ماذا بقي من الحضارة الغربية؟

ليست الحضارة في تطاول البنيان وتعاظم الإستهلاك، ولا هي في إتساع الشوارع وإستضافة المسابقات والمؤتمرات الدولية أو اللهاث وراء الماركات العالمية من مأكل وملبس. ليس ذلك إلا نوعا من سحر الأعين الذي برع به سحرة فرعون ففتنوا عقول الناس بسحر أعينهم حتى لا يكشفوا زيف ما يقدمونه لهم.

الحضارة عبارة عن فوران داخلي يدفع إلى الخلق وإلابداع لا التبعية والإستهلاك. يصفها علي شريعتي في كتابه “البحث عن الذات” فيقول: “نري عربيا نصف بدائي، بدويا من قطاع الطرق اسمه جندب بن جناده، كانت كل دنياه عبارة عن صنمه والقبائل المحيطة به. ولكنه بعد الاسلام صار أبو ذر الغفاري. إذا تحدث تحسبه برودين أو ديستيوفسكي، مفكرا مستنيرا ثوريا عالما في الاجتماع والاقتصاد وعلم الانسان. وهو رغم كل الطريق الذي قطعه بين كونه جندبا وكونه أبو ذر، لا يزال بعيره كما هو وملبسه وطعامه وزينته كما هي.. ذلك لأن الحضارة ثورة تدريجية في الانسان، وليست سلعة أو مجموعة من السلع المستوردة”.

شغلت الحضارة الكثير من المفكرين والفلاسفة وعلماء الاجتماع.. ما هي؟ ما جوانبها؟ متي تولد؟ هل تموت؟

قضي ول ديورانت عمره كله في تتبعها في موسوعته الضخمة “قصة الحضارة”، واستطاع اسوالد اشبنجلر أن ينفذ عميقا من تلك الظاهرة في كتابه “تدهور الحضارة الغربية”. وتناولها كثيرون من زوايا مختلفة أمثال صامويل هنتجنتون وماكس ويبر واميل دوركهايم وفرنان بروديل وكريستوفر داوسون. وبرغم كل تلك الجهود لا تزال تلك الظاهرة مُلغزة شأنها في ذلك شأن الكيانات المتجاوزة لطاقات الانسان. فقدرات الإنسان محدودة في الزمان والمكان؛ عمره محدود بعشرات السنين، وعيناه لا ترى من الضوء الا مجموعة محددة من الترددات وكذلك أذنه ولمسافات لا تتعدى بعض الكيلومترات. لذا، فإنّ الظواهر التي تتخطى تلك الحدود غالبا ما تكون مختلطة بكثير من الأوهام والضلالات. ذلك النوع من الوهم مشابه لإستخدام كاميرا ذات موجة طويلة في التصوير فتأتي جودة الصورة ضعيفة مشوشة فاقدة لكثير من التفاصيل. وكما في العلوم الطبيعية، فإنّ الكيانات الشديدة الضخامة كالكون أو الشديدة الضآلة كالجسيمات الأولية ما زالت تفتقر إلى نظرية تامة لوصفها.

الحضارة تعد أضخم الكيانات الاجتماعية التي يمتد عمرها إلى قرون وتتسع رقعتها لتضم مجموعة من الدول والأعراق والمعتقدات. كيانٌ بهذا التعقيد والامتداد في الزمان والمكان يصعب على الرصد الدقيق والتحليل النهائي. ولذا اختلفت العقول في رصدها فشكّلت طيفا واسعا من الآراء. منهم من ذهب إلى أسبقية العوامل المادية في نشأة الحضارة كابن خلدون الذي قسّم العالم إلى أقاليم سبعة وأخذ يرجع الحضارة إلى عوامل البيئة والجغرافيا. وكذلك ول ديورانت الذي قدّم العوامل الجغرافية والاقتصادية على العوامل الأخلاقية. وقبلهم بالتأكيد كارل ماركس صاحب نظرية الحتمية التاريخية التي تتنبأ بحتمية الصراع الطبقي استنادا إلى الرؤية المادية للكون. وذهب آخرون إلى النقيض كأسوالد اشبنجلر ووافقه في ذلك الدكتور عبدالرحمن بدوي في كتابه من “تاريخ الالحاد في الاسلام” فيقول: “إنّ الحضارة تنشأ عندما تستيقظ روح كبيرة في بقعة معينة من الأرض ترتبط بها ارتباط النبتة بالتربة”. منهم من رأى أن الحضارات متصلة ببعضها مثل كارل هنرش بكر وجوستاف لوبون، بينما ذهب آخرون إلى أنها روح مستقلة منفصلة عن غيرها وهو اتجاه اشبنجلر.

أتت الفيزياء بتصور عن الكون قد يساعد في التقريب بين تلك الآراء. إذ فيها أن الأصل في الكون المجالات (كيانات رياضية مجردة غير مرصودة) وتظهر الجسيمات المادية التي تشكل المادة على إختلافها كاثارات أو تموجات مؤقتة لتلك المجالات. وإذا اعتبرنا أن “الروح الفوّارة” التي تحدث عنها شريعتي أو “الروح الكبيرة” التي ذكرها بدوي هي ما تعادل المجال الحضاري الذي تستمد منه الحضارة وجودها، تصير الحضارة إذاً إثارةً مؤقتةً في ذلك المجال. بذلك تكون الحضارة في أصلها روح، ولكنها لا تتشكل إلا بفعل عوامل مادية هي التي تثير تلك الروح وتجسدها. وتكون الحضارة الإنسانية واحدة منذ القدم، ولكنها في كل طور من أطوارها متميزة كما لوكانت كائنا جديدا منقطعا عن غيره.

الحضارة والثقافة

وكما في الفيزياء، فإن الالكترون مثلا هو جسيم متميز مستقل تمام الاستقلال عن البروتون، ومع ذلك يُمكن أن يُولد البروتون من الالكترون في عملية يمكن وصفها بالإتصال والإنقطاع معا. الإنقطاع في أنهما كيانان مستقلان لا يمكن أن يخرج أحدهما من الآخر، والإتصال في أنهما نابعان من مجال واحد تقريبا ولكن ظهور الثاني في لحظة ما وموقع ما يتطلب فناء الأول في لحظة سابقة ومكان آخر بحيث تحول طاقته لتخليق الثاني. وبذلك تكون الحضارات كيانات مستقلة تماما في روحها كما قال اشبنجلر، ولكنها مع ذلك ما كانت لتتشكل لولا إثارتها بفعل طاقة انطلقت من حضارة سابقة تبدّدت. وبذلك أيضا تكون الحضارة كيانا مؤقتا وان كان عمرها أطول كثيرا من عمر الفرد، ولكن لا بد لها من نهاية بعكس ما ادعاه فرنسيس فوكوياما في “نهاية التاريخ” وان كان اعتذر عنه بعد ذلك كما أشار الأستاذ محمد نعيم في مقاله “نهاية نهاية التاريخ”[1].

كذلك وفقا لذلك التصور، لا يمكن للحضارات أن تتصادم كما ادعى صامويل هنتجنتون لأنه لا يمكن أن تتزامن حضارتان، بل حضارة واحدة مهيمنة يتشارك فيها الجميع، وإنما الصدام الذي ذكره في كتابه هو صدام بين مُستغِلٍ ومُستَغَل؛ مُحتلٍ ومُحتَل وليس صداما بين حضارة وحضارة.

وجوهر ما سبق أن ألصق صفة بالحضارة هي الثقافة، وألصق صفة بالثقافة هي التمركز حول الموضوع. فالحضارات تتمايز وفق تصور كل منها لأسئلة ثلاث: من نكون؟ من أين أتينا؟ ما الغرض من وجودنا؟ وما يميز تلك الأسئلة أنها خالية من الذات.. مشغولة بالموضوع. بمعنى أن الحضارة رؤية شاملة للكون تنعكس في العقائد والفنون والعلوم والسياسة والإقتصاد وكل جوانب الحياة، فتُفجّر الأبداع والخلاّقيّة الفكرية. وبذلك تكون أولى مؤشرات ضعفها وتراجعها الانسحاب من الموضوع والإنشغال بالذات. فبدلا من الاتجاه إلى الخارج حيث العالم، يحدث انسحاب إلى الداخل حيث الإنكفاء على الذات. وبدلا من التوجه نحوالخلاّقيّة والابداع، يبدأ الانشغال بالتبديد والاستهلاك وهو ما يشير اليه الدكتور بدوي في كتابه “بطور المدنية”. فالحضارة في تعريفه خلق وابداع والمدنية تبديد واستهلاك. وبذلك تكون المدنية أول مراحل انهيار الحضارة. والانكفاء على الذات يتبعه رفض الآخر واستعدائه، فتزّدهر العنصرية وتتفشي أفكار العرق الآري و(America will be great again) و”مصر أولاً”، فكلها شعارات تبطن فشل المشروع الحضاري والعزلة وبداية الإنحدار.

ومع شيوع الاستهلاك والتمركز حول الذات يتم الانهيار لأن أسس الحضارة، كالعقائد والفنون والعلوم والسياسة والاقتصاد، عالميةٌ في جوهرها ولكن تُسمّمها الذاتية. ومن ناحية أخرى، فإن الاستهلاك أول ما يجور يجور على تلك الروافد المفيدة ويصرف الاستثمار عنها إلى الجوانب السطحية حيث لا فائدة.

وفي كتابه “صدام الحضارات”، يُورد صامويل هنتجنتون في الفصل الثاني جدولا يرصد فيه تغير رؤية العالم الغربي لنفسه بين عام 1988 وعام 1993، فيجد تراجعا ملحوظا عن إستخدام وصف “العالم الحر” وزيادة مطردة في إستبداله بــ”الغرب” الأكثر تحديدا، وإستثناءاً لمن يمكن أن يكونوا “أحراراً” ولكنهم ليسوا غربيين. وهو وفقا لرؤيتنا السابقة، بخلاف ما قصده هنتجنتون، يشير من ناحيةٍ إلى بداية شعور الغرب بالهيمنة المطلقة، فلا حاجة إذاً للتخفي خلف الشعارات، وفي نفس الوقت بداية الانكفاء على الذات بمعنى أنه ما عاد يرى إلا نفسه. ووفقا لذلك التصور يمكننا التأريخ لبداية الانهيار الغربي بمطلع التسعينيات على عكس ما هو ذائعٌ ببداية سيادة النموذج الأمريكي للأبد، أو ما يعرف بـ”نهاية التاريخ”. ويُمكننا إذاً أن نستكشف مدى تأثر أسس الحضارة الغربية بذلك التراجع على مدى ثلاثين عاما.

الحضارة الغربية والدين

الدين هو ألصق الجوانب المعرفية بالحضارة، حتى ذهب البعض إلى تلخيص الحضارة في دينها، فقال قائلهم تولد الحضارة بمولد الإله وتموت بموته. أي أن الحضارة تنشأ ببزوغ عقيدة دينية ما وتستمر ما اتصلت تلك العقيدة ويكون النكوص عنها أهم مؤشر على نهاية تلك الحضارة. حتى أنّ كثير من الحضارات تنسب إلى الدين، فيقال الحضارة الاسلامية والحضارة الهندوسية والحضارة الكونفوشية والحضارة الارثوذكسية.. أما التي لم تُعنون بدينها فكان الدين مركزاً فيها. فلا يغفل أحد أن الحضارة المصرية القديمة كانت شديدة التمركز حول الدين وكل ظواهره، حتى أنّ ما بقي منها كانت المعابد والمقابر وليس قصور الحكام. فرفض الدين أو تحييده علامة نهاية في كل الحضارات السابقة. ويقول الدكتور بدوي في مقدمة كتابه عن علاقة تفشي الالحاد بنهاية الحضارة: ” ظاهرة الإلحاد ضرورية النشأة في كل حضارة عندما تكون في طور المدنية، ذلك لأن الإلحاد نتيجة لازمة لحالة النفس التي استنفدت كل امكانياتها الدينية فلم يعد بعد في استطاعتها أن تؤمن”.

الإلحاد ينشأ من دوافع مختلفة وليس المدنية وحدها، ويمكن حصر أربعة أوجه له. الوجه الأول الإغترار بالعقل والعلم إدعاءاً بأن العلم قادرٌ على تفسير كل شيئ، وهو إلحاد بعض الفلاسفة والعلماء. الوجه الثاني إلحاد الغضب، وهو نتيجة الوقوع فريسة لظلمٍ شديد أو فقدٍ عزيز، فهو نوع من الثورة والإعتراض على القدر. ذلك أقرب أنواع الإلحاد إلى الايمان لأنه في جوهره مقر بالإله ولكنه ساخط عليه. غالباً ما يتفشى ذلك الإلحاد في عصور القهر والإستبداد. فبدلاً من الثورة على الطاغية المستبد، لما قد يكون لها من ثمن غالٍ، توجه طاقة الغضب تلك إلى الإله كنوع من خداع النفس وإيهامها بالشجاعة والجرأة في عرض الأفكار التي قمعها المستبد. أي يتم إحلال المستبد محل الإله والثورة ضد الإله بإعتباره حاكما. والوجه الثالث إلحاد التقليد، وهو منتشر في الأوساط الثقافية والأكاديمية لأن هناك عدداً من الفلاسفة والعلماء ذوي ميول إلحادية فيخلط البعض بين الذكاء والإلحاد ويميل إلى الإلحاد ظنا أنه بذلك صار ذكيا منهم.. وذلك إلحاد مثير للاشمئزاز. وأخيراً إلحاد الشهوات، وهو ما قصده الدكتور بدوي وقرنه بالمدنية، وذلك هو مؤشر إنهيار الحضارة. فالوجوه الثلاثة الأولى يُمكن أن تصاحب كل أطوار الحضارة، بينما الأخير فقط فهو ما يتفشى في نهايتها. ذلك أنّ الحضارة في مرحلة الإبداع تكون قد أنتجت كما كبيرا من المدنية والملذات التي يُقوّض الدين الإنغماس فيها. وكذلك تكون قد وصلت إلى حالة من الإفلاس الروحي الذي يُصّعد من شعور الانسان بالإغتراب والألم فيندفع إلى الملذات والشهوات لتسكين ذلك الألم. ولكّن الملذات والشهوات تكون مصحوبة بألم روحي آخر ما بقي الدين.. فيكون إنكاره. وكل الدوافع السابقة مواقف سلبية: الغرور، الغضب، التقليد، الشهوة يجمعها موقف سلبي عام هو الإنكار، إذ أنّه لا يتطلب أي مجهود بعكس الإثبات الذي يتطلب اقامة البرهان. ذلك التحليل يُقربنا من فهم الإحصاءات التي يقدمها موقع Pew research center[2] من أن الإقتناع بالإلحاد يتراجع بتقدم العمر، وأنه أكثر انتشارا بين الذكور من الاناث، ويتزايد بإزدياد معدل الدخل، وأنه ثمة ارتباط بين العزوف عن الزواج والإنجاب بالإلحاد. فكلما زادت طاقة الانسان وقدرته زاد إغتراره بذاته وجنح أكثر إلى التحلل من كل قيد قد يعيقه عن الاستمتاع بما نال. ويُقدّم الموقع كذلك إحصاء لتنامي ظاهرة الإلحاد في المجتمع الأمريكي[3]. والمثير للدهشة ان تراجع الدين في الولايات المتحدة وتقدم الإلحاد شهدا انعطافا حاداً منذ مطلع التسعينيات وهو نفس التاريخ الذي رصدناه سابقا كتاريخ الإنكفاء على الذات! وبذلك يتراص الإلحاد كعامل مؤكد لتوجه الحضارة الغربية نحو الذاتية وبداية انهيارها.

الحضارة الغربية والعلم

أما العلم فهو مركز قوة الحضارة الغربية حتى صار يُنسب لها أو تُنسب هي له. ولكّن العلم طوال تاريخه لم يعرف استقلالاً قط، بل كان دائماً تابعاً، وان شئت قلت خادماً، لسلطة تنوعت بين الدين تارة، والدولة تارةً أخرى، وأخيرا رأس المال. منذ العصور القديمة كان العلم مرتبطاً بالكهانة، فكاهن المجتمعات الأولى هو عالمهم وقبلتهم في كل ما استعصي عليهم. ففي مصر القديمة كان الكهنة هم العلماء الذين برعوا في الطب والهندسة والكيمياء والفلك ولم يكن ثمة انفصال بين الدين والعلم فضلا عن أن يكون عداء. فزخرت المعابد والمقابر بالنصوص التي تمس كل جوانب الحياة. واتصلت تلك الحالة في الحضارة الاسلامية. فكان ابن سينا مثلا طبيبا فيلسوفا وفقيها لغويا، وكذلك كان ابن رشد والشافعي وجعفر الصادق وجابر ابن حيان. حتى في عهد النهضة الأوروبية بخلاف ما هو سائد. فالنهضة الأوروبية فجّرها فلاسفة وعلماء كانوا إما رجال دين أو شديدي التدين وذلك ببساطة لأن العلم كان حكرا على الكنيسة وغالبية الجامعات الأوروبية رائدة النهضة كانت في أصلها مؤسسات لدراسة اللاهوت توظف العلم بكل فروعه لخدمة اللاهوت. فديكارت، باعث الفلسفة الحديثة، كان شديد التدين نذر أن يحج إلى كنيسة العذراء في لورت ماشيا شكراً لله الذي هداه إلى قواعد منهجه. وعلى مثل هذا التدين كان نيوتن ولايبنز وجورج ليميتر. هذا فقط في مجال الفيزياء والرياضيات ومثلهم كثير في باقي الفروع.

إقرأ على موقع 180  جعجع يُخفق في الاستراتيجيا و"لا يبدو شاطراً في التكتيك"!

وقد تتبع العقّاد العلاقة بين الدين والعلم في أوروبا في كتابه “عقائد المفكرين في القرن العشرين” ودحض ذلك الالتباس بين العلم والدين. فتعصب رجال الكنيسة كان مصدره في الحقيقة تعصباً لآراء أرسطو التي تسربت إلى الكاثوليكية، وقد كسر ذلك التعصب رجال آخرون كان كثير منهم منتميا للكنيسة. وبدأت النهضة بتصحيح الفلسفة والثورة على أرسطو، وليس بالثورة على الدين كما يُصوّر. ومع تطور العلم واكتشافه وسائل قد تحسم الصراعات العسكرية مثل القنابل النووية والصواريخ وغزو الفضاء انتبهت الدولة الحديثة إلى قوته واستقطبته لخدمتها كما يذهب إلى ذلك برتراند راسل في كتابه “السلطة والفرد”. ومؤخراً مع إستفحال السوق، إنحازت القوة الحقيقية إلى أصحاب رؤوس الأموال واستقطبت معها العلم لخدمتها وهو نوع من الاسكولاسية الجديدة، أي خدمة العلم لرأس المال. فرض رأس المال سيطرته على العلم من خلال تمويل الجامعات والعلماء وإنشاء أقسام الـR&D، وهو أمر قد يبدو محموداً ولكنه يحتوي على أخطار كارثية.

قديما إستخدم رأس المال العلم للترويج لمنتجاته القاتلة كما حدث مع السجائر في القرن الماضي، ويستخدمه الآن للتهوين من خطر التغير المناخي والتهرب من مسؤوليته. أصبح الممول هو المتحكم بتوجيه البحث، بل هو من يُحدّد موضوع البحث. ما يهم الممول هو كثرة الانتاج، وعليه هُجرت تخصصات كبرى في العلوم لأنها ليست ربحية! صاحب المال يريد العائد السريع الفوري لماله فأصبح تخصصا مثل فيزياء الطاقات العالية مضيعة للمال. قررت الولايات المتحدة في تسعينيات القرن الماضي (مرة ثالثة 1993) تحت ضغط من رجال الكونجرس التخلي عن تمويل ذلك التخصص لأنه مضيعة للمال. ذلك المال الذي أنفقوا مئات الأضعاف منه في الحروب والانقلابات وصناعة الارهاب. نفس تلك التهمة صارت تُهدّد تمويل وكالة الفضاء الأمريكية (NASA).

اليوم. تلك التهمة هي التهمة الأولى في الحضارة الغربية لأنها تتركز حول المادة مثلما كانت تهمة الكفر أو الزندقة في الحضارة الاسلامية هي التهمة الأولى لتمركزها حول الدين. وبالتالي كثرة استخدامها ضد التخصصات العلمية يُنذر بمصير مشابه. وبالفعل على امتداد العقدين السابقين بانت ملامح جمود علمي في الحضارة الغربية. تسرّبت الروح الرأسمالية إلى البحث العلمي، فصارت الجامعات والعلماء حريصون على زيادة الانتاج العلمي بغض النظر عن قيمة ما يُنتج. زادت الأوراق العلمية المنشورة، أكثر من خمسة مليون ورقة علمية كل عام، وتراجع الأثر. تراكمت الاكتشافات التافهة التي تخدم الصناعات الاستهلاكية في مقابل التعتيم أو تجاهل المشاكل الحقيقية.

في ورقة علمية من جامعة (ETH Zurich) المرموقة نُشرت عام 2020، أكد الباحثون المشاركون في إعدادها أن جودة البحث العلمي في كثير من التخصصات العلمية في تراجع مستمر منذ مطلع السبعينيات في كل من أوروبا والولايات المتحدة وبريطانيا مع عدم وجود أي أمل في تحسن ذلك الوضع[4]. وليس أدل على تراجع الروح العلمية في الغرب من نمو نظريات المؤامرة الغير علمية كأصحاب نظرية الأرض المسطحة والعلاج بالطاقة والتنمية البشرية والحكومة العالمية. وهكذا يلوح في الأفق الغربي جمود علمي لا مفر منه.

الحضارة الغربية والبيئة

الحياة ظاهرة منافية لقوانين الطبيعة كما يقول ايرفن شرودينجر. المتأمل للكون يدرك أن الحياة فيه استثناء وأن الموت هو القاعدة. نعم الكون شاسع ويحوي مليارات النجوم والكواكب التي تُرجح وجود حياةٍ ما به، ومع ذلك فمنذ أن أُطلقت المشاريع لرصد أي حياة خارجية محتملة منذ مطلع التسعينيات، لم نقترب بعد من رصد أي ظاهرة مماثلة خارج الأرض. الاحتمالات ما تزال قائمة ولكنها تضعف مع الوقت. الدمار يحيط بنا من كل جانب؛ كويكبات ونيازك طوّافة، أشعة كونية مدمرة عالية الطاقة، انفجارات نجمية، رياح شمسية. بالاضافة إلى الظواهر العدائية على سطح الأرض من براكين وزلازل وأعاصير وأوبئة. في العام الماضي، ضرب تركيا وسوريا زلزال قوي، لبضع ثوان راح ضحيته عشرات الآلاف وأكثر من 210 مليون طن من الركام. إنّ غضبة واحدة من غضبات الطبيعة قادرة على أن تمحو كل حضارات بني الانسان في بضع دقائق. ومع كل تلك الأخطار فان الغباء الإنساني هو أكثر ما يُهدّد الحياة على سطح الأرض الآن ويدفعها إلى حافة الإنقراض. لم تتضرر البيئة من حضارة على مدار التاريخ كما تضررت في الحضارة الغربية. فالتقدم العلمي في يد الرأسمالية سلاح ابادة. ضريبته تتراكم لعقود من العبث والاسراف الغربي المدمر للبيئة وقد آن موعد سدادها. تتوالى التقارير عن خطورة التغير المناخي. ففي العام الماضي نشرت مجلة (Nature) دراسة لمجموعة من الباحثين بجامعة جوتنبرج الألمانية حاولت تتبع السجل المناخي للأرض المسجل في حلقات الأشجار على مدى قرون. خلصت الدراسة إلى أن الصيف الماضي سجل أعلى درجات حرارة مرت على الأرض منذ ألفي عام[5]. إرتفاع درجات الحرارة يغذي سلسلة من الكوارث التي ستطال الجميع. تصبح المدن الساحلية عرضة للغرق، والبعيدة عن الساحل مهددة بموجات الحرارة التي قد تحرق الغابات وتُوّلد الأعاصير المدمرة. كل ذلك قادر على تدمير الاقتصاد. جزءٌ سيُدمر بشكل مباشر بفعل الكارثة، والآخر سينهار نتيجةً لإزدياد الضغط عليه بعد موجات اللجوء من المناطق التي ضربتها الكوارث. ناهيك عن الخطر النووي المتصاعد مع صعود التطرف في العالم وتصاعد المواجهات العسكرية. أزمة المياه تشتد مع تصاعد خطر الاحتباس الحراري وزيادة معدلات التلوث. إنّ وباء كورونا على ضعفه، مقارنة بأوبئة أكثر فتكا كالطاعون والكوليرا، عطّل الاقتصاد العالمي شهوراّ ودفع دولاّ إلى حافة الافلاس. الأكيد أننا إن نجونا من الانقراض خلال السنوات القادمة فلسوف ندفع ثمناً غالياً في كوارث طبيعية متتالية لا سبيل إلى النجاة منها. فهل ستصمد الحضارة الغربية أمام تلك الكوارث التي صنعتها يداها بالأمس؟

الحضارة الغربية والاقتصاد

أفرزت الحضارة الغربية للبشرية نموذجان للإقتصاد سبق وأن تعرضنا لهما مسبقا هما الاشتراكية والرأسمالية. أما الاشتراكية فقد انحسرت وتكاد تكون اختفت، والرأسمالية في طريقها إلى نفس المصير. سبق أن بشّرت الرأسمالية بالنزاهة والشفافية، بينما على أرض الواقع صار نصف الاقتصاد العالمي في الظل وهو ما بات يشار اليه بـ”اقتصاد الظل” كما جاء في مقال الكاتبة اللبنانية الأستاذة ليا القزي[6]. اقتصاد شبه معزول عن الرقابة والمحاسبة يُنسب إليه صناعة أزمة 2008 المالية ويُحذّر منه البنك الدولي ومن احتمال تسببه في كارثة جديدة. وبشرت الرأسمالية كذلك بحصانتها من الأزمات، ومن رحمها خرج الكساد الكبير عام 1929، وأزمة البترول عام 1973، والأزمة الأسيوية عام 1997، والأزمة المالية عام 2008 وحديثا تحذيرات من أزمة أخرى قادمة لا محالة كموجة تابعة لأزمة 2008 ولكنها مضاعفة بما تراكم من أزمات على مدار العقد الماضي من حروب وأوبئة وتنامٍ لإقتصاد الظل. ولكنّ الخطر الأكبر هو موجات النزوح والهجرة نحو الدول الغربية.

في التاريخ القديم، ثمة إشارة إلى انهيار حضاري لإمبراطوريتين كبيرتين إثر نزوح مجموعات بشرية كبيرة هما الإمبراطورية الرومانية والمصرية القديمة. بعض المؤرخين الغربيين يرى أن الإمبراطورية الرومانية لم تنهار بفعل مواجهات عسكرية مع البرابرة بل من خلال انحطاط حضاري نتيجة امتزاجها بالبربر الأقل تحضرا، فانحطوا بالحضارة كلها. هي نظرة عنصرية غير مستغربة من مؤرخ أوروبي ولكنّ فيها ما يدعو إلى طرح الأسئلة: لماذا هجر البربر أرضهم واستقروا في الدولة الرومانية؟

أغلب الظن لأن روما قد دمرت بلدانهم ونهبت أرزاقهم فاضطروا إلى الهجرة من أوطانهم. ومثل ذلك حدث لمصر مع نزوح قبائل الهكسوس إليها والاستقرار بها. جزء كبير من ثراء الحضارة الغربية يعود إلى نهب ثروات الشعوب على امتداد قرون من التوسع الإمبريالي. نهبوا كل شيئ، الذهب والمعادن ومصادر الطاقة والكفاءات حتي التاريخ والإنسان. قديما اصطادوا الأفارقة واستعبدوهم في الزراعة، وعادوا حديثا الى ذلك للتجارة بأعضائهم. وقد تكررّت التقارير التي تحدثت عن استهداف فلسطينيين في الحرب الدائرة من أجل حصد أعضائهم وحتى طبقة جلدهم. وعندما اضُطر المحتل أن يحمل عصاه ويرحل حرص على أن تخلفه حكومات عميلة لأجل أن تستديم مصالحه. فإن عجز عن ذلك وأفرز شعب من الشعوب نظاما وطنيا ساعيا إلى التطوير حاربه حتى افشاله لتأمين مصالحه. والنتيجةُ هي خرابٌ أينما وجّهت وجهك الا الغرب، حديقة العالم وبستانه. ولما كانت غريزة البقاء أقوى الغرائز البشرية، فإن الانسان الذي يعيش في أرض هلاك سيتركها ويرحل. ولما كانت الحياة الآن شبه حكر على الغرب فسيكون هو وجهة الرحيل. أكثر من 10000 مهاجر غير شرعي يتسللون بشكل شبه يومي عبر الحدود المكسيكية إلى داخل الأراضي الأمريكية. وشيئ من هذا يحدث عبر البحر مع أوروبا التي سبق أن استقبلت مئات الآلاف من النازحين من الحروب التي سعّرها الغرب في المنطقة. فماذا ستكون نتيجة ذلك في السنين القادمة؟ تغيرٌ في الخريطة الديموغرافية للغرب وضغط على مؤسساته وإقتصاده فتنكسر معادلة التفوق الإقتصادي التي أقامها على دماء الغير.

الحضارة الغربية والقيم السياسية

القيم التي لطالما تباهى بها الغرب ذرتها الرياح وفضحتها الأزمات وبالأخص أوكرانيا وفلسطين. كشفت أوكرانيا عن العنصرية المقيتة الكامنة في الثقافة الغربية. عنصرية شملت كل المستويات حتى أرقاها ثقافةً ومسؤولية. وتردّدت عبارات سخيفة من أمثال “العالم غابة وأوروبا حديقته”، “علينا أن نفتح الحدود أمام الأوكرانيين فهم أوروبيون شقر وليسوا عربا مسلمين أو أفارقة”. ثم قضت فلسطين على ما بقي من إدعاءات. فالحرية في أعلى سقف لها لم تتجاوز ما قاله معاوية بن أبي سفيان قبل أكثر من خمسة عشر قرنا: “إنّا لا نحول ما بين الناس وما بين ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين ملكنا”. لك أن تتكلم “بحرية” وتنتقد الحكومة وتسب الحاكم. كان معاوية يسمع سُبته ويسكت عليها كذلك. لك أن تتظاهر وتكتب بحرية، أما أن تحاول فرض توجهاتك أو أن تنزع سلطاتنا فلا حرية لك ولا حرمة وستواجه بنفس سبل القمع الشرق أوسطي الأصيل. رأينا إقتحام الخيول للإعتصامات، ولا نستبعد أن نرى قناصي الأعين وجزاري المناشير.

إنّ الغضب الشعبي الذي يضرب العواصم الغربية الآن تعاطفاً مع القضية الفلسطينية هو إلى حد ما صرخة غضب مكتومة منذ سنين من تراكم سياسات خاطئة أفسدت حياة الانسان الغربي نفسه، ولا أظنها ستتوقف بوقف النيران. أما الديموقراطية فصارت مزحة سخيفة بعد أن حُصر اختيار أهم ديموقراطية في العالم بين سفيه (دونالد ترامب) ومُخّرف (جو بايدن)، فهل عدِمت الديموقراطية الأمريكية أن تُفرز قيادة حكيمة لتواجه التحديات الوجودية التي تهددها؟

إنّ وقفة قصيرة لتتبع رؤساء الولايات المتحدة على مدى القرن الماضي تكشف عن احتكار بعض العائلات الثرية ذلك المنصب لأكثر من جيل وكأنها ملكية. فعائلات كينيدي وكلينتون وبوش تناوبت أكثر من مرة على أهم مناصب البلاد ومن لم ينتمِ من الرؤساء إلى تلك العائلات كان مسنوداً بعائلات ومؤسسات أخرى وكأن الديموقراطية الأمريكية هي نوع جديد من نظام حكم النبلاء القديم. كما أنّ الديموقراطيات الأوروبية الآن عاجزة عن مواجهة صعود اليمين المتطرف الذي لا تفسير له الا فشل تلك الديموقراطيات في تحقيق آمال شعوبها.

ماذا بقي من الحضارة الغربية بعد كل هذا؟

الدين انقلب الحادا، والعلم صار محجورا عليه، والبيئة فسدت، والاقتصاد آخذ في التداعي، والسياسة جمدت وصارت في صدام مع الشعوب.

مخطئٌ من يظن أن هذه المقالة تبتغي التشفي بالحضارة الغربية وإنما تقييم طور من حياتها أظنه الأخير. إنّ تلك الحضارة وإن كانت تُنسب إلى الغرب إلا أنها تنتمي للجميع، وقد شارك الجميع فيها وانهيارها كارثة على الجميع كذلك. إنّ أباء تلك الحضارة أمثال ديكارت وكانط ولايبنز وأينشتين وأفلاطون وبيتهوفن وجيته وفولتير ودافينشي وشوبنهاور ونيوتن هم أبناء الغزالي وابن رشد وابن سينا والبيروني وابن عربي والجاحظ والمعري والشافعي وأبو حنيفة وابن خلدون.. كلهم رجالٌ عظماء، ولو كان لي من القدرة الأدبية ما كان للمعري لرددتُ على رسالته بأخرى أتخيل هؤلاء الرجال في الفردوس يتجادلون ويتعاتبون ويمرحون، فهم طلاب حق وإن اختلفوا فيه. ولكّن الحضارة الغربية قد ولّت منذ زمن وما بقي من مدنيتها يلفظ أنفاسه الأخيرة. ويبقى أمل في الروح التي أعادت فلسطين بثها في العالم وتستجيب لها الشعوب الغربية.. إلّا انه أمل ٌضعيف.

[1] نهاية “نهاية التاريخ”

[2] Atheists

[3] How U.S. religious composition has changed in recent decades

[4] Are ‘flow of ideas’ and ‘research productivity’ in secular decline?

[5] 2023 summer warmth unparalleled over the past 2,000 years

[6] الرأسمالية في مواجهة الرأسمالية: «بنوك الظلّ» تُطيح بالبنوك التقليدية؟

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  الإحتياطي الإلزامي و"حُماة العرين".. تعمية على أصل مُتبخر