

ليس حسن هو البطل بالمعنى الكلاسيكي، بل هو العين التي ترى، والأذن التي تسمع، والقلب الذي يخفق، والظل الذي يعبر دون أن يترك صخباً. رواية لا تُصنّف، لأنها تشبه بيروت نفسها: هجينة، جميلة، فوضوية، حزينة، مشتهاة، عصيّة على الإمساك أو التأطير. فهنا يلتقي السرد البوليسي بأدب السيرة، وتتماهى الوثيقة التاريخية مع المتخيّل، وتتقاطع الأقدار الشخصية مع أقدار الأوطان.
منذ الصفحات الأولى للرواية، يشدّنا الكاتب إلى نيّته الواضحة في أن يجعل من بيروت شخصية رئيسية، لا خلفية للأحداث. يبدأ البناء من التأسيس على أرض بيروت “الصلبة”، كأنّه يريد تذكير القارئ بأن هذه المدينة لم تكن فقط مسرحاً للأحلام والانهيارات، بل كانت ولا تزال، برغم كل شيء، تملك القدرة على النهوض من الركام والحنين والخذلان. مشاهد القسم الأول ليست تمهيداً، بل ولادةً ثانية للمدينة من خلال ولادة الراوي في أحضانها. من القرية إلى أزقة المدينة، من مقام الوالي إلى منزل صفية وابنتها الجميلة، من الحب الصامت إلى اللقاء الأول مع الجنود السنغاليين وحلوى بيروت.. كلها محطات لاكتشاف الذات عبر اكتشاف المدينة. نقرأ عن بيروت، لكننا نقرأ أيضاً عن الطفولة المعلقة على حافة الأبواب القديمة، عن خطوات التسكّع في أزقة تعبق بروائح الخبز والحرية، وعن القلب حين يتعلّم الحب تحت سماء لا تكفّ عن الإدهاش.
ليس السرد هنا عرضاً لأحداث متسلسلة، بل هو نحتٌ أدبي لوجه المدينة. ينقلنا الكاتب برهافة من اليومي إلى الرمزي، من الواقعي إلى التأويلي، فنشعر أننا لا نقرأ فصلاً بل نتجوّل في شارع، نصغي إلى حكاياته، ونستنشق عبقه. قسم التأسيس لا يروي فقط كيف غادر حسن قريته، بل يروي كيف دخل القارئ إلى روح بيروت، وذاكرتها، وازدواجيتها التي لا تنفكّ تدهشك: مدينة تصنع المستحيل بين سحر الرغبة في الحرية، وقيود الاحتلال والانتداب والانتظار.
ثم تبدأ التحوّلات، لا في سيرة البطل فقط، بل في نبض المدينة أيضاً. في القسم الثاني، تتخلى بيروت عن بعض من سحرها، وتدخل مرحلة التغيير السياسي والاجتماعي. ينضم حسن إلى سلك الشرطة، لكن اختياره هذا لا ينبع من شهوة السلطة، بل من حاجة إلى التماهي مع المدينة التي باتت تتغيّر أسرع مما يحتمل. الانتقال من مخفر إلى آخر يشبه تنقّل الأرواح بين المحطات، من ساحة إلى أخرى، من لهجة إلى لهجة، ومن وجع إلى وجع. الرواية هنا لا تكتفي بوصف المراكز الأمنية، بل تغوص في عمق العلاقات الاجتماعية، في الاحتكاك المباشر بين الدولة والمواطن، في العلاقة بين القانون والشارع، في شجن الانتماء والهوية والوظيفة. نتابع المفتّش لا كمحقق في قضايا الآخرين، بل كمن يحاول أن يحقق في معنى وجوده هو في بيروت التي أصبحت أكثر التباساً، وأقلّ وضوحاً.
“محطة العريس” ليست مجرّد سيرة مفتّش، بل سيرة بيروت التي فقدت ذاكرتها، فاضطرّت إلى استعارتها من رجل عادي، أحبّها كما يحبّ العشاق مدينة تَقتلهم كل يوم ويعودون إليها كل مساء. بأسلوب رشيق، ولغة نقيّة، وسرد متين لا يستعجل الخاتمة، يمنحنا محمد محسن رواية نادرة لا تُقرأ بل تُعاش، ولا تُغلق إلا لنُعيد فتحها من أول الحنين
ثم تندفع الرواية نحو ذروتها في القسم الثالث، حيث تتفجّر الصراعات، وتتشابك الخطوط، وتخفت رومانسية البدايات لتحلّ محلّها الواقعية القاسية. تبدأ المهام البوليسية: السرقة، المخدرات، القمار، الخطف، “خواجة قميص”، “العنكبوت”، “البترونة”.. أسماء وشخصيات تنتمي إلى قاع المدينة، لكنها ليست مجرّد أدوات درامية، بل مرايا إضافية تعكس وجوهاً أخرى لبيروت. حسن هنا لا يتحوّل إلى بطل أكشن، بل يظلّ إنساناً هشّاً، يصاب في الرأس، يختطف، يتألّم، يُخيَّر بين الواجب والحب، بين الصمت والصرخة. والمدينة من خلفه تتابع، تراقب، تتنفس معه، وتكاد تختنق في كل صفحة.
لكن محمد محسن لا يترك قارئه في الذروة، بل ينقله إلى ما بعد العاصفة. في القسم الرابع، نغادر جغرافيا الجريمة وندخل في دهاليز الذاكرة. يعود حسن إلى ذاته، إلى الكاميرا التي لا تلتقط صور المجرمين بل صور الأمكنة قبل أن تُمحى، يعود إلى بيروت كمن يعود إلى حبيبة فقدها ثم وجدها، لكن بلون آخر. هنا تبرع الرواية في استحضار المفارقة: المدينة التي كانت مليئة بالضجيج تُروى في صمت، والمفتّش الذي كان يلاحق المتّهمين بات يلاحق المعنى، والسيارة الخنفساء التي كانت وسيلة تنقّل باتت رمزاً لزمن فات. الحرب الأهلية تطلّ بظلّها، لا كمجرد حدث سياسي، بل ككارثة وجودية. حسن لا يموت، لكنه يتقاعد. يكتب مذكّراته لا ليستعرضها، بل لينقذ بيروت من الغرق في النسيان.
وتأتي الخاتمة، في القسم الخامس، لا لتغلق الرواية بل لتفتح باباً خلفياً على الضوء. فاطمة التي ظهرت في البدايات تعود في النهاية، لا كحبيبة بل كرمز، كمفتاح للوداع، كبوصلة للمعنى. نهاية الرواية ليست درامية ولا ميلودرامية، بل هادئة، متصالحة، تُشبه بيروت عندما تستريح للحظة بين حربين. هي ليلة وداع، لا تنهي الحب، بل ترفعه إلى مرتبة الخلود.
لقد نجح محمد محسن في صنع رواية ليست عن بيروت بل من بيروت. رواية لا تقف عند حدود الأدب بل تتعداها إلى الحنين والفلسفة والرؤية. بأسلوب بالغ الرشاقة، يكتب الكاتب بيروت كما لو أنها امرأة يعرفها حق المعرفة، يعرف نقاط ضعفها ومكامن سحرها، يعرف كيف تُغريك وكيف تكسرك، وكيف تُعيدك طفلاً كلما ظننت أنك أصبحت رجلاً. لغة الرواية ليست فقط وسيلة، بل هي كائن حيّ، تمشي على سطورها أنفاس المدينة، وتنهيدات الذاكرة، وصمت الغياب. نقرأها فنشعر وكأن بيروت ليست مدينة خارجنا، بل داخلنا، في طفولتنا وشبابنا وخيباتنا.
“محطة العريس” ليست مجرّد سيرة مفتّش، بل سيرة بيروت التي فقدت ذاكرتها، فاضطرّت إلى استعارتها من رجل عادي، أحبّها كما يحبّ العشاق مدينة تَقتلهم كل يوم ويعودون إليها كل مساء. بأسلوب رشيق، ولغة نقيّة، وسرد متين لا يستعجل الخاتمة، يمنحنا محمد محسن رواية نادرة لا تُقرأ بل تُعاش، ولا تُغلق إلا لنُعيد فتحها من أول الحنين.