يعتبر حقل كورمور واحداً من أهمّ حقول الغاز في إقليم كردستان العراق؛ إذ يقع بين كركوك والسليمانيّة، وتديره شركاتٌ إماراتيّةٌ في مقدمتها «دانة غاز» و«كريسينت بتروليوم». هذا الموقع الجغرافيّ، مقروناً بطبيعة المستثمرين، يجعل الحقل نقطة تلاقٍ معقّدةٍ بين اعتبارات الطّاقة والاقتصاد والسّياسة في آنٍ واحد. من جهة، يمثّل الحقل ركيزةً أساسيّةً لتأمين الغاز الضّروريّ لتشغيل محطات الكهرباء في الإقليم، وبالتالي فهو جزءٌ مباشرٌ من منظومة الاستقرار الدّاخلي في كردستان. من جهةٍ أخرى، يعكس وجود شركاتٍ خليجيّةٍ، مثل الشّركات الإماراتيّة، توجّهاً خليجيّاً للاستثمار في مناطق تقع ضمن النّفوذ الأميركيّ، وأحياناً مثار شكوكٍ إيرانيّةٍ بشأن إمكان توظيفها في أدوارٍ استخباراتيّةٍ أو أمنيّة.
انطلاقاً من هذا التّعقيد، لم يكن مفاجئاً أنْ يتحوّل الحقل إلى هدفٍ متكرّرٍ لهجماتٍ صاروخيّة أو بطائراتٍ مسيّرةٍ منذ منتصف عام 2022. وقد جرت العادة أنْ تنسب تلك الهجمات إلى فصائل عراقيّةٍ مسلّحةٍ مقرّبةٍ من إيران، وإنْ لم تعلن طهران رسميّاً مسؤوليتها المباشرة عنها. وبدت هذه الضّربات في كلّ مرّةٍ أقرب إلى رسائل سياسيّةٍ وأمنيّةٍ متعدّدة الاتجاهات؛ فهي، من ناحية، تضغط على إقليم كردستان بسبب علاقته الوثيقة بواشنطن وبعض العواصم الغربيّة، ومن ناحيةٍ أخرى، تُذكّر الإمارات وغيرها من دول الخليج بأنّ استثماراتها في بيئاتٍ مشحونةٍ سياسيّاً ليست معزولةً عن مناخ الصّراع، كما توصل، في الوقت نفسه، إشارةً إلى الولايات المتّحدة بأنّ وجودها في العراق، عسكريّاً واقتصاديّاً، يمكن تطويقه بأدواتٍ لا تقتصر على استهداف القواعد والقوافل، بل تمتد إلى المسّ بأمن الطّاقة نفسه.
وهكذا، لا يعود كورمور مجرّد حقل غاز، بل يتحوّل إلى ساحةٍ صغيرةٍ تتقاطع فوقها مسارات واشنطن وطهران وأربيل وبغداد وأبو ظبي، تمهيداً لفهم كيف يمكن أنْ يمتدّ تأثير ما يجري فيه حتى شواطئ صور والنّاقورة في جنوب لبنان.
ولأجل فهم الرابط بين كورمور وحزب الله، يجب الانتقال من المستوى المحلّيّ إلى الإقليميّ، حيث تقدّم إيران نفسها قائدةً لـ«محور المقاومة» الذي يضمّ شبكةً واسعةً من القوى في إيران والعراق وسوريا ولبنان واليمن وفلسطين، ويقف حزب الله في قلبها أو أنه يُصنّف “درة تاجها”. وقد تطوّرت عقيدة هذا المحور إلى ما يُعْرَفُ بـ«وحدة السّاحات»، حيث يُتَعَامَلُ مع العراق ولبنان وغيرهما كجبهاتٍ مترابطةٍ يمكن أنْ يردّ أحدها على الهجمات التي تطال الآخر.
وفي هذا الإطار، يصبح استهداف حقل غازٍ في كردستان جزءاً من منظومة أوسع؛ فعندما يتصاعد التّوتّر في غزّة أو جنوب لبنان، تتحرّك الأذرع ضدّ قواعد أميركيّةٍ أو منشآتٍ حيويّةٍ مثل كورمور، في سياق حساباتٍ ترى السّاحات المتعدّدة امتداداً لبعضها لا ملفاتٍ منفصلة.
حزب الله لا يريد حرباً شاملة
يحتلّ حزبُ الله موقعاً محوريّاً في منظومة «المحور»، إذ يجمع بين قوّةٍ عسكريّةٍ قادرةٍ على إيلام إسرائيل – برغم الخلل الذي أصابها مؤخّرا – وحضورٍ سياسيٍّ واجتماعيٍّ واسعٍ يمنحه عمقاً داخل بيئته وتأثيرًا غير قليلٍ في السّياسة اللبنانيّة. غير أنّ هذه القوّة محاطةٌ بقيودٍ واضحة؛ فإشعال حربٍ شاملةٍ في لبنان، الغارق أصلاً في أزماته، قد يحمّل الحزب كلفةً داخليّةً عاليةً ويستجلب ضغوطاً دوليّةً أو ضرباتٍ قد تطاول إيران، ما يجعل قرار الانفجار الكبير محفوفاً بالمخاطر.
لهذا تميل طهران إلى توزيع أعباء التّصعيد بين ساحات متعددة، بحيث يبقى الحزب في اشتباكٍ محدودٍ من أجل كسب المزيد من الوقت؛ وقتٌ يُراد له أن يكون ممراً إلزامياً لترميم القدرة الردعية، فيما تتحرّك الأذرع بوتيرةٍ أعلى. وفي هذا السّياق، يُفْهَمُ استهداف منشآتٍ مثل حقل كورمور بوصفه جزءاً من شبكةٍ إقليميّةٍ تُفْتَحُ فيها جيوب توتّرٍ متفرّقةٍ لتخفيف الضّغط المباشر عن الجبهة اللّبنانيّة.
ولئن كان من المبالغة الزّعم إنّ كلّ صاروخٍ يُطلق على كورمور يصدر عن قرارٍ مركزيٍّ هدفه المباشر تحسين موقع حزب الله في لبنان، فإنّ الاتّجاه العام للصّراع يشير بوضوحٍ إلى أنّ استهداف منشآت الطّاقة على هامش المواجهات في غزّة أو لبنان أو غيرهما يدخل في إطار معادلة ردعّ شاملة، يكون حزب الله أحد أبرز المستفيدين منها
ويتجلّى الرّبط بين استهداف كورمور ووضع حزب الله في أكثر من مستوى. فعلى الصّعيد الاستراتيجي، توجّيه ضربةٌ تطال حقل غازٍ تشغّله شركةٌ إماراتيّةٌ في إقليم كردستان رسالةً واضحةً إلى واشنطن والعواصم الخليجيّة مفادها أنّ مصالحكم المنتشرة في العراق (وبالتالي المنطقة) ليست في مأمنٍ إذا ما قررتم دفع المواجهة مع محور إيران نحو التّصعيد المفتوح، سواء كان مسرحه غزّة أو جنوب لبنان. ومن ثمّ، تصبح أيّ عمليّةٍ من هذا النّوع جزءاً من لعبةٍ أوسع تقول إنّ الضّغط على حزب الله لن يبقى حبيس المثّلث الواقع بين النّاقورة والضاحية الجنوبيّة والبقاع، بل سيجد أصداءه في أربيل وكركوك والبصرة وربّما في منشآتٍ أخرى للغاز والنفط على امتداد المنطقة.
فضلاً عن ذلك، يضيف عنصر الغاز تحديداً طبقةً جديدةً من التّشابك. فإسرائيل باتت لاعباً أساسيّاً في سوق الغاز في شرق المتوسّط، ولبنان يحاول بدوره دخول هذه السّوق بعد اتفاقات ترسيم الحدود البّحريّة. في المقابل، تمثّل حقول الغاز في العراق والخليج، ومن بينها كورمور، أركاناً مكمّلة لخريطة أمن الطّاقة في الشّرق الأوسط. وعندما تُضْرَبُ منشأة غاز في كردستان، يمكن قراءة ذلك أيضاً باعتباره تذكيراً بأنّ أمن الغاز في شرق المتوسّط، المرتبط بالمشاريع الإسرائيليّة والأوروبيّة، لن يظل بمنأى عن المخاطر إذا جرى تهميش المحور الذي تقوده طهران أو محاولة استبعاده من المعادلات الكبرى.
وعلى مستوى ثالث، يحمل استهداف حقلٍ تشغّله شركةٌ إماراتيّةٌ رسالةً خاصّةً إلى الإمارات ودول الخليج الأخرى. فهذه الدّول، التي نسج بعضها علاقات تطبيع أو تعاونٍ مع إسرائيل، وانخرطت في ترتيباتٍ إقليميّةٍ وأمنيّةٍ مع الولايات المتّحدة، تتلقّى عبر ضربات كهذه تحذيراً من أنّ استثماراتها ليست معزولةً عن الصّراع. وقد يدفعها ذلك، في لحظاتٍ معيّنة، إلى إعادة تقييم مستوى الانخراط في ملفّاتٍ مثل الضّغط على حزب الله أو دعم خصومه داخل لبنان، إدراكاً بأنّ التّصعيد المُفْرِطَ قد يفتح الباب أمام ردود أفعالٍ ترتدّ مباشرةً على مصالحها الحيويّة. وبهذا المعنى، تنعكس تفاعلات كورمور على بيروت ليس فقط عبر خطّ طهران–الضّاحية، بل أيضاً عبر توازنات الرّياض وأبو ظبي والدّوحة في مقاربتها للملفّ اللّبنانيّ.
توجّيه ضربةٌ تطال حقل غازٍ تشغّله شركةٌ إماراتيّةٌ في إقليم كردستان رسالةً واضحةً إلى واشنطن والعواصم الخليجيّة مفادها أنّ مصالحكم المنتشرة في العراق (وبالتالي المنطقة) ليست في مأمنٍ إذا ما قررتم دفع المواجهة مع محور إيران نحو التّصعيد المفتوح، سواء كان مسرحه غزّة أو جنوب لبنان. ومن ثمّ، تصبح أيّ عمليّةٍ من هذا النّوع جزءاً من لعبةٍ أوسع تقول إنّ الضّغط على حزب الله لن يبقى حبيس المثّلث الواقع بين النّاقورة والضاحية الجنوبيّة والبقاع، بل سيجد أصداءه في أربيل وكركوك والبصرة وربّما في منشآتٍ أخرى للغاز والنفط على امتداد المنطقة
أصداء كورمور في الدّاخل اللّبناني
ما يجري في الإقليم، ومنه استهداف منشآت النّفط والغاز، يترك بصماته على الدّاخل اللّبنانيّ أيضا. فمن ناحية، يُعزّز شعور حزب الله بأنّه جزءٌ من محورٍ إقليميٍّ متماسكٍ نسبياً، يمتلك القدرة على فتح ساحاتٍ وأوراق ضغطٍ متعدّدة. وهذا الإحساس بالانتماء إلى منظومةٍ أوسع يترجم في الحياة السّياسيّة اليوميّة بقدرٍ أكبر من الثّقة في مواجهة الضّغوط الدّوليّة، وباستعدادٍ أوسع للتّمسّك بسلاحه ودوره الإقليميّ، وبحرصٍ على عدم تقديم تنازلاتٍ جوهريةٍ في ملفّات كالاستراتيجيّة الدّفاعيّة أو تشكيل الحكومات أو اختيار رئيس الجمهوريّة.
لكن، من ناحية مقابلة، تستخدم القوى اللّبنانيّة المناوئة للحزب كلّ تحرّكٍ عسكريٍّ أو أمنيٍّ في العراق أو اليمن يُرْبَطُ بمحور إيران لتأكيد خطابها المعارض. فهي تقول إنّ لبنان أصبح جزءاً من شبكة حروبٍ لا يملك قرارها، وإنّ رهن قراره السّياديّ لمحورٍ يمتد من طهران إلى صنعاء يجعل من البلاد ساحةً محتملةً لتصفية الحسابات. ويضاف إلى ذلك أنّ صور استهداف منشآت الطّاقة في المنطقة تعيد إلى أذهان اللّبنانيين شبح الدّمار الذي يمكن أنْ يمتدّ في لحظةٍ ما إلى بنيتهم التّحتية الهشّة، إذا ما انفجرت مواجهةٌ شاملةٌ مع إسرائيل تحت عنوان «وحدة السّاحات».
هكذا يتبيّن أنّ ما يمنح حزب الله قوّةً تفاوضيّةً أكبر على الطّاولة الإقليميّة، ويجعله يظهر كجزءٍ من منظومةٍ قادرةٍ على ضرب حقل غازٍ في العراق أو تهديد ممرٍ ملاحيٍّ في البحر الأحمر، هو نفسه ما يغذّي في الدّاخل اللّبناني شعوراً متزايداً بالهشاشة والخوف من أنْ يكون ثمن هذه القوّة الإقليميّة فوضى أو حرباً جديدةً لا يحتملها بلد ينهكه الانهيار الاقتصاديّ والاجتماعيّ.
في المحصّلة، يتّضح أنّ الرّبط بين الهجوم على حقل كورمور في إقليم كردستان العراق وبين وضع حزب الله في لبنان ليس مجرّد تمرينٍ نظريٍّ في السّياسة الإقليميّة، بل هو قراءةٌ لمنظومةٍ تعمل فعلاً على أساس ترابط السّاحات. فحقل الغاز في كردستان، ومنصّات الغاز في شرق المتوسط، والقرى الحدوديّة في الجنوب اللّبناني، والقواعد الأميركيّة في العراق وسوريا، جميعها أجزاءٌ من لوحةٍ واحدةٍ يتواجه فيها محورٌ تقوده طهران مع محورٍ تقوده واشنطن وتتموضع في قلبه إسرائيل وبعض الحلفاء الإقليميّين.
ولئن كان من المبالغة الزّعم إنّ كلّ صاروخٍ يُطلق على كورمور يصدر عن قرارٍ مركزيٍّ هدفه المباشر تحسين موقع حزب الله في لبنان، فإنّ الاتّجاه العام للصّراع يشير بوضوحٍ إلى أنّ استهداف منشآت الطّاقة على هامش المواجهات في غزّة أو لبنان أو غيرهما يدخل في إطار معادلة ردعّ شاملة، يكون حزب الله أحد أبرز المستفيدين منها وأيضاً أحد أبرز من يتحمّلون كلفتها. وبهذا المعنى، يغدو السّؤال عن الرّابط بين كورمور والجنوب اللّبنانيّ سؤالاً عن طبيعة الشّرق الأوسط نفسه اليوم: هل هو مجموعة أزماتٍ محلّيّةٍ منفصلة، أم ساحةٌ واحدةٌ لحربٍ منخفضة الوتيرة تُخَاضُ على الغاز والنّفوذ والحدود في آنٍ واحد، بينما يبقى لبنان في القلب منها، قوةًّ وورقةً وضحيّةً محتملة في الوقت نفسه؟
