

كذلك الأمر بالنسبة لقناة السويس في القرن التاسع عشر، والتي مثّلت لحظة تاريخية فاصلة في إعادة توزيع النفوذ بين بريطانيا وفرنسا ولاحقاً الولايات المتحدة، إذ تحوّلت إلى شريان أساسي يربط البحر المتوسط بالبحر الأحمر ويختصر الزمن والمسافة أمام التجارة العالمية. قناة بنما أيضاً كرّست موقع أميركا كلاعب عالمي أول عبر ربط الأطلسي بالهادئ. واليوم، يطل ممر زنغزور كنسخة جديدة من هذه الممرات التاريخية في وسط آسيا، مُحمّلاً بالدلالات نفسها: من يسيطر عليه، يمتلك مفاتيح التأثير في قلب القارة الأوراسية.
عندما ننظر إلى سياسات الولايات المتحدة، خصوصاً منذ عهد دونالد ترامب، ندرك أن ما يجري ليس مجرد تطور عابر في العلاقات الأرمنية – الأذربيجانية، بل هو جزء من رؤية كبرى تعيد إنتاج منطق السيطرة على الممرات. ترامب تعامل مع إيران على أنها عقدة جغرافية – سياسية يجب عزلها عن روسيا وآسيا الوسطى والشرق الأوسط في آن واحد. واتفاق السلام الأذربيجاني – الأرمني الذي يرعاه الأميركيون اليوم يمثل التطبيق العملي لهذه الرؤية، حيث يتم إدخال واشنطن إلى عمق القوقاز عبر ممر استراتيجي يشكل امتداداً لطريق الحرير لكن بشروط أميركية – تركية. هذا الممر، الذي قد يُحقّق أكثر من 100 مليار دولار بحلول 2027، ليس إلا حلقة في سلسلة طويلة تعكس قاعدة ثابتة: من يسيطر على الممرات، يتحكم بمستقبل النظام العالمي.
إيران، التي طالما رأت نفسها امتداداً لطريق الحرير القديم ومركزاً لربط الشرق بالغرب، تواجه الآن محاولات لقطع هذا الدور التاريخي عنها. فهي محاصرة في الخليج عبر مضيق هرمز حيث الوجود الأميركي الكثيف، وفي الشرق عبر مضيق ملقا حيث التحالفات الأميركية – الآسيوية، وفي الغرب عبر نفوذ واشنطن على قناة السويس، وها هي اليوم تواجه في الشمال طوقاً جديداً يتمثل بممر زنغزور. بهذا الشكل يكتمل “الطوق المائي – البري” الذي يحاصرها ويمنعها من أن تكون نقطة ارتكاز في أي نظام عالمي صاعد.
أما تركيا، فإنها تجد في هذا الممر فرصة لإحياء طموحاتها الإمبراطورية القديمة الممتدة نحو آسيا الوسطى، بما يعيد وصلها بتاريخها السلجوقي والعثماني في السيطرة على طرق التجارة. وفي المقابل، تتلقى روسيا ضربة إضافية تذكّر بتاريخها مع قناة السويس في خمسينيات القرن الماضي حين سعت إلى تثبيت نفوذها هناك قبل أن تُقصى بفعل الصراع الغربي. اليوم يتكرر المشهد: ممر زنغزور يقطع شريانها البري إلى إيران ويضعها في عزلة إضافية وهي غارقة في حرب أوكرانيا.
إيران، التي طالما رأت نفسها امتداداً لطريق الحرير القديم ومركزاً لربط الشرق بالغرب، تواجه الآن محاولات لقطع هذا الدور التاريخي عنها. فهي محاصرة في الخليج عبر مضيق هرمز حيث الوجود الأميركي الكثيف، وفي الشرق عبر مضيق ملقا حيث التحالفات الأميركية – الآسيوية، وفي الغرب عبر نفوذ واشنطن على قناة السويس، وها هي اليوم تواجه في الشمال طوقاً جديداً يتمثل بممر زنغزور
إن استدعاء هذه المقارنات التاريخية يكشف أن الصراع على الممرات ليس جديداً، بل هو القاعدة التي قامت عليها الإمبراطوريات وسقطت بسببها أخرى. وما يجري اليوم في القوقاز ليس سوى فصل جديد من هذا التاريخ، لكن بأدوات مختلفة وسياقات مرتبطة بولادة نظام عالمي جديد. غير أن الثابت هو أن الثمن يُدفع دائماً على حساب الشعوب، سواء في فلسطين أو أوكرانيا أو تايوان، التي تتحول إلى وقود لصراع القوى الكبرى على السيطرة. وهكذا، فإن ممر زنغزور ليس مجرد مشروع تنموي أو حدودي، بل هو طريق حرير معكوس يراد منه عزل إيران، ضرب روسيا، وتعزيز نفوذ الولايات المتحدة وتركيا في لحظة فارقة من إعادة تشكيل العالم.