يُمكن تسجيل جملة ملاحظات رئيسية على محاولة إنشاء “جبهة معراب” ربطاً بمسار تاريخي مُستمر لجمع المعارضة “على كلمة سواء” في مواجهة حزب الله، أبرزها الآتي:
أولاً؛ عقب انجلاء غبار معركة انتخابات 2022، عمد رئيس حزب الكتائب سامي الجميل انطلاقاً من تحالفه مع معارضين أمثال ميشال معوض وأديب عبد المسيح وغسان سكاف ونعمة أفرام، وعلاقته بالنواب التغييريين ولا سيما مارك ضو ووضاح صادق، إلى استضافة “لقاء الصيفي التشاوري” الذي تميّز بحضور نواب من “الاعتدال الوطني”، إضافة إلى نبيل بدر وعماد الحوت فيما سُجل غياب لنواب القوات اللبنانية، ما اعطى الكتائب قدرة أوسع للمناورة السياسية لكن سرعان ما أصيبت هذه الصيغة بنكسة سياسية مع تمترس الكتل خلف خياراتها الانتخابية الرئاسية، وكان حزب القوات الرابح الأول من انفراط عقد لقاء الصيفي.
ثانياً؛ سعت القوات اللبنانية من تلك اللحظة إلى تلقف الموقف بالدعوة إلى سلسلة لقاءات لنواب المعارضة في مجلس النواب اللبناني، وبدا للقاصي والداني أن الهدف الرئيسي هو منع أي حليف آخر من إمساك راية المعارضة، وبدا أن العلاقة بين النواب السنة وكتلة القوات آخذة بالتأرجح نتيجة المواقف التي اتخذت طيلة الفترة الماضية، وهذا الأمر تُرجم بمواقف لنواب الاعتدال في الرد المستمر على سردية القوات، من هنا خسرت المعارضة عامل المناورة أولاً بانسحاب إبراهيم منيمنة وزملاء تغييريين آخرين وبخاصة بعد ممارسة ضغوط إعلامية وسياسية لانتخاب جهاد أزعور والتلويح لهم بحملات تخوين واتهام بالتقرب من حزب الله!
ثالثاً؛ في عز قوة تيار المستقبل وسعد الحريري والاجماع الداخلي على زعامته وقدرته السياسية والمالية على الجمع والغطاء العربي والدولي لموقعه وحضوره ودوره، استعاض الحريري بجمع الحلفاء في قاعات الفنادق أو في مقر الأمانة العامة لـ14 آذار، فيما الخطأ الجسيم الذي وقعت به القوى المسيحية يتمثل في إصرارها على الصورة والشكل والقيادة بدلاً من المضمون الجوهري للقاء، وهو توحيد المعارضة على أساس مشروع أو معركة محددة يمكن تحقيق انتصار داخلي فيها، فيما حمل البيان الذي تلاه النائب وضاح صادق من معراب تمنيات غير قابلة للتحقق، والأكيد أن غياب الرئيس فؤاد السنيورة ورئيس الكتائب سامي الجميل ووجوه مثل إبراهيم منيمنة وأحمد الخير وشخصيات كمصطفى علوش وأحمد فتفت، مرده الرئيسي المكان المنعقد فيه الاجتماع وعدم حصول أي نقاش حول البيان السياسي فضلاً عن أمور جوهرية أساسية.
لم يجد سمير جعجع نصيراً له إلا الوزير السعودي نزار العلولا، الذي بارك لسفيره في بيروت وليد البخاري أن يمضي قدما في اقتراح منح العباءة الملكية لرئيس حزب القوات، رداً على غياب شخصيات سنية ومسيحية ودرزية عن لقاء معراب؛ وهذه أوضح اشارة سعودية إلى أن المعتمد السعودي الأول في لبنان ما يزال سمير جعجع حتى إشعار آخر
رابعاً؛ تسعى القوى المسيحية المعارضة لحزب الله لاستيلاد متجدد للحظة تاريخية مرّت في تاريخ لبنان غداة الرابع عشر من شباط/فبراير 2005، تاريخ استشهاد الرئيس رفيق الحريري، عندما فرض الزخم الشعبي انسحاب القوات السورية من لبنان، وهي لحظة جسّدت ذروة تراكم بدأ مع مصالحة الجبل وولادة لقاء قرنة شهوان ومن ثم لقاء البريستول واغتيال القيادي القواتي رمزي عيراني وصولاً إلى استشهاد الرئيس رفيق الحريري وما نتج عنه من تحولات، غير أن الخطأ الذي تقع فيه القوات أن حزب الله، وبرغم سطوة حضوره السياسي والعسكري، هو فريق داخلي ويمثل شريحة كبيرة من الشيعة اللبنانيين، ويمتلك حلفاء سنة ومسيحيين ودروزاً وأرمن، والخطاب الوحيد الذي أخاف حزب الله كان الخطاب العابر للطوائف الذي ولد في 17 تشرين/أكتوبر 2019 وبدا أن الخطاب المطلبي هو الوحيد القادر على خلخلة الثقة التي يتمتع بها الحزب وحلفاءه، فيما تصر الأحزاب المسيحية على خطاب مسيحي طائفي ضيق يستولد استقطاباً طائفياً مضاداً وبالتالي نكون أمام لعبة الأواني المستطرقة التي تجعل حزب الله أكثر حضوراً واستقطاباً من غيره في ميدان المعادلات الداخلية اللبنانية.
خامساً؛ منذ العام 2005 ولغاية نهاية العام 2015، واجه لبنان خطر الإستقطاب المذهبي السني الشيعي الذي بلغ ذروته في لحظة 7 أيار/مايو 2008، وجاءت الأزمة السورية في العام 2011، لتُعيد تحريك المواجع المذهبية ليس في لبنان وحسب بل على امتداد منطقة المشرق العربي. طوال تلك المرحلة، كان التيار الوطني الحر ومن خلال تفاهم مار مخايل جزءاً من اصطفاف حزب الله الداخلي؛ وفي المقابل، كانت القوات اللبنانية تتلطى خلف تيار المستقبل رأس حربة القوى المواجهة لحزب الله. وقد سعى الطرفان السني والشيعي إلى استقطاب حلفاء جدد في الشارع المسيحي، من هنا كان السعي الدائم للجانبين لاستقطاب عدد من البيوتات والشخصيات الرمادية المسيحية (آل المر، آل سكاف نموذجاً) أما اليوم، فالمشهد بات مختلفاً، وها هم المسيحيون يبحثون عن حليف مسلم، بدليل مساعي جعجع وجبران باسيل لاستمالة نواب وشخصيات سنية، مستفيدين من واقع الفراغ السني الذي تركه غياب سعد الحريري عن الساحة السنية وعدم قدرة الآخرين على تشكيل بديل سني وازن حتى الآن، فيما يكتفي حزب الله بعلاقته التحالفية الرجراجة مع التيار الوطني الحر، ويقفل الأبواب أمام كل محاولة قواتية لدق بابه من خلال عناوين متعددة.
سادساً؛ ثمة هوة كبيرة بين القوات اللبنانية وبين المكون السني، بدأت من لحظة اعلان استقالة سعد الحريري القسرية من المملكة العربية السعودية في مطلع تشرين الثاني/نوفمبر 2017، وصولاً إلى انحياز القوات لمحور حشر الرجل في زاوية الاعتزال، ودفعه بالقوة إلى حضن الرئيس نبيه بري، لتأتي حرب غزة لتُكرّس تعميق الأزمة مع مواقف القوات التي أتت من خارج كل السياق السياسي بالهجوم على معركة غزة وحماس والتي ثبت أن المزاج السني تعاطف مع خيار الانحياز للمقاومة في فلسطين بالتزامن مع مجازر أثارت غضب الرأي العام الغربي ولم تحرك عواطف قيادة القوات، لا بل جاهر سمير جعجع منذ الأسابيع الأولى لحرب غزة على تحول سيحصل في المنطقة بعد انتهاء هذه الحرب وحتماً لم يكن يُعوّل على انتصار حماس و”محور الممانعة” التي تنتمي إليه!
سابعاً؛ عندما أمسك سعد الحريري براية المعارضة، كان مُحصناً بتحالف دولي وإقليمي ربما لم يتوفر لوالده بالزخم والحيوية اللذين توفرا له. وفي كل مرة كان يحاول سعد الحريري “اختراع” العنوان الذي يستطيع من خلاله اكتساب رأي شرائح لبنانية جديدة، من دون مغادرة مدرسة الواقعية السياسية، وهذا الأمر لا يسري على جعجع الذي اختار القرار 1701 عنواناً لاجتماع معراب، ولو سأل أصدقاءه في السفارات الأجنبية لكان تلقى نصيحة بأن يُبادر إلى اختراع عنوان مغاير حتماً.
ثامناً؛ لم يجد سمير جعجع نصيراً له إلا الوزير السعودي نزار العلولا، الذي بارك لسفيره في بيروت وليد البخاري أن يمضي قدما في اقتراح منح العباءة الملكية لرئيس حزب القوات، رداً على غياب شخصيات سنية ومسيحية ودرزية عن لقاء معراب؛ وهذه أوضح اشارة سعودية إلى أن المعتمد السعودي الأول في لبنان ما يزال سمير جعجع حتى إشعار آخر، وعلى أصدقاء المملكة أن يُعيدوا النظر في قرار مقاطعة الفعاليات التي تدعو إليها القوات سواء في معراب أو في “آخر المعمورة”!
في الخلاصة، الكل في مأزق في غياب أي مسعى للتنازل من كلا الطرفين وغياب أي قدرة على انتاج حلول واقعية، لذا، باتت الصيغة برمتها تُواجه تهديداً فعلياً، ما لم يتم تدارك ذلك سريعاً، وهو أمر مرهون بتسويات إقليمية ودولية من غير المعروف مدى قدرتها على إعادة تجديد الصيغة والحفاظ على ما تبقى منها.