إنتاج “المَيل الوَحدويّ” في إقليمنا.. “القَفزة المتعالِية” كطرح منهجيّ

ليست سهلة تلك المهمة التي يسعى إليها المنتمون إلى التيار التكاملي الوحدوي في هذا المشرق، لجهة إيجاد قواسم مشتركة، في مواجهة أفخاخ التجزئة والتقسيم والتفتيت، بعناوين متعددة، وهي ظاهرة مشتركة من مغرب عالمنا العربي والإسلامي إلى أقصى مشرقه.

المكان: اقليمنا المشرقيّ العربيّ-التّركيّ-الفارسيّ اجمالاً، والذي يشمل – بشكل خاصّ – مصر والسّودان وتركيا وبلاد العراق والشّام – بما فيها فلسطين التّاريخيّة طبعاً – وإيران وشبه الجزيرة العربيّة. يُسمّيه صديقنا وأستاذنا، سعد محيو، “بالإقليم الحضاريّ المشرقيّ”، وهو يزيد أيضاً عبارة “المتوسّطي” حتّى لا نستثنيَ العامل المغاربيّ طبعاً، ولا حتّى الحضارة المتوسّطيّة ككلّ، أي بضفّتيها الشّماليّة والجنوبيّة إن صحّ التّعبير. مع موافقتي على تصنيفات الأستاذ سعد، أودّ التّشديد في هذه الورقة على البقاء ضمن إطار “الضّفّة الجنوبيّة” بشكل خاصّ، لأسباب سوف تتّضح في ما يلي (دون التّخلّي عن النّظرة الأشمل طبعاً، خصوصاً على المدَى البعيد).

الزّمان: أفق زمنيّ يُركّز على المَدَيَين المتوسّط والبعيد (أي أقلّه من ٥ إلى ٥٠ سنة ممّا نعدّ راهناً) بشكل خاصّ أيضاً.

المعنيّون: شعوب هذا الاقليم بشكل عامّ، ونخبه بشكل خاصّ، أي مجموع السّياسيّين والنّاشطين الاجتماعيّين والعلماء والكتّاب والمفكّرين والاعلاميّين و”المثقّفين” (إلخ.).. المعنيّين بإقامة وبإدارة وبتغذية الحوار – والنّزعة التّكامليّة/الوحدويّة – ما بين مُكوّنات شعوب هذا الإقليم المذكور ودوله وثقافاته.

الهدف: أي الهدف من هذا المقال، فهو طرح وتقديم منهجيّة أو طريقة فكريّة وتحاوريّة، ذات أصول روحيّة وفلسفيّة، تُسهّل عمليّة التّفكير الجماعيّ والتّحاوريّ من خلال: (١) التّخلّي – في مواضع متعدّدة أساسيّة – عن وهم امكانيّة “حلّ عدد من المشاكل” العالقة ما بين مكوّنات هذا الإقليم ونخبه وثقافاته بشكل خاصّ: و(٢) مقاربة الأمور – أقلّه الأشدّ اشكاليّة وخلافيّة واستعصاء بينها – من زاوية.. عَمَلِيّة “القفزة المتعالية” كما يُمكن تسميتها في هذا المجال.

وهذه العمليّة الأخيرة، ينصح بها عدد من كبار المتصوّفين والحكماء والفلاسفة حول العالم، بتعابير ورموز مختلفة ومتعدّدة. وهي تهدف عموماً: (١) إلى تقبّل فكرة أنّ هناك، على المستويَين الفرديّ والجماعيّ، “مشاكلاً” لا يُمكن حلّها واقعاً: و(٢) بالتّالي، فإنّ الوجود “يُريد” منّا – بشكل أو بآخر – أن نتخلّى عن وهم امكانيّة حلّها.. وأن “نقفز” بالتّالي فوقها (أو بتعبير آخر: أن “نتعالى”، بوعينا، فوقها).

الجذور: الفكرة المركزيّة العامّة هي إذن أنّنا، كأفراد وكجماعات، لطالما ندرك خلال تحرّكنا في هذه الحياة وضمن هذا الوجود.. لطالما ندرك أنّنا قد وصلنا – في لحظات معيّنة جليّة – إلى نوع من حائط منيع مسدود في ما يخصّ عدداً من المشاكل (الفرديّة أو الجماعيّة إذن). بالنّسبة إلى موضوع مقالنا، قد نكون أمام مشاكل من النّوع الدّينيّ أو العقائديّ أو التّاريخيّ أو السّياسيّ (متوسّط وبعيد المدى) بشكل خاصّ.

أمّا المقاربة الكلاسيكيّة أو الاعتياديّة، إن جاز التّعبير، فهي قائمة على اعتبار أنّه علينا الاستمرار في الجهد الفكريّ-الذّهنيّ بهدف “حلّ هذه المشاكل” مهما كانت – ولا زالت – تبدو صعبة “الحلّ” (Solution).

وأمّا المقاربة التي نودّ الدّفاع عنها في هذه الورقة فهي تعتبر، كما رأينا، أنّ الوجود – أو الوعي الكونيّ أو “الإله” أو “الله” (إلخ.) – يريد منّا، أمام بعض “المشاكل” (إلخ.)، أن نتوقّف عن التّفكير (Réflexion)، وأن نقوم بعمليّة “قفزٍ” أو “قفزةٍ” من خلال الوعي. بعبارة أخرى، ومن زاوية أعمق: قد يكون ظهور هذا “الحائط المسدود” أمام الفرد أو أمام الجماعة.. “باباً” قد أتاحه وفتحه الوجود.. ليستطيع الفرد أو الجماعة تحقيق هذه “القفزة” أو هذا “التّعالي”. بعض الاشكاليّات قد تبدو معضلات في الظّاهر، ولكنّها في الباطن أبوابٌ من أبواب التّعالي الوعيَويّ والرّوحيّ والفكريّ.

أمّا من هي المراجع الأساسيّة لهذا النّوع من التّفكير، ولهذه الطّريقة غير الاعتياديّة، فسوف أسهّل على القارئ من خلال ذكر ثلاثة توجّهات أساسيّة:

  • عدد من الحكماء والمعلّمين والمدارس الشّرق-آسيويّين، لا سيّما من ذوي التّوجّه اليوغيّ، ومن بين معاصريهم المفكّر والكاتب الهنديّ-الأميركيّ ديباك شوبرا (كلّ ذلك على سبيل المثال لا الحصر طبعاً):
  • الفيلسوف الوجوديّ-المسيحيّ الفرنسيّ المعاصر، غابرييل مارسيل، والذي توقّف مليّاً عند مفهومَي “المشكلة” و”السّرّ”، حيث اعتبر أنّ الاشكاليّات التي تدفع الوعي المتناول لها نحو التّعالي.. هي من الصّنف الثّاني، وهي التي يعجز وعينا عن “حلّها” واقعاً:
  • أحد المؤسّسين الكبار لعلم النّفس التّحليليّ إن لم يكن أكبرهم وأهمّهم، كارل غوستاف يونغ، والذي كان يؤمن بهذه الفكرة واقعاً: لكي يتمكّن الفرد من التّعالي، عليه أن يتقبّل – في لحظات جوهريّة من حياته – أنّ هناك “مشاكلاً” لا يمكن له “حلّها” أبداً.. وأنّ عليه بالتّالي أن “يقفز” فوقها من خلال وعيه.

وهذا “القفز” لا يعني، بالنّسبة ليونغ وبالنّسبة لكلّ هؤلاء عموماً: لا يعني الهروب، أو التّجنّب، أو التّناسي.. أبداً. القضيّة أعمق: في هذه اللّحظات من الحياة، تُمثّل “القفزة” إذا حصلت.. “فتحاً” لأفق جديد، ولزاوية جديدة تحمل معها معانيها الأكثر تعالياً. في الأعمّ الأغلب، عندما “نقفز” في لحظة كهذه: يتبيّن لنا أنّ “مشاكلنا” لم تكن بهذه الأهمّيّة في نهاية الأمر، ولا بهذه المصيريّة: “ما فوق” أو “ما بعد” القفز فوق الحائط.. هو الفوز المطلوب، وهو الغنم المقصود.

في النّهاية أيضاً: قد تكون بعض المشاكل.. حجباً ذهنيّة وعاطفيّة وحسّيّة: تحجبنا عن الحقيقة، وتحجبنا عن تحقيق أنفسنا (أو فرديّتنا الحقيقيّة كما قد يُعبّر اليونغيّون). قد تكون بعض المشاكل، نعم، حُجُباً شيطانيّة كما يُعبّر بعض المتديّنين.

وقد أدركتُ ذلك بشكل عميق، في الآونة الأخيرة خصوصاً، عندما لاحظت ردّات فعل عدد كبير ممّن يُمكن اعتبارهم بالمثقّفين.. أمام تناول بعض المشاكل العالقة بين مكّونات الإقليم.. بعض المشاكل إذن، وخصوصاً، على المستوى الدّينيّ وعلى المستوى العقائديّ وعلى المستوى التّاريخيّ وعلى المستوى السّياسيّ (متوسّط وبعيد الأمد).

إقرأ على موقع 180  الواقع الفلسطيّني الصعب.. والخيارات الأصعب (2/1)

أمثلة تقريبيّة: المسألة قد تبدو غير اعتياديّة، ولكنّها عميقة واقعاً وفي اعتقادي. والأهمّ، على المستوى العمليّ الواقعيّ، هو أنّها قد تساعدنا حقّاً، في هذا الإقليم بشكل خاصّ، على إعادة انتاج “وَعينا أو مَيلنا الوحدويّ” من غير أن نبقى غارقين في إعادة تكرار بعض الخطاب وبعض العمليّات الذّهنيّة والعاطفيّة المُضنية.

وبالتّالي، فإنّي أضع هذا الإطار العامّ المقترح بين يدي جميع المهتمّين بالعمل على التّوجّه نحو الوحدة أو التّكامل في هذا الإقليم، مع التّشديد على أنّ تبنّي هذه الطّريقة أو المنهجيّة.. لا يعني أنّه لا يُمكن “حلّ” أيّ مشكلة. أبداً.. فأغلبيّة المشاكل اليوميّة – أو الرّاهنة أو قصيرة الأمد – يُمكن حلّها طبعاً.. وحتّى، كذلك، عدد لا يستهان به من المشاكل متوسّطة أو طويلة الأمد.

نحن نتحدّث هنا عن “مشاكل”: يكفي أن تتأمّل فيها بجدّيّة، اليوم، ولبرهة من الزّمن، حتّى تُدرك – بشكل شبه بديهيّ – أنّه لا حلّ لها من خلال الذّهن التّفكّريّ الاعتياديّ.

الأمثلة الممكنة ليست قليلة العدد واقعاً، ولكن، فلنركّزْ على الخطوط الثّلاثة الأساسيّة التّالية، مع أمل أن يُقرّب ذلك فهمَ الطّرح على المستويَين النّظريّ والعمليّ قدر الإمكان. وأطلب من القارئ العزيز تحمّل الجانب الاشكاليّ – حتّى في مُجرّد عرض المواضيع – والتّركيز على الفكرة الجوهريّة (هذه الملاحظة تبيّن، بذاتها، أنّنا بوضوح، أمام “مشاكل” لا حلّ لها في المبدأ):

(مجدّداً، أطلب من القارئ العزيز التّركيز على الطّرح والمفاهيم والمعاني، بدلاً من الاستغراق – الآن – في مناقشة الأمثلة وبعض المباني)

  • على الخطّ الدّينيّ والتّاريخيّ معاً: من الواضح الجليّ بالنّسبة إليّ مثلاً، أنّ “المشكلة” السّنيّة-الشّيعيّة، ليست سهلة الحل.. لا على مستوى التّصوّر العقائديّ، ولا على مستوى التّصوّر التّاريخيّ. الحوار ممكن طبعاً، ومحاولة التّقريب ممكنة طبعاً.. ولكنّ تخيّل الوصول إلى “حلّ”، اليوم هو وهمٌ في وهم وسرابٌ في سراب. باختصار؛ تجذّرت المفاهيم المعنيّة عبر العصور، وترسخّت على الأرجح في الوعي واللّا-وعي، على المستوَيَين الفرديّ والجماعيّ على السّواء. إذا ما عدنا إلى يونغ: فالمعضلة الأساسيّة، الحائط المسدود، يكمنان هنا على مستوى اللّا-وعي بشكل خاصّ. لذلك، وباختصار أيضاً، أعتقد أنّ علينا هنا أن نتوقّف عن توهّم أنّه يُمكن الوصول إلى “حلّ”.. والتّركيز على “القفز” بوعينا الجماعيّ فوق هذه المشكلة، والتّركيز على الآفاق الأكثر تعالياً (مثلاً: كيف نبني مستقبلنا معاً، كيف نعيد ميلنا نحو الوحدة، كيف ننسّق طاقاتنا، كيف نواجه أعداء اقليمنا وحضارتنا المشتركين، كيف نُحوّل الرّوايات التّاريخيّة إلى تراث مشترك يتوجّب إعادة دراسته من خلال منهجيّات مجدّدة إلخ.).
  • على الخطّ التّاريخيّ (والقوميّ): باختصار أيضاً، يُمكننا ذكر “مشكلة” مقاربة مرحلة سقوط السّلطنة العثمانيّة.. أي المشكلة ما بين النّظرة التّركيّة النّموذجيّة الاعتياديّة (“لقد تعرّضنا لخيانة”) وبين النّظرة العربيّة التّقليديّة أيضاً (“لقد تخلّصنا من حالة تخلّف واحتلال”). هنا أيضاً، أعتقد أنّنا بالفعل أمام “مشكلة” من النّوع قيد الدّراسة.
  • على الخطّ السّياسيّ (اللّبنانيّ، على سبيل المثال): يُمكننا الحديث هنا عن لحظة انخراط بعض أحزاب وميليشيات “اليمين المسيحيّ”، بشكل مباشر، في حلف أمنيّ وعسكريّ وسياسيّ مع العدوّ الاسرائيليّ. يُمكن إقامة حوار نقديّ حول المرحلة طبعاً، ولكنّي لا أظنّ أنّ مشكلة كهذه يُمكن “حلّها” عند هذا الحدّ، ويتوجّب بالتّالي “القفز” فوقها، حتّى بما يشمل سيرة وشخصيّة الرّئيس بشير الجميّل (وإلّا، كم من العقود سوف نستمرّ في الجدال حول هذه القضيّة وفي اتّهام كلّ طرف للطّرف الآخر.. وخصوصاً في دفع مُكوّن لبنانيّ أساسيّ إلى الاضطّرار للدّفاع عن نفسه – وإلى ردّات الفعل العاطفيّة – عند كلّ مناسبة أو منعطف؟ فلنتأمّل جيّداً..).
  • على الخطّ السّياسيّ أيضاً بالنّسبة إلى سوريا هذه المرّة، وكذلك بالنّسبة إلى المنطقة ككلّ: يُمكننا، على سبيل المثال أيضاً، ذكر الخلاف والاشكال و”المشكلة” – الكبيرة – حول مقاربة الحرب الأهليّة السّوريّة (أي التي اندلعت عام ٢٠١١). هنا أيضاً، أعتقد أنّ البروباغندا والبروباغندا المضادّة قد رسّختا تصوّرات معيّنة، فصارت هذه الأخيرة متجذّرة بشكل مخيف في الوعي وفي اللا-وعي (لا سيّما الجماعيَّين). باختصار؛ من جهة، هناك من يرى بأنّنا كنّا أمام صراع بين “شعب” وبين حاكم ظالم وجائر (ومن لون طائفيّ معيّن)، ولا يزال يُعمّق هذا الاعتقاد ويُصرّ عليه بشكل متصاعد: ومن جهة أخرى، هناك من يعتقد فعلاً وواقعاً أنّنا، في حقيقة الأمور، كنّا – أو لا زلنا – أمام حرب أرادتها قوى الاستعمار، مغطّاة بهذه البروباغندا المدروسة، بهدف ضرب خطوط امداد حركات التّحرّر والمقاومة الحاليّة والمتبقّية في المنطقة. أسألك عزيزي القارئ، بصراحة: هل عندك أمل وقعاً، اليوم، في أن “تحلّ” هذه المشكلة ما بين السّرديّتين أو ما بين التّصوّرين المتجذّرين.. خصوصاً وأنّ دماء وتضحيات جمّة قد بُذلت دعماً وفداءً لكلّ واحدة منهما؟

***

الأمثلة قد تتعدّد وشرحها ومناقشتها قد يطولان جدّاً. ولكنّ الهدف هو اقتراح هذا الطّرح – المنهجيّ وربّما التّقنيّ – وتقديمه، عسى أن ينفعنا، جميعاً، في إطار هذا النّوع المحمود من التّوجّه التّكامليّ والوحدويّ. وقد تكون الخطوة الأولى، في حال وافقنا على الطّرح بشكل أو بآخر: أن نبدأ بإنشاء لائحة “مشاكل” ينبغي لنا جميعاً، في الإقليم، “القفز” فوقها فوراً، والتّقدّم المتعالي المُبين.

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
free online course
إقرأ على موقع 180  منظمة شنغهاي تتمدد.. نحو عالم متعدد الإقطاب!