لبنان: صياغة تنفيذية لحصرية السلاح.. تحمي السلم الأهلي

تحتل مسألة حصر السلاح بيد الدولة اللبنانية موقعاً محورياً في النقاش الوطني منذ ربع قرن تقريباً، وهي أبعد من أن تكون قضية أمنية أو عسكرية، بل تعكس جوهر إشكالية الدولة اللبنانية الحديثة؛ هل تستطيع أن تكون المرجع الأوحد في احتكار العنف الشرعي وقرار السلم والحرب؟ وهل تستطيع أن تنسج توازناً دقيقاً بين مقتضيات السيادة الوطنية وضمانات السلم الأهلي في مجتمع تعددي بالغ التعقيد؟

أفضت جلسة مجلس الوزراء اللبناني، التي انتهت أمس (الجمعة) إلى تبنّي الخطة التي عرضها قائد الجيش العماد رودولف هيكل ومعه فريق متخصص من الضباط الخبراء، إلى إحداث انعطافة في مسار التعامل الرسمي اللبناني مع قضية السلاح، إذ حوّلت النقاش من جدل سياسي مفتوح إلى قرار حكومي جامع، ولو في ظل انسحاب الوزراء الشيعة الخمسة من الجلسة عندما بلغت المناقشات البند الذي يعرض لخطة المؤسسة العسكرية.

هذا القرار له ما سبقه من أسرار وتبادل أوراق ورسائل، فهو نتاج تواطؤ إيجابي بين الرئاسات الثلاث وقيادة الجيش، قاد إلى صياغة توافق جديد ينطلق من منطلقات المصلحة اللبنانية العليا، ويُعيد الاعتبار إلى ما نصّ عليه اتفاق الطائف عام 1989، والقرارات الدولية ذات الصلة من اتفاقية الهدنة عام 1949 إلى القرار 425 عام 1978 وصولاً إلى القرار 1701 عام 2006 واتفاقية وقف الاعمال العدائية عام 2024، فضلاً عن خطاب القسم الرئاسي، والبيان الوزاري للحكومة الحالية. غير أنّ أهمية الخطة تكمن أيضاً في أنّها سحبت فتيل الانفجار الداخلي، وأعادت توجيه كرة النار نحو العدو الإسرائيلي، من خلال ربط التنفيذ بقدرات الجيش العملانية وبالمسؤولية الدولية في دعمه، فضلاً عن اشتراط إنهاء الاحتلال الإسرائيلي ووقف الاعتداءات المتكررة والاغتيالات واطلاق سراح الأسرى اللبنانيين. وهنا تكمن القيمة الاستراتيجية للخطة من خلال جعل نزع السلاح خياراً لبنانياً داخلياً لا يُفرض بالصدام، بل بالحوار، ومن دون أن يتحول إلى أداة ابتزاز خارجي.

الجيش اللبناني ودوره التوحيدي

لقد اعتاد النظام السياسي الطائفي في لبنان، في محطاته الكبرى، منذ مائة سنة، أن ينتج توافقات دقيقة تقوم على تسويات لا غالب فيها ولا مغلوب. وهذا ما شهدناه في هذه الجلسة، إذ شكّل التفاهم بين الرؤساء الثلاثة جوزاف عون ونبيه بري ونواف سلام وقيادة الجيش، صيغة متوازنة لإقرار الخطة على الرغم من الانقسام الداخلي العميق. وبرغم انسحاب الوزراء الشيعة الخمسة احتجاجاً، فإنّ الرئاسات لم تجعل هذا الموقف عقبة أمام اتخاذ القرار، بل تعاطت معه بوصفه اعتراضاً سياسياً مشروعاً لا يُفقد القرار شرعيته. وهنا يمكن الحديث عن “تواطؤ إيجابي” هدفه تحييد الانقسام الطائفي والسياسي، وتقديم المصلحة اللبنانية العليا على الاعتبارات الفئوية.

تاريخياً، لطالما كان الجيش مؤسسة جامعة في لبنان، برغم الضغوط والانقسامات. ففي الستينيات، كان الجيش رمزاً للاستقرار النسبي، لكنه اصطدم خلال الحرب اللبنانية (1975 – 1990) بانقسامات عمودية جعلت وحداته تتفكك. ومنذ إعادة بنائه بعد اتفاق الطائف، سعى القادة السياسيون والعسكريون إلى تجنيبه صدامات داخلية، بحيث يظل “الجيش لكل لبنان”، وبمعنى آخر “جيش الشعب لا جيش السلطة”. هذا الإرث هو ما استعادته الجلسة الأخيرة؛ الحفاظ على الجيش كمرجع شرعي وحيد، من دون زجه في مواجهات داخلية قد تطيح بدوره التوحيدي.

من يملأ الفراغ جنوباً؟

الخطة التي عرضها قائد الجيش العماد رودولف هيكل وفريق الضباط الخبراء تجاوزت المخطط الأمني أو العسكري، إلى نص استراتيجي متكامل. لقد ربطت بين خطوات التنفيذ وبين القدرات العملانية المتاحة، وبذلك حمّلت المجتمع الدولي مسؤولية مباشرة: إذا كنتم تريدون نزع السلاح، لا سيما سلاح حزب الله، فعليكم أن تدعموا الجيش تسليحاً نوعياً وعتاداً ومالاً. فالجيش يواجه حالياً أزمة بنيوية نتيجة الانهيار الاقتصادي منذ 2019، وتراجع القدرة على دفع الرواتب المستحقة وغيرها من التعويضات وامكانات الطبابة والمنح الدراسية وانخفاض إمكانات التطويع.

هنا، وضعت خطة المؤسسة العسكرية المجتمع الدولي أمام اختبار جدّيته؛ هل يكتفي بالضغط السياسي على لبنان، أم يساهم فعلياً في تمكين جيشه ليصبح البديل الشرعي والقادر؟

في هذا السياق، يُستعاد النقاش الذي دار منذ انسحاب الجيش الإسرائيلي من الجنوب عام 2000، حين طُرح سؤال: من يملأ الفراغ الأمني؟ في تلك المرحلة، كان الجيش ضعيف الإمكانات، فملأ حزب الله الفراغ كما ملأته قوى أخرى، لبنانية وفلسطينية، منذ مطلع خمسينيات القرن الماضي وحتى مطلع ثمانينياته عندما كانت نشأة حزب الله الأولى. اليوم، تحاول خطة الجيش اللبناني قلب المعادلة: الدولة وحدها هي التي تملأ الفراغ، لكن عبر تسليح الجيش ودعمه.

معادلة المواجهة لفرض السيادة

الخطة أيضاً ربطت التنفيذ بالحفاظ على السلم الأهلي. إذ أكدت أنّ بسط سلطة الدولة لا يكون بالصدام مع أي طرف داخلي. وهذه مقاربة مستمدة من الطائف الذي نصّ على “عدم جواز حل أي ميليشيا لبنانية بالقوة، بل بالتفاهم والتوافق”. هكذا، سحب العماد هيكل فتيل الانفجار الداخلي، وأعاد الكرة إلى ملعب إسرائيل، من خلال وضع شرط أساسي: لن يستطيع الجيش تنفيذ خطته بالكامل ما لم ينسحب الاحتلال من الأراضي اللبنانية المتبقية لا سيما النقاط الخمس، وما لم تتوقف الاعتداءات الجوية والبرية والبحرية وعمليات القتل اليومي للبنانيين، وما لم يُطلق سراح الأسرى. وفي حال رفضت إسرائيل، فإنّ الجيش سيضطر إلى إزالة القيود بالوسائل العسكرية المتاحة، مُكرّساً معادلة المواجهة لفرض السيادة ولو كانت الإمكانات متواضعة.

أمام التصعيد الذي لوّح به ثنائي حزب الله وحركة أمل، وجد لبنان نفسه أمام خطر انفجار حكومي قد يقود إلى فراغ جديد وخطير. لكن رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون، تصرّف كرئيس حكم وليس من أي موقع طائفي أو سياسي فئوي، فعمل على إخراج الحكومة من المأزق، مستنداً إلى صلاحياته الدستورية وعلى رمزية موقعه الجامع. لقد استعاد منطق خطاب القسم الذي شدّد على “بسط سلطة الدولة وحصرية السلاح”، وأعاد التذكير بالبيان الوزاري الذي التزمت به الحكومة.

إقرأ على موقع 180  لبنان: تأجيل الاستشارات النيابية أم مصادرة صلاحيات دستورية؟

إعادة توجيه البوصلة

تاريخياً، لعب رؤساء الجمهورية أدواراً محورية في إدارة معضلة السلاح. فالرئيس إلياس الهراوي (1989 – 1998) أشرف على حلّ الميليشيات في التسعينيات واستيعابها ودمجها في الدولة. والرئيس إميل لحود (1998 – 2007) منح شرعية سياسية للمقاومة في مواجهة الاحتلال. والرئيس ميشال سليمان (2008 – 2014) أطلق طاولة الحوار الوطني حول الاستراتيجية الدفاعية التي افضت إلى “إعلان بعبدا” وجوهره تحييد لبنان عن صراعات الإقليم. واليوم، يحاول الرئيس جوزاف عون أن يجمع بين هذه التجارب من خلال: تثبيت شرعية الجيش، الحفاظ على الوفاق الوطني، وإعادة توجيه البوصلة نحو إسرائيل كعدو لجميع اللبنانيين.

الخطة لم تكتفِ بإجراءات لبنانية داخلية، بل حمّلت الدول الضامنة، الولايات المتحدة، فرنسا، والأمم المتحدة، مسؤولية إلزام إسرائيل بتنفيذ ما يتوجب عليها بموجب القرار 1701 واتفاق وقف الأعمال العدائية (2024). فالقرار 1701، الذي صدر بعد حرب تموز 2006، نصّ على وقف الأعمال العدائية، انسحاب إسرائيل خلف الخط الأزرق، بسط سلطة الدولة بقواها الذاتية، ومنع تهريب السلاح. لكن منذ 2006 حتى اليوم، لم تنفّذ إسرائيل التزاماتها، بل استمرت في الخروقات الجوية والبحرية والبرية اليومية، وفي احتلال أجزاء من الأراضي اللبنانية.

من هنا، فإنّ تحميل الدول الضامنة المسؤولية وعلى رأسها الولايات المتحدة الاميركية، يُعيد التأكيد على أنّ لبنان ليس الحلقة الأضعف، بل صاحب حق محمي دولياً. وهو يضع المجتمع الدولي أمام معادلة واضحة؛ لا يمكنكم مطالبة لبنان بحصر السلاح ما لم تضمنوا تنفيذ إسرائيل لالتزاماتها كاملة.

هامش مناورة أكبر

ولعل أبرز ما تضمنه قرار مجلس الوزراء هو إبقاء مضمون الخطة ومداولاتها سرية، واعتبارها جزءاً من أسرار الأمن القومي اللبناني. هذه السرية تعتبر عنصراً أساسياً لحماية الخطة من التسييس ومن التدخلات الخارجية. فالجيش سيبقى هو المرجع الوحيد لتقدير متى وكيف ينفّذ مراحل الخطة، خصوصاً في منطقة جنوب نهر الليطاني، حيث تتداخل التعقيدات الأمنية مع الاعتبارات الإقليمية.

إنّ مفهوم “سرية الخطط العسكرية” راسخ في كل التجارب التاريخية. ففي فرنسا ما بعد الحرب العالمية الثانية، بقيت خطط دمج المقاومة في الجيش سرية لسنوات. لبنان اليوم اختار أن يحافظ على غموض استراتيجي يتيح للجيش هامش مناورة أكبر، يحمي المؤسسة العسكرية ومن خلالها السلم الأهلي.

البيان الصادر عن مجلس الوزراء جاء ليكرّس الخطة في سياق دستوري – دولي واضح. فمن الناحية العملية، ثمة استعادة لنصوص مرجعية تشكّل دستوراً غير مكتوب لحصرية السلاح في لبنان. فاتفاق الطائف وضع المبدأ؛ القرارات الدولية أعطت الشرعية؛ خطاب القسم والبيان الوزاري وفّرا الغطاء السياسي؛ الخطة العسكرية وضعت الآلية التنفيذية. هكذا نرى أنّ القرار الحكومي الجديد ليس منعزلاً عما سبقه، بل هو حلقة في سلسلة تاريخية ممتدة منذ العام 1989 حتى يومنا هذا.

الخطة تُؤسّس لمرحلة جديدة

في المحصلة، يُمكن القول إن إقرار خطة الجيش يُمثّل تحوّلاً تاريخياً في مسار الدولة اللبنانية. للمرة الأولى منذ عقود، لم تعد حصرية السلاح شعاراً يرفع في السجالات الداخلية أو مطلباً يفرض من الخارج، بل بات خياراً لبنانياً داخلياً، صيغ بتوافق الرئاسات الثلاث وقيادة الجيش، وأُقِرّ في مجلس الوزراء، وأُحيط بالسرية اللازمة لحمايته.

غير أن نجاح هذه الخطة يبقى مرهوناً بعوامل عدة: مدى التزام المجتمع الدولي بدعم الجيش واطلاق خطة إعادة الإعمار؛ مدى التزام إسرائيل بوقف اعتداءاتها وانسحابها خلف “الخط الأزرق”؛ اطلاق الأسرى اللبنانيين؛ ومدى قدرة الداخل اللبناني على حماية السلم الأهلي. لكن مهما تكن العقبات، فإنّ القرار الذي صدر عن مجلس الوزراء يُؤسس لمرحلة جديدة؛ مرحلة تحاول فيها الدولة أن تستعيد دورها الطبيعي كمرجع وحيد في قرار الحرب والسلم، وأن تُعيد الاعتبار لمؤسساتها الشرعية، وأن تخرج من أسر المعادلات المترابطة والمعقّدة التي كبّلتها منذ نهاية الحرب اللبنانية.

بهذا المعنى، فإنّ خطة الجيش ليست نهاية الطريق، بل بدايته. لكنها بداية تحمل دلالة تاريخية، لأنها تمثل لحظة توافق وطني نادر، ولأنها تعيد رسم حدود الصراع الحقيقي؛ ليس بين اللبنانيين، بل بين لبنان وإسرائيل؛ ويبقى السؤال كيف سيتعامل الأميركيون والسعوديون مع قرارات الحكومة اللبنانية؛ بالتفهم والاستيعاب أم بالضغط الذي يؤدي إلى كسر المعادلات الداخلية؟ وهل هناك من واكب قرارات الحكومة خارجياً وكان ينقل الرسائل بين بيروت والرياض وواشنطن وطهران والدوحة؟

Print Friendly, PDF & Email
داود رمال

صحافي لبناني

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  لبنان: تأجيل الاستشارات النيابية أم مصادرة صلاحيات دستورية؟