

من البيروقراطية الورقية إلى السيادة الخوارزمية
في كتابه الشهير المراقبة والمعاقبة، يشرح ميشال فوكو كيف أن السلطة الحديثة لم تعد تحتاج إلى أدوات القمع الصلبة، بل إلى أنظمة تُمأسس الرقابة وتُحوّل الأفراد إلى ذوات تراقب ذاتها. الرقمنة عمّقت هذا التصور إلى أقصى حدوده. لم تعد السلطة تُمَارس من أعلى إلى أسفل، بل من خلال شبكات غير مرئية من “الذكاء” الصناعي، تتعلم من سلوك الأفراد وتعيد هندستهم. كما يقول زيغمونت باومان: “نحن لا نُراقَب فقط، بل نُسهم طواعية في بناء ملفّاتنا الاستخبارية”.
التحول الرقمي أعاد تشكيل الدولة من الداخل. البيروقراطيات التي كانت تعتمد على الأوراق والطابعات تحوّلت إلى منظومات تشغيل خوارزمية. هذا لا يعني فقط تسريع الإجراءات، بل إعادة تعريف مفهوم “السيادة” ذاته. فحين تتحكم منصة خاصة ببيانات المواطنين أكثر من وزارة الداخلية، من هو السيّد؟ ومن يُراقب من؟
الرقمنة لا تصنع فقط مواطنًا رقميًا، بل تخلق أيضًا بيروقراطيات ما فوق-دولتية: خوارزميات تجيب على الأسئلة، تبتّ في الطلبات، تقرر الأولويات. وكما أشار بيتر سلوتردايك، فإن الحداثة الرقمية لا تعني اختفاء الدولة بل “انقراض الشكل الكلاسيكي للقرار السياسي”، إذ لم يعد الزعيم يُصدر الأوامر من شرفة القصر، بل “يدير لوحة تحكم”
الأمن الرقمي: الدولة الشبكية وهاجس الاختراق
الأمن لم يعد جغرافياً. في الماضي، كانت حماية الحدود تعني نقاط التفتيش، الطائرات، والجنود. أما اليوم، فحدود الدولة تُخترق من لوحة مفاتيح في قبو صغير بأوكرانيا أو بكين. لقد تحوّلت الدولة من كيان إقليمي إلى “دالة خوارزمية” مرتبطة بجغرافيا البيانات.
الجيش السيبراني أصبح مكوّناً أساسياً من مؤسسة الدفاع، ليس فقط للدفاع، بل للهجوم، للتخريب، للتلاعب بالرأي العام عبر الذكاء الاصطناعي. “السلطة في العالم الرقمي ليست في يد من يمتلك الحقيقة، بل من يتحكم في انتشارها”، كما قال جان بودريار في سياق حديثه عن المحاكاة والسيطرة الإعلامية.
الدولة كمنصة: هل ماتت السياسة؟
إذا كانت الدولة الحديثة، كما فهمها ماكس فيبر، هي “الاحتكار الشرعي للعنف”، فإن الدولة الرقمية باتت تحتكر شيئاً آخر: تدفق المعلومات. هنا تكمن مفارقة جديدة: كلما زادت الشفافية الرقمية، تقلص المجال العام الحقيقي. فالمواطن الذي يستطيع أن يطّلع على أرشيف البرلمان بلحظة، لم يعد بالضرورة أكثر مشاركة، بل غالبًا أكثر عزلة.
الرقمنة لا تصنع فقط مواطنًا رقميًا، بل تخلق أيضًا بيروقراطيات ما فوق-دولتية: خوارزميات تجيب على الأسئلة، تبتّ في الطلبات، تقرر الأولويات. وكما أشار بيتر سلوتردايك، فإن الحداثة الرقمية لا تعني اختفاء الدولة بل “انقراض الشكل الكلاسيكي للقرار السياسي”، إذ لم يعد الزعيم يُصدر الأوامر من شرفة القصر، بل “يدير لوحة تحكم” فيها تقارير وتحليلات لحظية.
السلطة الخفية: من الحاكم إلى الـ”باك إند”
أخطر ما في الرقمنة ليس العلن، بل اللا-مرئي. فكما يقال في علم البيانات: “الواجهة نظيفة لأن الكود معقّد”. وهنا تصبح السلطة أكثر غموضًا. من يكتب الخوارزميات؟ من يتحكم بقرارات الإقصاء من المنصات؟ من يبرمج المعايير الأخلاقية للذكاء الاصطناعي الذي تقترحه الدولة لتقييم السلوك الفردي؟
ليس غريبًا أن الصين، على سبيل المثال، طوّرت نظام “النقاط الاجتماعية” لمكافأة المواطن الجيد، ومعاقبة المواطن السيء. ليس عبر الشرطة، بل عبر منصة رقمية تراقب استهلاكك، تعليقاتك، وحتى علاقاتك. إنها دولة من دون عصا، لكنها تخلق شعورًا دائمًا بـ”الذنب الرقمي”، وكأن المواطن مهدد بأن يُحذف أو يُعلّق حسابه، لا وجوده فقط.
الرقمنة كأداة تحرر أم استعمار جديد؟
الرقمنة تمنح أدوات عظيمة للشفافية، الكفاءة، والمشاركة. لكنها أيضًا تشكّل لحظة تمفصل خطير في بنية السلطة. إن لم تُخضع لمبدأ المحاسبة الديموقراطية، فإنها تتحوّل إلى ما وصفه بودريار بـ”الواقع المفرط” (Hyperreality): عالم من الحقائق المصنوعة، الذي يحلّ محل الحقيقة.
الدولة الحديثة ليست على وشك الزوال، لكنها تتبدّل على نحو جذري. لم تعد قلعة من حجر، بل شبكة من كود. والسلطة، كما قال فوكو، لا تتلاشى، بل “تنتقل إلى مواقع جديدة”. وفي زمن الرقمنة، قد تكون هذه المواقع غير قابلة للرؤية أو للمساءلة.