بحثتُ عن أخبار وردت من أمريكا خلال نومي وكانت كثيرة. من بينها رسم كاريكاتوري لتمثال سيدة الحرية وقد نزلت عن قاعدته الإسمنتية الشهيرة تحمل في كلتا يديها حقيبتي سفر، وتحت الرسم عبارة تعكس غضب كل المهاجرين الذين وفدوا إلى أمريكا، وتعلن نيابة عنهم نية التمثال الأيقونة الرحيل قبل أن يأتيها قرار ترحيلها عنوة وظلماً وإنكاراً للجميل.
***
تأثرت جداً بالرسم فوق كوني مثقلاً بالحزن بسبب ما سمعت وشاهدت في اليوم السابق، فعلاقتي مع السيدة حاملة مشعل الحرية قديمة. أقمتها وأنا تلميذ في مدرسة الخديوى إسماعيل الثانوية أدرس تاريخ الولايات المتحدة وكان التمثال يُزيّن أول صفحة في هذا الفصل. مرت السنون حتى زرت نيويورك. هناك وفي اليوم التالي لوصولي طلبت من الصديقين مهاب مقبل ونبيل العربي، العاملين وقتها ببعثة مصر لدى الأمم المتحدة، اصطحابي لزيارة التمثال وقضيت ساعة أو أكثر أراقب مئات المهاجرين والسياح وأكثرهم كان مبتهجاً بما يمكن أن يحمل له المستقبل من حرية وديموقراطية ورخاء. كنت مثلهم فرحاً ومبتهجاً كما أنا اليوم مثلهم حزينٌ وخائفٌ.
***
هناك عند هضبة الأهرامات أو فوقها يرقد تمثال آخر أحمل له أطيب الذكريات، إنه تمثال أبو الهول وشهرته سفنكس. عند قدميه تمددت لساعات وأنا طفل ثم وأنا مراهق ثم وأنا أقتحم أبواب مرحلة الشباب، كانت من أحلى ساعات عمري. أذكر أن خططاً كثيرة نسجنا أهم خيوطها ونحن ننعم في هدوء المكان وروعة ضياء القمر وعمق التاريخ وإبداعاته وجمال مستقبل ينتظرنا. كان التمثال المتمدد على أرض المكان شاهداً على أسرار تداولناها همساً وجهاراً مطمئنين إلى أنه لن يفشي منها سراً واحداً. هناك على بعد خطوات كان يقف مختبئاً وراء كثبان رمل “غفير” مكلف بالحراسة وكذلك بالتنصت. هو أيضاً كأبي الهول لم يفشِ سراً أو مشهداً وإن بمقابل زهيد. اللوحة في كليتها مثيرة للإعجاب والتأمل إلى يومنا هذا. نقارن بين الماضي بكل شموخ وعظمة الأسد وكل جبروت وصمود عقل الإنسان المركب فوق جسم الأسد وبين الحاضر بكل الصراعات المشتعلة فيه وبكل مظاهر انحلال وضعف الإنسان وهي الغالبة.
***
كنت طفلاً ومراهقاً يقضي عدة ساعات من وقته ووقت أصدقائه أو أفراد عائلته خلال عطلة نهاية الأسبوع في حدائق قصر النيل أو الجزيرة كما يحلو للبعض تسميتها. كنا، سواء جئنا من الشرق أو من الغرب، نقف مشدوهين ومعجبين ومدققين في تماثيل الأسود الراقدة تحرس الجسر الأجمل والأقرب إلى قلوبنا أطفالاً كنا أم شباناً وشابات أم كباراً في العمر والمكانة ومخزون الذكريات. تقدمت في العمر فشاءت ظروف سكني وعملي أن أمر على الأسود مرتين على الأقل كل يوم. كانت على الطريق أيضا تماثيل لشخصيات سياسية. لا أظن أنني توقفت يوماً أمام تمثال لشخصية سياسية كما توقفت أمام تماثيل الأسود.
حاولنا في مدارس الطفولة رسم الأسود مع الجسر استجابة لرغبة مدرس الرسم أن نرسم له تفاصيل رحلتنا خلال العطلة. أذكر جيداً نصيحة هذا المُدرّس في مدرسة عابدين الابتدائية وكانت بصفة شخصية وقد أدلى بها خارج الفصل حتى لا يسمعنا بقية التلاميذ، قال ما معناه “أطمئنك يا ابني أنك لن تكون رساماً في المستقبل، ورجاء لا تحاول حتى إن نسيت وعدت أطلب منك رسماً أو آخر”. رحم الله كمال الشناوي الذي عرفه أغلب الناس ممثلا سينمائيا وعرفته أنا رساماً موهوباً.
***
بعض علماء الآثار اقترحوا إطلاق صفة أو شرف معجزة العالم الثامنة على أكبر مقبرة لتماثيل في التاريخ، إنها المقبرة التي تضم أكثر من 2200 تمثال لجنود وهم وقوف وبكامل أسلحتهم، وفي الظن أن الجزء الأكبر من هذه المقبرة لم يكتشف بعد ويحوي أكثر من 6 آلاف تمثال. أن تقرأ عن هذا الاكتشاف الرائع ليس كما تراه. فالمنظر حقاً مهيب.
أول إمبراطور للصين قرّر أن تشتغل كل الورش الصينية لصنع هذا الجيش وتزويده بأسلحة حقيقية بلغ عددها 40 ألف قطعة سلاح ودفنها مع مقبرة الجيش ليتحمل عند بعثه مسئولية حماية الإمبراطور في الحياة الثانية. الفكرة نفسها هيمنت على ثقافة الموت والحياة في مصر الفرعونية وفي ذات الزمن تقريباً. عبقرية المخططين لهذا الجيش لا تتوقف عند العدد وروعة التنظيم والنظام بل تتجاوزها عند مشاهدة الاختلاف في الزي والرتب والمكانة للجنود والضباط. رائعة أيضاً رؤية الفرقة العسكرية الموسيقية المستعدة مع آلاتها الموسيقية لمرافقة الامبراطور عند بعثه وتوليه قيادة هذه الجيوش الجرّارة. الفراعنة المصريون اهتموا بالطعام والملبس والخدمات الشخصية لتكون جاهزة معهم عند بعثهم بينما اهتم إمبراطور الصين بحمايته هو وجيوش الإمبراطورية عند بعثهما.
***
تأثرت دائماً، ولست وحدي، برمسيس الثاني حاكماً لمصر ولكل المناطق المحيطة بها وبخاصة الواقع منها شرق البلاد، وقائداً عسكرياً، ومفاوضاً سياسياً، ووالداً لعشرات الأبناء والبنات وزوجاً لأكثر من مائتي زوجة.
يُذكر عن حياته الخاصة أن واحدة معينة من زوجاته كانت الأفضل والأقرب إلى قلبه وعقله. كان رجلاً بسمات وصفات وتصرفات الآلهة حسب مفاهيم زمنه. نراه في وقفته الشامخة وفي احتضانه زوجته وفتوحاته واستراتيجياته في الهجوم والدفاع والردع نموذجاً يُقاس به أباطرة وفراعنة وقادة العالم القديم ودرساً لمن أتى بعدهم.
***
من المعابد الأثرية الهامة في الهند التي خلفت آثاراً متنوعة في نفوس من رآها هو معبد “كاجوراو” حتى أنّ الدولة راحت بين الحين والآخر تُصدر تعليمات بحظر دخول السياح والزوار ثم تعيد فتحه لخصوصيته وشهرته وباعتباره مصدراً هاماً للدخل. تنبع الخصوصية من أن المعبد يحتوى على تماثيل بالعشرات تكاد تكون حية تحتفي دينياً بعاطفة الحب وجميع ممارساتها الحسية والجنسية. لن أشرح ما رأيت فبالتأكيد سوف أعجز إن حاولت ومهما فعلت، ولكني أترك المهمة لقصيدة لشاعر سوري ذائع الصيت عاش في الهند وزار المعبد مرات عديدة، إليكم أبيات منها يتحاكي الشاعر بها مع المعبد فيقول:
كاجوراو! هل من حرمة/ لك عند رائيها، تُصان
كم زائر أدمى فؤادك/ ما أسرّ وما أبان
أخفى الرضا وتظاهرت/ بالسخط عيناه اللتان
تتحريان وتنهلان/ وتسكران وتحلمان
مزّقت أقنعة الحياة/ وما عليها من دهان
وجلوتها في عريها/ فترفعت بعد امتهان