذي نُشدّد على عدم أخذه بغير محمل الجدّ: لِعُمقه، وتَماسكه (الدّاخليّ أقلّه)، وشُمُوليّته، وحَدَاثته النّسبيّة، وكثرة أتباعه النّسبيّة أيضاً وإلى اليوم، خصوصاً ضمن النّخب الغربيّة[4].. وتَأثيره الأكيد على حياتنا اليوميّة، وعلى فهمنا لهذه الحياة من أساسها وبرمّتها. عند هذا الحدّ، يتوجّب التّنويه أيضاً بقرب الصّرح السّبينوزيّ عموماً من الصّرح الذي حاولنا عرضَه السّنة الماضية عندما تناولنا موضوع تواجد الشّرّ في الحياة البشريّة: أعني صرح عَلَمِ العقلانيّين الغربيّين، وقُدوةِ المنطقيّين والرّياضيّين أجمَعين، غوتفرييد فيلهم لايبنيتز (ت. ١٧١٦ م).

إذن: هل جُنّ سبينوزا، الشّيخُ التّوحيديُّ العقلانيُّ الغربيُّ الأكبر.. أم عنده لنا خبرٌ يقين؟

***

كلّ شيء يحصل “الآن” أو سيحصل “بعد حين”؛ ليس نتيجة لخياراتنا الشخصية، إنّما يحصل وسيحصل بسبب سلسلة لا-متناهية من الأسباب الموضوعيّة، التي لا يعلم تفاصيلَها منذ الأزل (وإلى الأبد) إلّا “الإله” نفسه.. وهذا “الإله”، في نهاية المطاف، ما هو إلّا هذا “الكون الواعي الذّكيّ الكامل الواحد” بعينِهِ، بحسب سبينوزا أيضاً

في البداية، يطلب منّا سبينوزا أن نهدأ قليلاً. وربّما أن نأخذ نَفَساً عميقاً.

ثمّ، يطلب منّا أن نتأمّلَ ونتفكّرَ في الكون وفي الطّبيعة من حولنا مليّاً. حسب شيخ السّبينوزيّين سنصل إذن إلى ما يلي: لو استخدمنا حدسنا الحسّيّ وعقلنا المُفكّر العقلانيّ فقط، أي حتّى بلا استخدامٍ للعقلِ أو الحدسِ الرّوحيّ، سنصل إلى أنّ الكون والطّبيعة محكومان بقوانين المنطق والعقلانيّة وبشكل دقيق لا-متناه الدّقّة (والابداع).

هل يستطيع أن ينفيَ أحدُنا ذلك؟

إذن، الكون (من زواياه الظّاهرة والباطنة على السّواء) محكومٌ بشكل لامتناهي الدّقّة، بحسب سبينوزا:

  • بقوانين المنطق (وأولها شيخ القوانين المنطقيّة: “عدم اجتماع ولا ارتفاع النّقيضَين: (Principe de non-contradiction)”؛ مثلاً؛ لا يُمكن لشيء ما أن يكون موجوداً وغير موجود في الوقت نفسه)؛
  • بقوانين العقلانيّة (Rationnalisme)، وعلى رأسها قانون السّببيّة المُبين (كلّ شيء في هذا الكون، مهما كبر أو صغر، له سبب، وبالضّرورة)؛
  • (ضمن قوانين العقلانيّة أيضاً) بقانون ذي أصلٍ منطقيّ-رياضيّ، وهو “قانون الأفضل” (Le principe du meilleur) الغالي على عقل وقلب لايبنيتز، وهو يعني باختصار أنّ الكون والطّبيعة يختاران في كلّ الأمور والأشياء والكائنات: من بين جميع الطّرق العقلانيّة المُمكنة، أكثرَها بساطةً وأحسنَها تقديماً (أو أناقةً – واقتصاداً أيضاً – بالمعنى الرّياضيّ إن شئت).
إقرأ على موقع 180  مسيرة الأعلام والأوهام.. أي وحدة فلسطينية مطلوبة؟

من هنا، وبالأخصّ بناءً على قانون السّببيّة الضّروريّة المُبين، يستنتج الشّيخ الكبير سبينوزا كما يلي: إذا كان كلُّ شيء وُجد و/أو ظَهر و/أو تَحرّك لسبب، وبأفضل وبأبدع وبأدقّ وبأذكى وبأبسط وبأجمل (إلخ..) ما يُمكن أن يكون.. فكيف نؤمن بعدُ بالخيار وبحريّة الاختيار؟ يلزمنا، حسب سبينوزا، قليلٌ من الحكمة لكي نعي، انطلاقاً ممّا سبق كلّه: أنّ الأشياء كلّها هي كما يتوجّب أن تكون.

إنّ الاعتقاد بأنّ هناك مكاناً للطّارئ (Contingent) في هذا الوجود، كما يدّعي ألبير كامو مثلاً في عصرنا: هو الهَذَيان (Délire) عينُه، بحسب سبينوزا وأتباعه. إنّ قوانين المنطق والعقلانيّة (والكمال ضمنيّاً) التي تتحكّم بهذا الكون تفرض أنّه ما من خيارات مُمكنة أصلاً: قاعدة “لم يكن بالإمكان أبدع ممّا كان” تُصبح عند سبينوزا (ولايبنيتز طبعاً) “ليس بالإمكان أكمل ممّا كان”..

بل، وهنا يكمن جوهر القضيّة مع سبينوزا، تُصبح القاعدة الكبرى: “لم يَكُن، ولَيسَ بالإمكان.. إلّا ما كان”!

يقول لك سبينوزا: لم يكن، وليس بالإمكان، إلّا ما كان. وما كانَ كان.. وما لم يكُن لم يكُن. فكفاك توهّماً بأنّ هناك “خيارات” أمامك عليك أن تختار من بينها، من خلال ارادتك الحرّة (Free Will). ماذا عن الأفكار بل ماذا عن النّيّات؟ يُجيب سبينوزا: من يعتقد بأنّ الأفكار والنّيّات تخرج عن قانون السّببيّة المُبين المَتين.. فهو يُمعن في الوهم وفي الهذيان. كلّ فكرة تأتيك في أيّ وقت مُعيّن، هي أيضاً محكومة بقانون السّببيّة: هذه الفكرة تُفسَّر بالسّببِ الفُلانيّ، الذي يُفسَّر بدورهِ بالسّبب الفلانيّ، الذي يُفسَّر بدورهِ بالسّبب الفلانيّ.. إلى آخر القائمة اللّا-متناهية. كذلك النّيّات: كلّ ظهور لنيّة في ذهنك، له سبب، يتخطّى ارادتَك الحُرّة الموهومة، وهو محكوم بقانون السّببيّة الكونيّ.

باختصار، يقول لنا سبينوزا حول هذه النّقاط:

(١) لم يكن بالإمكان إلّا ما كان. وبالتّالي: “الواقع يُساوي الكَمال” إذا ما نظرتَ إلى الكون في كُلّيته (تذكّر Zoom Out لايبنيتز)؛

(٢) أفكارنا ونيّاتنا وأعمالنا ونتائجها جميعاً: محكومة بقانون السّببيّة الأزليّ والضّروريّ؛

(٣) وبالتّالي، ما حصل ويحصل ضمن الكون (وفي حياتنا اليوميّة) ليس نتيجةً لخياراتنا الشّخصيّة أبداً، وإلّا لكنّا في كونٍ مُخالفٍ للمنطق وللعقلانيّة.. وهذا غير ممكن بالتأكيد. فكلّ شيء يحصل “الآن” أو سيحصل “بعد حين”؛ إنّما يحصل وسيحصل بسبب سلسلة لا-متناهية من الأسباب الموضوعيّة، التي لا يعلم تفاصيلَها منذ الأزل (وإلى الأبد) إلّا “الإله” نفسه.. وهذا “الإله”، في نهاية المطاف، ما هو إلّا هذا “الكون الواعي الذّكيّ الكامل الواحد” بعينِهِ، بحسب سبينوزا أيضاً.

***

قد يعتقد بعض السّبينوزيّين على الأرجح: بأنّ كثيراً من الاكتشافات الحديثة تدعم وتُدعّم رؤيتهم الكوسمولوجيّة-الطّبيعيّة هذه (ذات الأركان العقليّة-العقلانيّة كما رأينا). نُحيل القارئ في هذا الإطار، مثلاً، إلى مقالاتنا السّابقة حول وجود “الإله” على موقع 180Post والتي تناولنا فيها في ما تناولناه: مسألة الضّبط الدّقيق للكون (Fine Tuning)، وفرضيّات مدرسة المبدأ الأنثروبولوجيّ بقيادة العالِم الأمريكيّ المعاصر روبرت ديك.

قد يسأل السّبينوزيّون: أليس هذا دليلاً على تأكيد المُلاحظة والتّجربة (جانب الاستقراء، Induction) لما وصل إليه شيخُنا الأكبرُ من خلال التّفكير والاستنباط (جانب القياس المنطقيّ، Déduction)؟ ألم يثبت أنّ الكون الظّاهر، خصوصاً منه الفيزيائيّ، مضبوط بدقّة “ذكائيّة” لا-متناهية.. وبالتّالي هو محكوم، بدقّة لا-متناهية أيضاً، بقوانين المنطق والعقلانيّة؟

إذن، من خلال الاستقراء والملاحظة والتّجربة أيضاً، بحسب التّفكير السّبينوزيّ: تمعّنوا جيّداً أيّها المعاصرون.. إذ ليس بالإمكان إلّا ما كان! نعم: ليس بالإمكان إلّا ما كان! فعلاً، هذه الدّقّة اللّا-متناهية، والعقلانيّة الطّابع: تُثبت مُجدّداً أنّه لم يكن بالإمكان، وليسَ بالإمكان.. إلّا ما كان!

الفكرة ذكيّة حقيقة: هل تَحكمُ القوانينُ العقلانيّةُ كلَّ جُزيْء في الكون، وكلَّ الكون، منذ الأزل.. ثمّ تُعطي الخيارَ لكائنات اكتسبت بعضاً من الوعي والذّكاء.. في أفضل تقدير، بعد ١٠ مليارات سنة من بداية هذا الكون الظّاهر (مثلاً)؟

هل يُحكم كلّ شيء بقوانين عقلانيّة دقيقة، منذ الأزل.. ثمّ، فجأةً، يُصبح عند بعض الكائنات “خيارٌ” أو “رأيٌ” في مجرى الأمور والأحداث الكونيّة-الطّبيعيّة؟ ألا تشعرون، أيّها النّاس، من غير السّبينوزيّين ومن أهل الإرادة الحرّة أجمَعين: بأنّكم أمام الهذيان المُبين؟

في انتظار اكمال الحديث.. لا بُدّ هنا من الإقرار، حقّاً، بأنّ سبينوزا، هذا الفيلسوف المتنوّر الغربيّ الكبير، وفي الأغلب: يُفاجئ عقولنا المعاصرة ويهزّها، وبشكل عميق! هل قلتم إنّ الإنسان لا يملك إرادة حرّة عمليّاً.. وأنّ كلّ ما يملكه هو مجرّد التّسليم، لـ”إله” أو لـ”كَون” حكيمٍ بديعٍ عليم؟

ما الذي علينا “فعلُهُ” إذن، يا أيّها الشّيخ العقلانيّ العجيب، ويا مَعشر السّبينوزيّين وأتباعهم وأعوانهم وأشباههم أجمَعين؟ (يُتبع)

المصادر والمراجع:

[1] Ferry, Luc, 2022, La vie heureuse : sagesses anciennes et spiritualité laïque, Editions J’ai Lu, p. 61-62. ص.ص. ٦١-٦٢.

[2] المصدر نفسه، ص. ٨٩.

[3] Butler-Bowdon, Tom, 2017, 50 Philosophy Classics: Your shortcut to the most important ideas on being, truth, and meaning, London-Boston: Nicholas Brealey, p. 114-117. ص. ص. ١١٤-١١٧.

[4] مثل آينشتاين على سبيل المثال لا الحصر، وفرويد إلى حدّ بعيد.

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  التّصوّف المسيحيّ الفرنسيّ لم يمت.. Jean Prieur نموذجاً (1)