جيوبوليتيك الإعلام في زمن الفوضى.. القاتلة!

مرّة جديدة يسقط الإعلام الغربي في امتحان المهنية. لكن اختفى، والحقّ يُقال، عنصر المفاجأة في أداء هذا الإعلام. فكما في تغطيته لـ"طوفان الأقصى"، غاب الحياد والموضوعيّة عن تغطيته للحرب الدائرة رحاها بين إسرائيل وإيران. ونفهم ذلك جيّداً عندما ندرك أسباب هذا الانحياز الفاقع عندما نتعمّق في جيوبوليتك وسائل الإعلام الغربية ولكن، ماذا تعني جيوبوليتيك الإعلام؟

تدرس جيوبوليتيك الإعلام كيفيّة مساهمة الوسائل الإعلاميّة في تشكيل الوعي الجيوسياسي لدى الأفراد والمجتمعات. وبالتالي، كيفيّة استخدام هذه الوسائل للتأثير على الرأي العامّ وتشكيل السياسات. تكمن أهميّة هذا الفرع من الجيوبوليتك، في كونه يركّز على العلاقة بين الإعلام والجغرافيا والسلطة. فهو يتعمّق في البحث في آليّات التنافس على السلطة في منطقةٍ ما، وتمثّلات الصراعات القائمة (في أو حول تلك المنطقة)، من أجل التأثير عبر وسائل الإعلام.

إذاً تُعتبَر الميديا انعكاساتٍ وعناصر فاعلة للتغيرات الجيوسياسية، في آنٍ معاً. انعكاسات لدرجة أنّها، غالباً، تكون مرايا صادقة للفضاءات الجغرافية والكيانات الاقتصادية والسياسية وتناقضات المجتمعات الإنسانية التي تنشأ وتعمل داخلها. وأكثر. إنّها تشكّل مؤشّراتٍ مهمّة على عدم المساواة الموجودة بين نصفيْ الكرة الأرضية والقارات والكتل والمناطق الثقافية والأمم، وبالتالي الاختلالات الكبرى في العالم اليوم.

معروفٌ أنّ تطوّر وسائل الإعلام هو، في أحد وجوهه، ترجمةٌ للتغيّرات والتحوّلات السياسيّة الكبرى. واليوم أيضاً، تتقدّم وسائل الاتصال لتطرح نفسها، بحسب عالم الاجتماع البلجيكي Armand Mattelart، مقياساً لتطوّر الإنسانيّة في مراحل صعودها وهبوطها، وبخاصّة بعد سقوط الإيديولوجيّات. ومع هذا السقوط، وبظلّ التدفّق المتسارع لموجات المعلومات المترافق مع مستوى استثنائي من القدرة التفاعليّة بين المنصّات الاتصاليّة والمتلقّين، أولت الإيديولوجيا للأدوات والتقنيّات مهمّاتٍ لا ترتبط أبداً بمنطق هذه الأخيرة. لعل أبرز هذه المهمّات هو تأديةُ دورٍ في السياسة، في زمنٍ طغى فيه الانفعال على تدبير الشأن السياسي. وبعد؟

في يومنا هذا، أضحى المجال الإعلامي والاتصالي المُعتبَر، تاريخيّاً، جزءًا من لعبة السياسة والاستخبارات، إحدى القدرات الاستراتيجيّة التي توازي، في بعض جوانبها، الإمكانات العسكريّة أو هي استكمالٌ لها. ما جعل السيطرة على هذا المجال أمراً أساسيّاً في الصراعات الحاليّة؛ وبخاصّة، عندما تتولّى وسائل الإعلام خوض حربٍ نفسيّة تضليليّة كما هو الحال اليوم مع الحرب الإيرانية الإسرائيليّة الأميركيّة. إذْ ليست الميديا أو القنوات الاتصاليّة الرقميّة مجرّدَ ناقلٍ للمعلومة والخبر، بل هي لاعبٌ رئيسي في الجيوبوليتيك: تُوجِّه الأحداث وتُؤثِّر في السياسات وتلعب دوراً حاسماً في إعادة تشكيل الخريطة السياسيّة للدول. وعليه، صرنا نتحدّث عن جيوبوليتيك الإعلام والاتصال التي تبقى، نسبيّاً، مفهوماً جديداً في فضاء العلوم والمعرفة، وللأسف مجالاً دراسيّاً مهمَّشاً داخل تخصّص علم الجغرافيا.

في الحقيقة، ركّزت مقاربة هذا العلم لوسائل الإعلام، منذ خمسينيّات القرن الماضي، على شبكات الاتصال، لكنّ البُعد الجيوسياسي للميديا لم يبدأ بالتبلور إلاّ في حقبة الثمانينيّات. أي مذْ صار يُترجَم كانعكاسٍ طبيعي للاضطرابات والصراعات العالميّة (وبخاصةً بين القوى الكبرى) وكنظامٍ يتعامل مع دراسة العلاقات بين الأفراد والأقاليم، وبين الفضاء والسياسة. من هنا، كان تأكيد Philippe Boulanger أستاذ الجغرافيا السياسيّة الفرنسي في كتابه Géopolitique des médias، على أنّ الميدان الذي يُفقَد إعلاميّاً واتصاليّاً، إنّما هو ميدانٌ مفقود على المستويات السياسية والاقتصادية والدبلوماسية.

لقد شكّل عام 1991 (أي عام الحرب الأولى ضدّ العراق) بدايةَ “النظام الإعلامي والاتصالي الجديد”؛ لأنّ تلك الحرب هي التي أسّست لنظامٍ إقليميٍ جديد، وكانت إحدى ميّزاته الثورة التي حصلت في مجال الإعلام الفضائي. ومع هذا النظام، عَبَرنا من حرب الأفكار، التي كانت سمة مرحلة الحرب الباردة، إلى حرب الهيمنة على مُنتِجي الاتصالات ووسطائها (أي الشركات متعدّدة الجنسيّات والمنظّمات الدوليّة التي نمت وتطوّرت في إطار العولمة النيوليبراليّة).

لسوء طالعنا، نعيش في زمنٍ يمكن تسميته بزمن “ثنائيّة الفوضى القاتلة”؛ في ما بين “عالم الإعلام” وما يشهده من تحوّلاتٍ على وقع الاضطراب المعلوماتي الكبير. و”عالم الجيوبوليتيك” وما يشهده من صراعاتٍ فتّاكة ابتدعها، لا بدَّ من الإقرار، العقل الاستعماري الأمريكي الذي هندس ما بتنا نسمّيه “النظام العالمي الجديد”. ويستمرّ هذا العقل في ابتداع هندساتٍ لا تجرّ إلاّ الويلات على البشريّة

لقد ارتبط العالم العربي ارتباطاً وثيقاً بهذا النظام، وصار مجاله الإعلامي يُعتبَر العنصر الأساسي المكوِّن للصراع الجيوبوليتيكي في البلدان العربيّة، بخاصّة بعد الغزو الأميركي للعراق في 2003. وتظهَّر بفجاجة غداة هذا الغزو، مع إطلاق وزيرة الخارجيّة الأميركيّة السابقة كوندوليزا رايس (في 2006) مشروعَ “الشرق الأوسط الكبير”، الذي تضمّن ما سمّاه الأميركيّون “مبادرة وسائل الإعلام المستقلّة”. وتقضي تلك المبادرة، بحسب رايس نفسها، بتمويل وسائل الإعلام في المنطقة العربيّة لكي تقوم، وبحرّيّةٍ تامّة، بنشر أقصى درجات الفوضى (من خلال موجات العنف والرعب والدم) وذلك بهدف خلق إمكانيّة إعادة بناء دول المنطقة العربيّة بهويّةٍ جديدة. أَوَليس هذا ما حصل في بلداننا؟ بلى.

أين إعلامنا العربي من كلِّ القضايا التي تفرضها جيوبوليتيك المنطقة العربية والشرق- أوسطية، بعامّة؟

كلّنا يعرف، أنّ الإعلام في العالم العربي لم ينفصل، يوماً، عن السياسة والتوجّهات التي ترسمها له الأنظمة العربيّة الحاكمة، على مختلف أشكالها وطبيعتها. وهذا ما ساهم، بالطبع، بتراجعٍ في الدور الذي كان من المفترض أن تلعبه الميديا المختلفة. ونعني، التواصل الحقيقي الفاعل مع نبض الشارع العربي، على اختلاف شرائحه ومستوياته، وكذلك نقل معاناته ومشاكله بحرّيةٍ وأمانةٍ وحرفيّة.

إقرأ على موقع 180  حروب المياه.. والأممية الجديدة!

فلقد استمرّ الإعلام يعمل وفق النهج المرسوم له ذاته؛ مواظباً على أن يبقى إعلاماً انعكاسيّاً للجغرافيا السياسيّة العربيّة في كلّ تجزّءاتها. فترَوْنه يتمايز ويتأطّر ويدور في فلكيّةٍ خاصّة، ووفق تجارب متناقضة، في بعض الأحيان. ونلاحظ، أنّ قيادات الدول التي تملك إمبرطوريّاتٍ إعلاميّة تنشط، حصراً، لإعلاء مصالحها الذاتيّة الضيّقة والخلافات الشخصيّة، على حساب المصالح الوطنيّة والقوميّة (والأسوأ، أنّ هناك مؤسّساتٍ إعلاميّة عربيّة أُسِّست لمواكبة الصراعات الجيوبوليتيكيّة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، ولتكون جزءًا من معركة الآخرين للسيطرة على المنطقة ومواردها).

كلمة أخيرة. لسوء طالعنا، نعيش في زمنٍ يمكن تسميته بزمن “ثنائيّة الفوضى القاتلة”؛ في ما بين “عالم الإعلام” وما يشهده من تحوّلاتٍ على وقع الاضطراب المعلوماتي الكبير. و”عالم الجيوبوليتيك” وما يشهده من صراعاتٍ فتّاكة ابتدعها، لا بدَّ من الإقرار، العقل الاستعماري الأمريكي الذي هندس ما بتنا نسمّيه “النظام العالمي الجديد”. ويستمرّ هذا العقل في ابتداع هندساتٍ لا تجرّ إلاّ الويلات على البشريّة. إقتضى التذكير.

Print Friendly, PDF & Email
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  التواطؤ على غزة باسم.. "الإنسانية"!