وسام متى07/01/2021
اهتزت صورة أميركا من الداخل على نحو غير مسبوق في تاريخها الحديث. أقرب حلفائها وصفوا المشهد في عاصمتها بـ"الصادم" و"المخزي"، فيما كان العالم بأسره يراقب، وبمشاعر متباينة، تلك الجلبة المنقولة مباشرة على الهواء، والتي كانت حتى الأمس القريب حكراً على ساحات الانقلابات والثورات الملونة، التي طالما ظنت النخبة الأميركية الحاكمة، بأجنحتها المختلفة، أنها الوحيدة التي تمتلك القدرة على تأجيجها والبقاء بعيداً عن لعنتها.
يوم السادس من كانون الثاني/يناير 2021، دخل التاريخ الأميركي من أوسع أبوابه. اقتحام مبنى الكابيتول هيل هو استثنائي بكل معنى الكلمة، إن في الشكل، حيث لم تسجل الذاكرة الحية سوى اشتباكات محدودة أمام رمز “الديموقراطية الأميركية” في مراحل معينة (أزمة الثلاثينيات، حملة الحقوق المدنية، حرب فيتنام)؛ أو في الديناميات المحركة، التي تتجاوز مجرّد انتخابات رئاسية تشكك شريحة واسعة من الأميركيين بنزاهتها، وذلك بعدما دخلت كلمة “محاولة انقلاب” في قاموس السياسة الداخلية الأميركية، واستخدمها مشرّعون وصحافيون أميركيون.
صحيح أن عنوان الاشتباك السياسي الذي انتقل إلى الشارع الجمهوري الغاضب، ومن خلاله إلى قاعات الكابيتول هيل، هو جلسة المصادقة على الانتخابات الرئاسية الأكثر اثارة للجدل على مر التاريخ الأميركي؛ وصحيح أن دونالد ترامب، الرافض لعملية الانتقال السلس للسلطة إلى جو بايدن، هو من أطلق نفير الزحف على الكونغرس، إلا أن ما جرى مثل النقطة الأكثر تقدماً حتى الآن في الاستقطاب الأميركي، المتجاوز حتى للثنائية الجمهورية – الديموقراطية، على النحو الذي بات يدفع كثيرين إلى وصف المشهد الأميركي بأنه “حرب أهلية مصغرة”.
يتحمل دونالد ترامب بقدر أو بآخر مسؤولية اهتزاز صورة “الديموقراطية الأميركية”، في خياره البائس استخدام آخر طلقة في جعبته لانتزاع الرئاسة مجدداً، لكن ما جرى هو انعكاس لصراع أعمق على الهوية، القيم والسياسات، اتسع على مدار السنوات الماضية، وتشبّعت تراكماته، حتى دخل في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وتكرس إنقساماً عمودياً بدأنا نشهد بعض فصوله. هي مرحلة جديدة أكثر خطورة، لن تقف تداعياتها على ما حدث قبل ساعات، ولن تنتهي بالتأكيد مع تسلم جو بايدن مهام منصبه في العشرين من كانون الثاني/يناير.
يتبدى ذلك بشكل أساسي في الارتباك الحاصل في الخريطة السياسية الأميركية. لم يعد الأمر صراعاً بين جمهوريين وديموقراطيين، وهو ما تجلى في انفضاض وجوه النخبة الجمهورية، بما في ذلك مايك بنس وميتش ماكونيل، عن رئيسها المنتهية ولايته في معركته الوجودية.
بهذا المعنى، فإنّ “محاولة الانقلاب” التي جرت، لم تكن جمهورية بقدر ما هي ترامبية، وهو تطوّر مفصلي في تاريخ “الأفيال” الذين باتت قاعدتهم الشعبية، وكما اتضح خلال الساعات القليلة الماضية، أكثر ميلاً إلى ترامب أكثر منه إلى الحزب نفسه، الذي سيجد نفسه، بعد ما جرى أمام أزمة داخلية لن يكون حلها سهلاً.
ما سبق ينسحب على الديموقراطيين أيضاً، برغم الانتصار الكبير الذي حققوه رئاسياً وتشريعياً، فرئيسهم المحاصر، حتى قبل تسلمه مهام منصبه، بالألغام التي نصبها له ترامب ولا يزال، سيكون أمامه تحدٍّ خطير، سيجعل ولايته الرئاسية المشكوك فيها، منصبّة بشكل أساسي على ادارة الصراع الداخلي، وهو ما سيحتم عليه العمل على جبهتين: جبهة الجمهوريين، سواء كانوا من عقلاء “الحمير” أو أكثرهم جنوناً (التيار الترامبي، اليمين المتطرف، المحافظون الجدد)؛ وجبهة الديموقراطيين وتحديداً ما يسمى بـ”التيار التقدمي” أو “اليساري” داخل الحزب.
السادس من كانون الثاني/يناير الأميركي اختزل أوجه الصراع بكل تفاصيلها، ليس في مشهد الاقتحام للكونغرس فحسب، بل في المواقف المرافقة لكل مقدّماته ومجرياته.
كان واضحاً ان الشرارة الأولى للاحداث قد اشتعلت بـ”خيانة مشروعة” من قبل ذوي القربى كان أشد مضاضة على دونالد ترامب من الحسام الانتخابي الذي تلقاه من الديموقراطيين في انتخابات الثالث من تشرين الثاني/نوفمبر 2020.
البداية كانت مع موقف زعيم الجمهوريين في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل الذي رفض ادعاءات ترامب الانتخابية، متهماً “الجانب الخاسر” بتشويه الانتخابات الرئاسية.
ومما قاله السيناتور الجمهوري إن “الناخبين والمحاكم والولايات قالوا كلمتهم… واذا نقضناها فسيضر ذلك بجمهوريتنا الى الأبد”، معتبراً أن “واجبنا أن نحكم من أجل الصالح العام”، وأن “مجلس الشيوخ لديه مهمة أعلى من دوامة لا نهاية لها من الانتقام الحزبي”.
الضربة التالية تلقاها ترامب من مايك بنس، الذي ظل وفياً له حتى لحظة اعلان المجمع الانتخابي عن فوز جو بايدن، فنائب الرئيس الأميركي أكد أنه لا يمكنه فرض “سلطة أحادية” لرفض الأصوات الانتخابية التي ستجعل بايدن رئيساً للبلاد.
اميركا بعد السادس من كانون الثاني/يناير لن تكون كما قبل هذا اليوم.. إلا إذا كان ترامب يخبىء مفاجآت جديدة، سواء في الداخل أو الخارج، قد تنسينا التاريخ الذي عبر
هذا ما جعل ترامب يخرج لمخاطبة حشد من مؤيديه خارج البيت الأبيض ويحثهم على السير إلى مبنى الكابيتول. لكن في وقت لاحق، خرج عليهم مجدداً في مقطع فيديو لمجرّد اخبارهم بأنهم “أشخاص مميزون جدًا”، وأنه لا يزال مصراً على أن الانتخابات كانت مزورة، وطالباً منهم “العودة إلى ديارهم بسلام”.
من المؤكد أن الكثير قد حدث بين لحظة التحريض ولحظة التهدئة الترامبيتين، ولعل تفاصيل كثيرة لن تقال إلا بعد حين، لكن من الواضح أن الرئيس المنتهية ولايته قد تعرّض لضغوط على أكثر من خط، سواء على المستوى السياسي أو الأمني، وهي تراوحت بين دعوات من قبل المشرعين وحكام الولايات – وربما من رموز العسكر والأمن – لانزال الحرس الوطني لاحتواء الموقف، وبين الدعوات إلى أن يحث المناصرين الغاضبين إلى إخلاء الكابيتول هيل، وصولاً إلى تلويح البعض بإمكانية محاكمته بتهمة تدبير “محاولة انقلابية”، حيث بدا واضحاً أن النخبة الاميركية قد حملته شخصياً مسؤولية “الهجوم غير مسبوق الذي تتعرض له الديموقراطية الاميركية” على حد وصف جو بايدن في كلمته المقتضبة التي أدلى بها في ذروة الأحداث.
ومع أن أحداث يوم الأربعاء قد تم احتواؤها عملياً منذ لحظة بث رسالة ترامب المصوّرة لأنصاره، إلا أن ما جرى لن يكون سوى بداية لمعركة مفتوحة على احتمالات متعددة، تتراوح بين سيناريوهات آنية، مداها الزمني يوم التنصيب الرئاسي، خصوصاً أن ترامب، وبرغم كل شيء، كسب هذه الجولة بالتشويش الصاخب على مصادقة الكونغرس على نتائج الانتخابات الرئاسية؛ وسيناريوهات أبعد مدى، تتصل بالصراع الداخلي الذي يجمع المراقبون على أن ارهاصاته ليست مسألة أيام، أو أشهر، أو حتى سنوات. كل هذا يدفع إلى فرضية تقترب من اليقين بأن اميركا بعد السادس من كانون الثاني/يناير لن تكون كما قبل هذا اليوم.. إلا إذا كان ترامب يخبىء مفاجآت جديدة، سواء في الداخل أو الخارج، قد تنسينا التاريخ الذي عبر.