واشنطن وطهران.. صراع الإرادات

في عامه الأول من ولايته الثانية، بيّن دونالد ترامب أنه عائد إلى الشرق الأوسط بأجندة أكثر صلابة تجاه إيران، محاولاً إعادة تشكيل النظام الإقليمي، وفقاً لمعادلة "السلام بالقوة" الأميركية التي يُردّدها منذ دخوله إلى البيت الأبيض في 20 كانون الثاني/يناير 2025.

كان مأمولاً أن تؤدي خمس جولات تفاوضية بين الأميركيين والإيرانيين إلى تأسيس مناخ من الثقة المتبادلة بين واشنطن وطهران، غير أن ما حصل من استهداف عسكري وأمني إسرائيلي للقادة والعلماء والمنشآت والمرافق الحيوية في إيران، عشية الجولة التفاوضية السادسة، بضوء أخضر أميركي، أعاد الأمور إلى الوراء، قبل أن نشهد انخراط الولايات المتحدة في الحرب الإسرائيلية الإيرانية المستمرة منذ عشرة أيام، من خلال إقدامها على استهداف منشآت فوردو ونتانز وأصفهان النووية.. ومن ثم الرد الإيراني المنسق على قاعدة العديد في قطر.. ومن بعدها التوصل إلى اتفاق لوقف اطلاق النار بين إيران وإسرائيل.

هذه المعركة بين الحروب، تختصر رؤيتين تتصارعان: الأولى؛ رؤية أميركية تهدف إلى أحد احتمالين: إما اسقاط النظام الإيراني أو احتواءه (وبالتالي استثماره) وشلّ قدرته على التأثير في الإقليم أو تهديد أمن إسرائيل. الثانية؛ رؤية إيرانية تقوم على توسيع النفوذ الإقليمي من خلال وكلاء وحلفاء، ومواجهة الخصوم خارج الحدود، وفي الوقت ذاته السعي للاعتراف بطهران قوةً إقليمية لا يُمكن تجاوزها في أي ترتيبات تخص الشرق الأوسط.

بهذا المعنى، يُصبح الميدان والتفاوض أداة لفرض إحدى هاتين الرؤيتين. ومن هنا تتبدى الشروط الأميركية والثوابت الإيرانية كعناوين لمعادلة صعبة لم تُكتب نتيجتها بعد، بل ستكون مفتوحة على احتمالات شتى في ضوء ما يجري من أحداث في الشرق الأوسط حالياً.

ثمة أقطاب جدد وثمة عالم يتحول وكلما تعمق هذا التحول سنجد أميركا أكثر شراسة في الدفاع عن مصالحها ومحاولة تقويض كل عناصر قوة الخصمين الأساسيين وهما الصين وروسيا.. فضلاً عمن يتحالف معهما.. وهذا ينطبق على إيران، بما تشكل من هضبة استراتيجية ونقطة ارتكاز تستطيع أن تفتح الأبواب أو تغلقها أمام هذا القطب أو ذاك شرقاً وغرباً

المطالب الأميركية

في كل جولات التفاوض التي انعقدت بين الجانبين، كانت الولايات المتحدة تحاول فرض مجموعة من الشروط التي تعكس رؤيتها لاحتواء الدور الإيراني وتقليص نفوذه، وتظهر هذه المطالب كمحاولة شاملة لإعادة صياغة سلوك إيران داخلياً وخارجياً، تحت رقابة صارمة وبتعهدات قابلة للمراجعة، وهي مطالب تُعبّر عن منطق الهيمنة أكثر مما تعبّر عن منطق الشراكة، وهذا هو الأبرز فيها:

1 – الوقف الكامل لجميع مستويات تخصيب اليورانيوم، بمعنى آخر تصفير عمليات التخصيب ونقل كل اليورانيوم المخصب بنسب متعددة من 3% إلى 60% إلى خارج إيران وتفكيك الأجيال الجديدة من أجهزة الطرد في المنشآت النووية ولا سيما في فوردو (أجهزة مثل IR4- IR6- IR9).

2 – فرض رقابة دولية صارمة وطويلة الأمد على كافة الأنشطة النووية؛ هذه الرقابة تتجاوز رقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، إلى رقابة أميركية مباشرة.

3 – تجميد وتقييد برنامج إيران الصاروخي (الباليستي والفضائي)، بما في ذلك برنامج المُسيّرات.

4 – التوقف عن دعم حلفاء إيران الإقليميين وأولهم حزب الله، وقد عبّر عن ذلك مبعوث الرئيس الأميركي ستيف ويتكوف في تصريح قال فيه: “أي إتفاق نهائي يجب أن يشمل التزاماً من إيران بوقف دعمها للجماعات المسلحة في المنطقة، مثل حزب الله والحوثيين، كجزء من جهودنا لتحقيق السلام والإستقرار في الشرق الأوسط”.

5 – إعادة هيكلة الحرس الثوري الإيراني وتصفية نشاطه الخارجي.

6 – تضمين أي اتفاق بنداً يسمح بإعادة فرض العقوبات تلقائياً عند تجاوز أي بند من بنود الإتفاق ومن دون العودة إلى مجلس الأمن.

الثوابت الإيرانية

تتصرف إيران مع الولايات المتحدة باعتبارها تخوض معركة إثبات وجود، لا مجرد مناسبة للرد على ضربة عسكرية موضعية أو إبرام صفقة سياسية. لذا، تتمسك طهران بثوابتها وتعتبر أن أي تنازل عنها يُشكّل تهديداً لأمنها القومي. وهذه الثوابت هي الآتية:

1 – رفع شامل وفوري وغير مشروط لجميع العقوبات المفروضة عليها.

2 – الاعتراف بحق إيران في تخصيب اليورانيوم لأغراض سلمية، والتأكيد على حق إيران في تطوير التكنولوجيا النووية المدنية (سقف محدد للتخصيب يكون شبيهاً بما نصّ عليه اتفاق عام 2015 أي بنسبة 3.67 قابلة للتفاوض).

3 – رفض إدراج البرنامج الصاروخي الباليستي ضمن أي إتفاق، فهذا البرنامج هو جزء لا يتجزأ من الأمن القومي الإيراني، لا بل ركيزة أساسية من ركائز حمتية النظام بدليل الأثر الاستراتيجي الذي فرضه في معادلة الحرب الأخيرة مع إسرائيل.

4 – رفض فرض أية قيود على نشاط الحرس الثوري باعتباره تشكيلاً نظامياً رسمياً مثله مثل اي تشكيل عسكري نظامي في إيران.

5 – ترفض إيران أي محاولة لتقييد حلفائها في المنطقة ولا سيما حزب الله في لبنان، ذلك أن ثمة علاقة تتجاوز صيغة “الوكيل” أو “الذراع”، كما يحاول أن يُصورها الإعلام الغربي وبعض الإعلام العربي.

6 – المطالبة بضمانات قانونية تمنع الانسحاب الأحادي من الاتفاق، فإيران لا تريد إتفاقاً على شاكلة إتفاق عام 2015 يسهل الانسحاب منه وتمزيقه، إنما إتفاقاً بضمانات من نواب الشعب الأميركي، أي من الكونغرس بحيث يكون من شبه المستحيل على أي رئيس أو إدارة قائمة أو مقبلة أن تلغيه بجرة قلم.

إقرأ على موقع 180  نتنياهو أدخل إسرائيل في أنفاق غزة.. وبايدن ينتشلها

على إيقاع الانفجار

ما كان يجري في المفاوضات الأميركية الإيرانية لا يشبه أي عملية دبلوماسية سابقة. إنها مفاوضات تُختبر فيها الإرادات ويُعاد في سياق تفاصيلها تعريف النفوذ، فإدارة ترامب تتعامل مع إيران باعتبارها عقدة مركزية تمنع إستقرار النموذج الأميركي في المنطقة، ولذلك فهي تفاوضها تارة بالحديد وتارة بالشروط، كمن يُحاول إخضاع خصمه، لا كشريك متكافئ.

إيران، في المقابل، ترى أن أي تنازل في هذه المرحلة سيؤدي ليس إلى تبديد ما تبقى من نفوذها الإقليمي بل جعلها تقاتل الآخرين على أرضها، ولهذا السبب، تتصرف وفق إستراتيجية “الصبر المتوتر”: ترفض التنازل تحت الضغط، لكنها لا تُغلق الأبواب، لذا تتمسك بقدراتها النووية، وتُبقي أوراقها الإقليمية حيّة، وتلوّح بأن لها مفاتيح اشتعال غير متوقعة في أكثر من ساحة.

ووسط هذا المناخ المشحون، تبقى جميع السيناريوهات مفتوحة، وأولها إعادة فتح أبواب التفاوض بين الولايات المتحدة وإيران. الذهاب إلى المفاوضات هذه المرة سيكون محكوماً بما جرى على مدى أقل من أسبوعين؛ فالإيرانيون بأطيافهم كافة باتت تحكمهم نظرة شبه موحدة للخصم الأميركي وهي نظرة سلبية (دولة خادعة وخائنة ومنافقة إلخ..)، وحتى يتمكن الأميركي من استعادة الثقة الإيرانية عليه أن يبذل جهداً كبيراً جداً مترافقاً مع خطوات ملموسة تؤدي إلى تخفيف الحصار المفروض على الشعب الإيراني.

أما المفاوضات، إن عاد إليها الجانبان، وهذا هو المرجح، فإما تنتهي هذه المرة إلى تفاهم مرحلي يؤسس لتفاهم أكثر ثباتاً، أو تكون المنطقة على موعد مع توترات لا يُمكن إلا أن تدار مداورة بين ميدان تفاوضي أو طاولة مفاوضات تستند إلى فعل الميدان، واللافت للانتباه من خلال الإشارات المتبادلة حتى الآن أن أياً من الطرفين ليس مستعداً للتنازل، وبالتالي تكون الحرب، كما المفاوضات، مقدمة لمسار طويل تتغير فيه الأدوات وتتشكل فيه التوازنات.

إنها لحظة إعادة ترسيم النفوذ، لا مجرد توقيع إتفاق، والشرق الأوسط، كما كان دوماً، لا يُحكم بالبيانات، بل بالمواقف التي تُصاغ تحت الضغط وتُختبر في ميادين النار.

صحيح أن أميركا امبراطورية تستطيع أن تُحرك أساطيلها وتخوض معارك في طول الكرة الأرضية وعرضها.. وصحيح أن أميركا هي مطبعة دولارات ومعمل أسلحة لا ينضب ولكنها لم تعد تستطيع أن تقول أنها وحدها تحكم العالم. ثمة أقطاب جدد وثمة عالم يتحول وكلما تعمق هذا التحول سنجد أميركا أكثر شراسة في الدفاع عن مصالحها ومحاولة تقويض كل عناصر قوة الخصمين الأساسيين وهما الصين وروسيا.. فضلاً عمن يتحالف معهما.. وهذا ينطبق على إيران، بما تشكل من هضبة استراتيجية ونقطة ارتكاز تستطيع أن تفتح الأبواب أو تغلقها أمام هذا القطب أو ذاك شرقاً وغرباً.

Print Friendly, PDF & Email
محمد سعد

كاتب وباحث في العلاقات الدولية، لبنان

Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  مبادرة ماكرون اللبنانية.. أممية بإدارة فرنسية