ندوبُ “الكمين” على وجه طهران.. الحرب بدأت الآن!

كان فجرًا مفصليًّا، أطلّت شمسهُ كطلقةٍ خرجت من البندقية، ولم يعد ممكنًا إعادتها إلى بيت النار. في لحظةٍ كانت إيران تنتظر فيها عرضًا أميركيًّا جديدًا لحلِّ أزمة ملفها النوويّ، استفاقت عاصمتها على ضربةٍ إسرائيليّة غزيرة ودقيقة، حصدت أرواح الطبقة الأعلى من قيادة قواتها المسلحة، ومجموعةٍ من علمائها النوويّين.

لا حاجة للشرح والتفسير. كان واضحًا هدف الخطّة منذ بداية تطبيقها: أن تفقد إيران المبادرة، وأن تُوجه ضربة موجعة للقدرات العسكرية والنووية الإيرانية، تمهيدًا لبدء مسار انهاك داخليٍّ يستنزف النظام السياسي قواه فيه.
وبرغم التهديدات التي سبقت ذلك على مدى أيام، والرسائل المتضاربة التي من المفترض أن ينتجَ عنها قلق كبير، نجح الرئيس الأميركي دونالد ترامب في بثّ طمأنينةٍ كاذبة لدى الإيرانيين، بعد التوافق على اللقاء يوم الأحد (15 حزيران/يونيو) في مسقط للجولة السادسة من المفاوضات النووية.

ظنّ المستويان السياسيّ والعسكريّ وما بينهما في إيران، أنّ التصعيد هو مجرد حربٍ كلامية هدفها إجبار طهران على تقديم تنازلات على طاولة المفاوضات. لكنّه كان اليوم الأخير من مهلة الستين يوماً التي أعطاها ترامب لإيران منذ أعلن أنّه سيفاوض من أجل حلّ الأمور بالطرق الدبلوماسيّة. مضت المهلة بالتمام والكمال، وحان دور بنيامين نتنياهو، وباشر فيه دون إبطاء. كانت تلك لحظة الصدمة والترويع التي خُدعت بها إيران، والباقي يعرفه الجميع.

في طهران، يتصاعد جدل حول التحوّل من “ضبط النفس” إلى “الردع بالهجوم”، وهو ما يمثّل خروجًا عن العقيدة التقليديّة. ويعيد هذا النقاش فتح ملف اقتناء السلاح النووي، لا كقرارٍ استباقيّ بل كاستجابة من شأنها ملء فراغ استراتيجيٍّ كبير أظهرته الأحداث الكبيرة منذ عملية “طوفان الأقصى” في غزة

الخدعة مجدداً!
ليس معلومًا بشكلٍ دقيق كيف تفاعلت القيادة الإيرانيّة مع الضربة شبه الصاعقة. كان القائد الأعلى آية الله علي خامنئي قد توضّأ لصلاة الفجر، عندما بدأت العاصمة تهتز على وقع الانفجارات. وبدأت الأخبار تتوالى عن الخسائر. لم يكن الحكم في إيران قد تصالحَ بعد مع هول اغتيال الأمينين العامين لحزب الله السيد حسن نصرالله والسيد هاشم صفي الدين، ومجموعة من القادة العسكريين في أيلول/سبتمبر من العام الفائت، بعدما كان الحزب قد ابلغ الوسطاء عن قبوله بوقف إطلاق النار.

لقد مرّت الخدعة مجددًا، استكملت إسرائيل المرحلة الثالثة من عملية الإطاحة بطبقة القادة المؤثّرين في المحور الذي تقوده إيران. القائد العسكري لحزب الله فؤاد شكر في بيروت، ورئيس المكتب السياسي في حركة حماس إسماعيل هنية، في طهران نهاية تموز/يوليو من العام الفائت في أحد أبرز مراكز الحرس الثوري. ثم قيادة حزب الله، التي سبقها تفجير أجهزة النداء، البيجرز، وأجهزة اللاسلكي في أيلول/سبتمبر 2024. ثم أتت مقتلة حزيران/يونيو التي أطاحت بقادة كبار من الحرس الثوري وأركان القوات المسلحة الإيرانية. لقد ابتلع المحور الطعم مجددا.

وفي المسار الأخير، موّهت أميركا وإسرائيل الخطة العسكرية بغلافٍ دبلوماسيٍّ وإعلاميٍّ غير مسبوق. ما جرى يستدعي التشكيك بأنّ مشهد إعلان الرئيس الأميركي عن أولى جولات التفاوض مع إيران، خلال استقباله نتنياهو في البيت الأبيض يوم السابع من نيسان/أبريل الماضي، وما أثير عن تباين بينه وبين ضيفه، لم يكن سوى المشهد الأول الطويل، في عمليةٍ أسدلت القاذفات الأمريكية ستار الجولة الأولى منها بقصف المنشآت النووية الإيرانية في ليل 22 حزيران/يونيو. جرى الإعلان بعد اثني عشر يومًا عن وقف إطلاق نار، لكن مسؤولًا بارزًا في طهران اعتبر ذلك مقدمة لجولة أكثر دمويّة: “الأمر قد يكون اختبارًا لنقاط الضعف، واستطلاعًا لسلاسل الإمداد، تمهيدًا للمرحلة الثانية”. هذا الانطباع يسود بين المسؤولين السياسيين والقادة العسكريين في طهران.

دبلوماسي إيراني مطلّع على ما جرى يصف تلك الأحداث بأنها خديعة دبلوماسية، “استخدموا المفاوضات كغطاء للإعداد للحرب منحوا الانطباع بأن الأمور تتقدم، ثم انقضّوا”.

خطيئة إيرانية لا تُغتفر

قبل ثلاثة أعوام فقط، كانت طهران تقرأ الخريطة الدولية بثقة، مستندةً إلى ارتفاع أسعار الطاقة، وانشغال الغرب بمعركته الأوكرانيّة مع روسيا. اقتنع المسؤولون الإيرانيون أنّ ميزان القوى يتحرّك لصالحهم، وتجاهلوا التحذيراتِ الأوروبيّة بشأن توريد المسيّرات إلى روسيا. أخبرني مسؤول غربيّ حينذاك أن “خطيئة إيران تجاوزت المساحة الإقليمية إلى الصراع المركزي بين روسيا والغرب، وهي خطيئة لا تُغتفر”.

قلّل الإيرانيون من أهمية القلق الغربيّ، وأقنعهم بعض المستشارين بأنّ الشرق قادم لمنافسة الهيمنة الأميركية. قبل ذلك كلّه، كان اتفاقٌ نوويّ جديد على وشك الولادة في فيينا، لكنّ ليلة إعلان الرئيس الروسي الحرب على أوكرانيا أجهضت ذلك. حينها روّج بعض الايرانيين لفكرة أنّ “الشتاء قادم” كرمزٍ لأفول الغرب. لكن الشتاء طال قدومه، وجاء خريف المحور في أيلول/سبتمبر 2024 بخسارة حلفاء إيران معركتهم العسكريّة بشكلٍ كبير، ثم شتاء قارس في دمشق بنهاية نظام بشار الأسد، قبل أن يأتي أول أيام الصيف لهيبًا في طهران.

في حزيران/يونيو 2025، كان وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي يحاول، وسط هول الضربات الإسرائيلية العميقة داخل بلاده، البحث عن دعم ملموس من شريكٍ استراتيجيّ لطالما اعتبرته طهران حليفها الأقوى: روسيا. غير أنّ الردّ من الكرملين جاء باردًا: “اقبلوا بوقف إطلاق النار”، نصيحةٌ هادئة ومجرّدة من أيّ التزام عسكري. في تلك اللحظة، تجمدت فكرة محور التحالفات الاستراتيجيّة، وتحديدًا العلاقة مع موسكو، أمام واقعٍ معقّد ومتغيّر.

وكما قال المنظر الروسي ليون تروتسكي يومًا، للحرب منطقها، “قد لا تريد الحرب، لكن الحرب تريدك”. وهذه الحرب، برغم أنّ إيران لم تبدأها، إلا أنّها وصلت إلى أبوابها بكل قوتها. لأكثر من عشرين عامًا، تعاملت الجمهورية الإسلامية مع النزاعات كجبهات يمكن التحكم بها: سوريا، غزة، ولبنان، العراق، واليمن، وحتى الداخل الإيراني، بدت كلها ضمن لعبة شطرنج محسوبة، وظنّ صانعو القرار أن الخصوم لن يذهبوا إلى النهاية بل إلى التسويات الكبرى.

قبل عامين فقط، كانت طهران تقرأ الخريطة الدولية بثقة، مستندةً إلى ارتفاع أسعار الطاقة، وانشغال الغرب بمعركته الأوكرانيّة مع روسيا. اقتنع المسؤولون الإيرانيون أنّ ميزان القوى يتحرّك لصالحهم، وتجاهلوا التحذيراتِ الأوروبيّة بشأن توريد المسيّرات إلى روسيا. أخبرني مسؤول غربيّ حينذاك أن “خطيئة إيران تجاوزت المساحة الإقليمية إلى الصراع المركزي بين روسيا والغرب، وهي خطيئة لا تُغتفر”

لم تكن هذه الحرب خيارًا إيرانيًا، لكنها أيضًا لم تكن مفاجئة بالكامل. الأداء المحدود لحزب الله في حرب لبنان 2024، والخشية من ردٍّ إسرائيليٍّ ساحق، كانا كافيين لقرع جرس الإنذار. فامتلاك السلاح دون القدرة على استخدامه لا يُنتج ردعًا حقيقيًا.
ومع ذلك، واصلت طهران الرهان على إمكانية تأجيل التصعيد أو احتوائه. لكنّها أساءت تقدير التنسيق الأميركيّ–الإسرائيليّ، وأخفقت في قراءة التحوّل في العقيدة الغربية: من القبول بمعادلات الردع القائمة إلى تفكيكها، ومن إدارة الهيمنة على العالم إلى إعادة فرضها بالقوة الغاشمة.

مفهوم الردع

لطالما استخدمت طهران اللغة كأداة للإشارة الاستراتيجية. لكن هذه الحرب كشفت تراجع فاعلية التهديدات الرمزيّة عندما لا تدعمها قدرة تنفيذية. الرد الإسرائيلي–الأميركي كان واضحًا: اللغة وحدها باتت تستدعي النار.

ردّ إيران العسكريّ، في هذه الجولة، أدخل إسرائيل ومجتمعها في حالة حرب حقيقية لم يسبق لها مثيل، لكنّه بلا زمام مبادرة. بقي ردّ فعل. في المقابل، تنفّذ إسرائيل حملة تصعيد مدروسة، تضرب وتتوقف وتعيد التقييم، ثم تهاجم مجددًا. هذا التفاوت في الإيقاع كشف عجزًا تكتيكيًا ونفسيًا إيرانيًا أمام الحلفاء والخصوم على السواء.

مع ذلك هناك من يقول إن إيران لم تأخذ قرارا بالحرب في ردها على إسرائيل ولاحقا أميركا، بل تبنت خيار ادارة المعركة حتى تنتهي دون أن تتسبب في أي شكل من الأشكال في اطالتها. يقول دبلوماسي إيراني حالي: “خيار نتنياهو هو الحرب، وهدف إيران محاصرة هذا الخيار بأقل الخسائر الممكنة، لذلك عمدنا إلى التعامل مع المعركة على كونها حربا مفروضة والاولوية ايقافها”.

من الجمود إلى المراجعة الوجودية، يدخل مفهوم الردع في إيران مراجعة قاسية، لا تقلّ قسوةً عن مراجعة ما بعد الحرب الطويلة مع العراق في ثمانينيات القرن الماضي. ما كان يُعدّ درعًا – النفوذ الإقليمي، والتحالفات، والترسانة – اتضح أنه قابل للاختراق.
في طهران، يتصاعد جدل حول التحوّل من “ضبط النفس” إلى “الردع بالهجوم”، وهو ما يمثّل خروجًا عن العقيدة التقليديّة. ويعيد هذا النقاش فتح ملف اقتناء السلاح النووي، لا كقرارٍ استباقيّ بل كاستجابة من شأنها ملء فراغ استراتيجيٍّ كبير أظهرته الأحداث الكبيرة منذ عملية “طوفان الأقصى” في غزة.

إقرأ على موقع 180  بيرغمان يكشف رواية تل أبيب للمفاعل السوري.. أين رواية دمشق؟

أزمة هوية

في جوهر الأزمة الإيرانية يكمن تناقض لم يُحل: جمهورية ثورية تحاول الانخراط في النظام الدولي، لكنها ترفض قواعده. تخوض الانتخابات، تمارس الدبلوماسية، وتحافظ على خطاب ثوري، وتُوسّع نفوذها عبر جماعات مسلحة من دون التورط المباشر في الحروب.
هذا النموذج الهجين، الذي بدا لوهلة ذكيًا، أصبح اليوم عبئًا. فإيران راكمت أوراق ضغط، لكنها لم تحوّلها إلى مؤسّسات أو استقرار حقيقي، لا في العراق ولا في لبنان ولا في سوريا.

النظام الدولي ما بعد الحرب الباردة، بقيادة أميركية، لا يفسح المجال لنماذج بديلة جزئيًّا أو كليًّا. إيران ليست الوحيدة المحاصَرة بطموحاتها، لكنها من القلة التي أرادت الدخول إلى النظام بشروطها، لا بشروطه. تطمح للريادة العلمية، والدفاعية، والدبلوماسية، دون أن تساير قواعد اللعبة الغربية، أو لنقل لا ترضي طمع الغرب المهيمن على العالم، رغم عشرات آلاف ساعات التحليل السياسيّ على الشاشات عن نهاية أحادية القطب. هذا التحدي أوجد فجوة مع واشنطن وبقية الغرب. فعدم اعتراف طهران بإسرائيل، ورفضها التموضع ضمن أولويات الغرب الاستراتيجية، يبقيها هدفًا دائمًا للشكوك.

القيادة الإيرانية أمام ثلاثة أسئلة:

1– ماذا تريد إسرائيل؟

2– ماذا تريد أميركا؟

3– والأهم، ماذا تريد طهران نفسها؟

مسار الإنهاك

إسرائيل تسعى إلى إنهاك استراتيجي طويل الأمد، يشلّ قدرة إيران على الردع، أو يدفعها إلى تعديل سلوكها. أما واشنطن، فتمارس دورًا داعمًا في الظلّ. توفير غطاء سياسي، ومعلومات استخباراتية، ودعم لوجستي، من دون الدخول في حرب شاملة، وهو مسار يسير عليه الحلف الأميركيّ منذ ما بعد السابع من أكتوبر.

بالنسبة إلى إيران، فهي تتأرجح بين صوت يدعو إلى العودة للمفاوضات، وصوت آخر يرى أنّ الدبلوماسية باتت فخًا استخدمه الأعداء، ويدعو اليوم إلى بناء القنبلة النووية باعتبارها الملاذ الأخير لردعٍ حقيقي.
الأداء الإسرائيلي يظهرُ إصرارًا على تحقيق الأهداف. وبرغم استعادة إيران السيطرة والقيادة بسرعة بعد الضربة، إلا أنّ ثغراتها الدفاعية والأمنية ما زالت قائمة. الدفاع الجوي فشل في منع التسلل الإسرائيلي إلى الأجواء. هذا ليس مجرد تقصير عسكري، بل إخفاقٌ في جوهر سرديّة الردع أيضًا. كذلك، من غير المرجح أن تتوقف المساعي الإسرائيلية الأميركية عن ادخال النظام في مسار الانهاك الداخلي، والذي كما ذكرنا في البداية كان على رأس أهداف الحرب، ما سيفتح المجال على ثغرات أخرى وإن كانت بالاسم تختلف عن ثغرات الدفاع والأمن إلا أنها تتبادل التخادم معها. الثغرات السياسية والاجتماعية المتمحورة حول مدى الرضى الشعبي الإيراني عن السياسات والخيارات التي يتخذها النظام داخليًا وخارجيًا، وإلى أي حد تلبي تطلعات الشارع المعيشية والسياسية، تمثل تحديًا أمام قدرة النظام الحاكم في حشد الداخل الإيراني لصفه في سبيل سد الطريق على الانهاك الداخلي الذي إن حدث، قد يهدد مستقبل البلاد وليس النظام فقط.

من بعد الجولة الأولى، لن يُقاس الردعُ بالكلام، بل بالفعل، وبالعواقب، وبتحمّل الأكلاف، وإيلام الأعداء بشكل نوعيّ. كلُّ من في إيران يعلم ذلك، ويدرك صعوبته. ولعل هذا ما يعيد إلى الطاولة خيارات لم تكن قبل أيام فقط ممكنة

وجهاً لوجه

ما حدث لم يكن عمليّة عسكرية انتهت بإلحاق أضرارٍ كبيرةٍ بالبرنامج النوويّ الإيرانيّ، من دون أن تتمكّن من إنهائه. بل كان طريقًا إلى نهاية مرحلة فكرية كاملة في السياسة الإيرانية، بعدما كانت قائمةً على الاعتقاد بإمكانية إبعاد الحرب عن الحدود، وتأجيلها إلى أجل غير مسمّى. ومع ذلك، لا تزال هناك رواية بديلة داخل طهران أساسها أن البقاء بعد هذا المخطّط هو نصر في حدّ ذاته، وأن الصواريخ الإيرانية لم تُشل، وأن صمود حزب الله في 2024، والضربات الإيرانية داخل إسرائيل، تثبت قدرة الردع. لدى المنتقدين، هذه رواية أقرب إلى الإنكار. ولدى المؤيدين، هي دليل على الصبر الاستراتيجي والثبات. لكن الحقيقة غالبًا بين الحدّين.

أظهرت المعركة أنّ ورقة البرنامج الصاروخي الباليستيّ هي الأقوى في يد إيران. وبالنظر إلى استخلاص العبرِ ممّا جرى، أحرجت الصواريخ الإيرانيّة منظومات الاعتراض الإسرائيلية المسبوقة بمنظومات غربية، على طول خريطة خط النار من منصّات الإطلاق في إيران، إلى النقاط المستهدفة في إسرائيل. كما قدّمت المعركة إسرائيل في صورة جديدة، تضاف إلى صورتها كمحتاجٍ دائم للدعم الأميركيّ رغم قوّتها الكبيرة. هذه المعطيات تدفع بطهران نحو تعزيز قوّتها الصاروخية، وهو ما رآه جميع المتابعين لهذه الحرب من دولٍ ومراكز دراسات. كذلك، يبدو أن إيران التي باتت لا تتردد في الإعلان عن خسائرها في البرنامج النووي تسعى في ذات الوقت لتوظيف ما تبقى منه في استراتيجياتها المقبلة سواء التفاوضية أو الردعية.

أساليب جديدة للمواجهة

مصير 400 كيلوغرام من اليورانيوم المخصب بنسبة 60% وكميات أخرى مخصبة بنسبة مختلفة ما بين الـ 20، 5، و3.67 % لا يزال محط سؤال. هنا من وجهة نظر طهران قد تكون الحاجة الأميركية- الإسرائيلية للتعامل مع هذه القضية أحد الدوافع التي قادت لوقف إطلاق النار وذلك لكون التعامل مع هذه المسألة يتطلب أساليب مختلفة في المواجهة. بذلك يمكن لصاحب القرار الإيراني أن يعتبر ورقة الغموض النووي مؤثرة في مساحة الردع.

على ذات النسق جاء تعليق التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية وحصره بالمجلس الأعلى للأمن القومي الذي يُطلب منه متابعة عمله في هذا المجال بالتنسيق مع البرلمان. القانون الذي صكه البرلمان الإيراني في هذا الصدد و مررته مؤسسات النظام من التصويت البرلماني للتنفيذ بسرعة قصوى يعيد التذكير بما كشفه لي مصدر دبلوماسي إيراني رفيع المستوى العام الماضي عندما ارتفع منسوب الحديث الإيراني عن احتمال احداث تغيير في العقيدة النووية القائمة في البلاد، حيث قال “أي تغيير في العقيدة النووية لا يعني بالضرورة التوجه نحو الأسلحة النووية، ربما يعني ذلك إزالة أحد العناصر الثلاثة في استراتيجيتنا الحالية -فتوى الإمام الخامنئي تحريم تصنيع واستخدام وتخزين الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل، الحق في امتلاك التكنولوجيا النووية السلمية، ومنطقة خالية من الأسلحة النووية- أو إضافة عنصر رابع، وما إلى ذلك”.

حجب البرنامج النووي الإيراني عن أعين الوكالة الدولية للطاقة أو جعل البرنامج يشكل علامة استفهام لدى خصوم طهران حول وضعه والمرحلة التي وصل إليها أو ماذا تنوي طهران اتخاذ خطوات فيه مع تأكيد الأخيرة في الإعلام والمحافل السياسية والدبلوماسية على عدم التنازل عن ما منحته معاهدة حظر الانتشار النووي للدول الموقعة عليها قد يكون من الآن فصاعدًا العنصر الرابع في العقيدة النووية الإيرانية. الأمر الذي قد يعدّه صاحب القرار في طهران ورقة تفاوضية تصلح للاستخدام عند الحاجة.

لكنّ ذلك لا يعفي طهران من ضرورات التعديل في زمنٍ قياسيّ، بين مراكمة أسباب القوة والصمود، والتخلّي بسرعة عن المقاربات التي أوصلت البلاد إلى حالة ردّ الفعل دائمًا. هذا الأمر ليس سهلًا، وقد لا يحصل سريعًا أو حتّى كليًّا، لأسبابٍ مرتبطة بمراكز القوى داخل النظام، وبالاختراقات التي لا بدّ وأن واشنطن وتل أبيب تعملان على تعزيزها، خصوصًا بعدما ظهر من ضعفٍ إيرانيٍّ أمنيّ في مطلع المعركة.

هي إذاً حرب بين إيران وأعدائها، ومعركة بين إيران ونفسها من خارج مجال التمنيّات والآمال. فالمؤكد، أنّ الأرض اهتزّت، وأنّ الحرب التي لم ترَها إيران قادمة، وصلت بشراسة نوعيّة. هكذا، ومن بعد الجولة الأولى، لن يُقاس الردعُ بالكلام، بل بالفعل، وبالعواقب، وبتحمّل الأكلاف، وإيلام الأعداء بشكل نوعيّ. كلُّ من في إيران يعلم ذلك، ويدرك صعوبته. ولعل هذا ما يعيد إلى الطاولة خيارات لم تكن قبل أيام فقط ممكنة.

(*) بالتزامن مع “الجادة

Print Friendly, PDF & Email
علي هاشم

صحافي وكاتب لبناني

Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  ما بعد خيرسون.. القرم أو التسوية؟