

الله خالق الكون. هو الكون نفسه. هو نحن بما فينا من حب. كنت تائهاً حينها، فقد تفتحت حواسي للمرة الأولى. هو التّيه ما يرسّخ الحقيقة. اتبعت فطرتي الإنسانية فاتبعت الله فيني. أبصرت في علم الاحياء فرأيتني فيه. لم تعذبني ناره كما قيل عنه. ارتجف حينها فارتجفت نفسي!
ها قد أخذني عطر النارنج إلى ضفتي الوادي الكبير. أضاءت حواسي ممرات الزهراء وقرطبة. وعن ولهي بمحبوبتي سألت الله: يا علة العالم القديم، حدّثني عن دينك وأحدّثك عن محبوبتي. سألني أولستَ ابن الحكمة؟ أولم تشرب من خمرة الحب يوماً؟ وحينها اكتملت. كما اكتملت روح الاندلس بالعشق والفنون بعبق الحب عبر ملاقاة العشاق وإن كان في زمن الغزوات. عندما كان “رأيي خطأ يحتمل الصواب ورأي غيري صواب يحتمل الخطأ”(1) كان عقلي يهدي البراءة لقلبي. ومع ذلك لم أنعم بسكينة الحب، ولكني عرفته. لم يخالجني شك في وجود الله بيننا، بل كان شاهداً بريئاً. مجدداً سألني: وإن لسعتك نار الوله يا ابن الحكمة؟
“جئتُ مثلما يجيء الماء. سأرحل مثلما ترحل الريح. من أنا؟ أنا عند اللاتين أفيرويس، وعند اليهود بن رشد. وعند العرب أنا أبو الوليد محمد بن أحمد، ابن رشد(2)“.
ماذا لو كان لفلاسفة المسلمين فسحة أكبر للتعبير عن أفكارهم، فأي نعيم على النفس يتسلل الى المؤمنين حينها؟
شهدت أعمدة الجوامع الرخامية في الأندلس (1121م-1229م) على حكم الموحدين، ثم سقوطهم. بلغت الدولة أوجّها في عهد أبي يعقوب يوسف بن مؤمن بن علي الكومي، ثم أبو يوسف يعقوب المنصور فازدهرت البلاد اقتصادياً وثقافياً وفنياً. تعتبر الموحّدية حركة دينية متشددة تدعو الى تنقية الدين من الشوائب. حينها كان يتسع الفضاء الفكري للفلاسفة أو يضيق عليهم حسب مزاج الخليفة ورؤيته تجاه العلم والمعرفة وعلاقته بالله وان كان مستبداً. وصل وهج الفلسفة الإسلامية إلى أوروبا الغارقة في ظلمات الجهل أثناء حكم الكنيسة. ومثلما تناول التاريخ حملة السيف (غزوات ومعارك) في الحكم الإسلامي، فإنه تطرق إلى جوهرة في النفس مليئة بالحب بمختلف أشكاله روّج لها عظماء الفكر العربي الإسلامي من ابن عربي وابن الطفيل الى قاضي القضاة في اشبيليا وقرطبة الفقيه والطبيب والفيلسوف ابن رشد.
ما نريد قوله إن سلسلة من الفلاسفة قاموا بتشريح أجساد البشر فتقربوا أكثر الى الطبيعة الفطرية؛ إلى الله وعرفوه على طريقتهم، إلى الحب كنهج للاستمرار ذلك أن النفس فانية. رفعوا الدين إلى التسامح والحوار إلى نبذ السيف والدماء، إلى تجنب التحريم والتكفير العشوائي. حاولوا التوفيق بين العقل والنقل، وأن ذلك لا يتعارض مع الشريعة (النقل) بل مفتاح الاجتهاد الفقهي الذي ما يزال يُحارب حتى يومنا هذا.
في روايته “كاتب الشيطان ابن رشد” يأخذنا جلبير سينويه إلى الجانب الآخر من حياة هؤلاء العلماء: هل منهم من شرب الخمر مثل ابن طفيل؟ أو في حضرة الشيطان الأنثوي على القبور مثلما كان يفعل باقي العشاق تهكماً على الموت؟ وإن كان تم تحريم العشق حينها في العلن كيف يمكن اقتلاعه من القلب؟ وهل يظهر إلى العلن دون اقتلاع الخوف؟
تمثلت تلك الحقبة الذهبية من التاريخ الإسلامي (الموحدون) بعد قضائهم على المرابطين في المغرب بحملة السيف ومفاهيم الغاء الآخر والاستبداد مثلما تعرض أهل الذمة للاضطهاد والقتل (كما كان يتم تمييزهم من ملابسهم) وقد كان ابن ميمونة الذي تأثر بأفكار ابن رشد يهودياً عاش في مصر هرباً من الخليفة. في الجانب الآخر تمثلت بأفكار هؤلاء الفلاسفة المسلمين الذين ارتقوا إلى الله عبر سلم الفكر الصاعد ذلك أن العقل هو في الدرجة الأخيرة من سلم الفكر الصاعد عبر النزوع الى المشاهدة (المسرح آنذاك، اللعب والجد)، الدرجة الدنيا هي الطبيعة ثم النفس ثم العقل.
(1) الإمام الشافعي.
(2) جيلبير سينويه (كاتب الشيطان ابن رشد).