منظمة شنغهاي تتمدد.. نحو عالم متعدد الإقطاب!

في صلب التحولات الاستراتيجية التي تحيط بالنظام العالمي والتوازنات الدولية، أتت قمة منظمة شنغهاي للتعاون الأخيرة في مدينة سمرقند الأوزبكية، لتؤكد على توجه روسيا والصين نحو جعل النظام الدولي متعدد الأقطاب.

تكمن أهمية قمة سمرقند الأخيرة في كم اللقاءات الثنائية بين قادتها بالإضافة إلى اتساع مروحة الدول المشاركة في فعاليات المنظمة بصفات مختلفة، فقد حضر من خارج الأعضاء الأساسيين كل من إيران وتركيا وأذربيجان وبيلاروسيا، بالإضافة إلى توقيع عدد من الدول على مذكرات تمنحها صفة “شريك حوار” في المنظمة.

أبرز ما جاء في البيان الختامي كان عزم الدول المجتمعة على “زيادة التعاون في مجالي الدفاع والأمن”، وذلك “عبر عقد تدريبات مشتركة لمكافحة الإرهاب ضمن مهمات سلام وتطوير مستوى التفاعل في مكافحة التشكليات المسلحة للمنظمات الإرهابية الدولية”، كما دعت إلى ضرورة الالتزام بـ”خطة العمل الشاملة المشتركة المتعلقة بالبرنامج النووي الإيراني”، وأعلنت الدول المجتمعة عزمها على وضع “قائمة واحدة للمنظمات الإرهابية والانفصالية والمتطرفة”.

وإنتقد البيان الختامي “التطبيق الأحادي الجانب للعقوبات الاقتصادية، بخلاف تلك التي اعتمدها مجلس الأمن”. وفي ذلك إشارة للعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها على روسيا والصين ودول أخرى أعضاء في المنظمة. ودعا البيان إلى ضرورة تشكيل حكومة تضم كافة الأطراف العرقية والسياسية في أفغانستان. وكان لافتاً للإنتباه عدم تضمين البيان الختامي فقرة داعمة للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.

منظمة موازية للغرب؟

لم يعد سعي كل من روسيا والصين، إلى جعل منظمة شنغهاي للتعاون منظمة إستقطابية موازية للغرب مخفياً على أحد؛ فقد أتت تصريحات كل من الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والصيني تشي جين بينغ في القمة الأخيرة لتؤكد على أهمية توسيع المنظمة بضم دول أقوى، اقتصادياً وبشرياً، ما يُحقق هدف بناء عالم متعدد الأقطاب.

تتجلى أهمية منظمة شنغهاي بالنسبة لروسيا في أن دولها ساعدتها في كسر العقوبات الغربية على نفطها وغازها. فمع توقف تصدير النفط والغاز كليا أو جزئيا إلى 13 دولة أوروبية، وجدت روسيا في الصين والهند بديلا لصادراتها من النفط والغاز ولو بأسعار أقل من تلك المتداولة في الأسواق العالمية

في المقابل، فإن تصريحات الرئيس الأوزبكي، شوكت ميرضيايف، المستضيف للقمة، أتت في الاتجاه المعاكس حيث أكد على أن “المجموعة ليست ولا ينبغي لها أن تكون معارضة للمصالح الأميركية أو مناهضة لحلف شمال الأطلسي”.

إلى جانب ذلك، فإن حضور الهند داخل المنظمة كأحد الأطراف الرئيسة فيها والاخذ بالاعتبار تحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة ومصالحها المتشعبة مع الدول الأوروبية، لا سيما المملكة المتحدة، يُخفّف من وطأة التصريحات التي تبشر بإمكان أن تكون منظمة شنغهاي للتعاون منظمة موازية للمعسكر الغربي، وتحديداً للولايات المتحدة وكندا وأوروبا.

ولا يتناقض ذلك مع نظرة الهند إلى المنظمة باعتبارها تُشكل تجمعاً إقليمياً رئيسياً في الفضاء الأوراسي.. فدولة مثل الهند تحتاج إلى الطاقة لدفع اقتصادها، كونها من بين أكبر الدول المستهلكة للطاقة في العالم، لا بد وأن تسعى للوصول إلى المزيد من مشاريع التنقيب عن الغاز والنفط في آسيا الوسطى، حيث تمتلك العديد من الدول احتياطيات نفطية ضخمة.

وبالنسبة إلى الهند أيضاً، يوفر لها هذا المنتدى منصة لعرض موقفها من الإرهاب العابر للحدود الذي يُمثّل أكبر تهديد أمني لها.

واللافت للإنتباه أنه إلى جانب سعي روسيا إلى إنضمام الهند، برز سعي صيني لضم باكستان إلى المنظمة عام 2017. وهذا التناقض يبرز دور هذا المنتدى الفريد من نوعه بالمسارات التي يمكنه أن يفتحها حتى بين دول متنافسة ومتخاصمة عبر الإلتقاء في مساحات محددة، كما هو الحال مع الهند وباكستان.

علاوة على ذلك، فإن العلاقات البينية للدول الأعضاء داخل منظمة شنغهاي لا تُوازي، حتى الآن، العلاقات التي تجمع دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا والولايات المتحدة وكندا. فعلى سبيل المثال، ما تزال كازاخستان، أكبر دول آسيا الوسطى، تنظر بعين الريبة إلى نشاط روسيا الإقليمي والدولي، وهي لم تعترف حتى الآن بحق روسيا في التدخل في كل من جورجيا والقرم وأوكرانيا.. وقبلهم أبخازيا.

علاوة على ذلك، من الصعوبة بمكان تصور أن دولاً لا تزال تعاني من نزاعات حدودية في ما بينها يمكنها بناء منظمة تكون موازية للغرب في الأمن والسياسة والاقتصاد. فمن جهة نجد نزاعات حدودية مستمرة بين الهند وباكستان، وبين قيرغيزستان وطاجكستان بالإضافة إلى انخراط أذربيجان وأرمينيا ومن خلفهما إيران وتركيا في صراعات متجددة في منطقة القوقاز، وكلها صراعات تنعكس سلباً على طموح أن تكون منظمة شنغهاي للتعاون منظمة موازية للغرب.

ليس ذلك فقط، إذ كيف لمنظمة تواجه تحدي منظمات موازية لها في فضائها الجغرافي أن تكون موازية بذاتها للدول الغربية التي هي أكثر تماسكاً وأحادية في فضائها الجغرافي؟ وهنا نتحدث عن منظمتين رئيستين في منطقة آسيا يُمكن القول إنهما موازيتان في الجوهر لمنظمة شنغهاي للتعاون: منظمة الدول التركية والاتحاد الاقتصادي الأوراسي.

إقرأ على موقع 180  بايدن لإحتواء الصين.. منعاً لصعود قوى دولية جديدة!

الصين بالجملة.. والمفرق

بيد أن منظمة شنغهاي للتعاون باعتبارها أكبر المنظمات الأسيوية، لا تزال توفر حاجة للصين توازن من خلال العمل الجماعي داخل آسيا مع المبادرات والاتفاقيات الثنائية التي تعقدها مع الدول الأعضاء في إطار مشروعها الاستراتيجي الكبير.

كما لا يُتصور أن يكون غياب ملف أوكرانيا، رسمياً، عن البيان الختامي وجدول أعمال المنظمة قد حدث من دون التنسيق مع الصين، من زاوية عدم المس بالمصالح الإستراتيجية الروسية الصينية من جهة وعدم إحراج بعض حلفاء أميركا بالإنحياز إلى موقف موسكو من جهة ثانية.

وبينما تستمر الصين في التأكيد على أهمية المنظمة ودورها الاستراتيجي عالمياً، فإنها تستثمر بالمفرق بإبرامها اتفاقيات ثنائية مع دول في آسيا الوسطى (مثل اوزبكستان وكازاخستان). كما تُوفر المنظمة للرئيس الصيني أداة يؤكد من خلالها للحزب الشيوعي الصيني، على أعتاب المؤتمر العشرين في شهر تشرين الأول/أكتوبر المقبل، نجاحه في تعزيز علاقات الصين الخارجية وتطوير المنظمات والتكتلات التي من شأنها أن تساعد في مواجهة الولايات المتحدة والدفع باتجاه نظام عالمي متعدد الأقطاب.

برغم أن منظمة شنغهاي تمثل كتلة بشرية واقتصادية وعسكرية هامة، إلا أنها بحاجة إلى تقوية علاقاتها البينية ومعالجة الخلافات العميقة بين دولها، وخاصة بين الهند وباكستان وبين الصين والهند وبين طاجيكستان وقرغيزيا. وعندما تتمكن المنظمة من بناء هياكل متينة، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، يمكنها أن تكون نداً للغرب وهيئاته المختلفة مثل حلف الناتو والاتحاد الأوروبي

روسيا.. والبدائل الأسيوية

صحيح أن موسكو نجحت حتى الآن في إيجاد أسواق أسيوية جديدة لغازها في آسيا لتعويض النقص الناتج عن تراجع مبيعات الغاز الروسي إلى أوروبا، غير أن حسم الحرب في أوكرانيا يبقى في سلم أولوياتها، خصوصاً في ظل ما يتعرض له جيشها من إحراجات وإنتكاسات في الميدان، كما على مستوى الهيبة والسمعة دولياً.

وتتجلى أهمية منظمة شنغهاي بالنسبة لروسيا في أن دولها ساعدتها في كسر العقوبات الغربية على نفطها وغازها. فمع توقف تصدير النفط والغاز كليا أو جزئيا إلى 13 دولة أوروبية، وجدت روسيا في الصين والهند بديلا لصادراتها من النفط والغاز ولو بأسعار أقل من تلك المتداولة في الأسواق العالمية.

ومع بدء العمل بخط الغاز “قوة سيبيريا 2” إلى الصين عبر منغوليا والمزمع البدء بتشييده عام 2025، فإنه سيُشكل البديل لخط “نورد ستريم 2” الذي أوقفته العقوبات الغربية، بينما ستزيد طاقة الضخ في خط “سيبريا 1” في العام المقبل إلى ما يوازي طاقة الضخ الحالية في خط “نورد ستريم 1”.

من آسيا إلى إفريقيا

وبرغم التحديات المرحلية والاستراتيجية التي تواجه منظمة شنغهاي، إلا أنها مستمرة بالتطور والتوسع. فهي على مستوى عدد الدول الأعضاء فيها تتطور وتستقطب دولاً جديدة، الأمر الذي يكسبها أهمية دولية أكبر، كما ساهمت التغطية الإعلامية التي رافقت القمة الأخيرة بعكس مدى اهتمام الدول الأعضاء فيها، تحديداً الصين، للتسويق للمنظمة على أنها تحمل في طياتها القدرة على أن تكون منظمة موازية للمعكسر الغربي في العالم وتدعو من خلال ذلك أكبر عدد ممكن من الدول الطامحة إلى بناء نظام عالمي متعدد الأقطاب يتماهى مع الرؤية الصينية للإنضمام إليها.

ويشكل انضمام إيران رسمياً إلى منظمة شنغهاي، انفتاحا نحو غرب آسيا، بعد خمس سنوات، من التمدد جنوبا نحو الهند وباكستان. وهذا الانفتاح شمل أيضا دولاً عربية (قطر والإمارات والكويت والبحرين) كدول مشاركة في الحوار ما يجعلها مرشحة مستقبلا للانضمام إلى هذا التكتل الآسيوي.

وثمة مفارقة أن مصر، بثقلها البشري والحضاري، أصبحت أيضا دولة مشاركة بالحوار في المنظمة، برغم أنها الوحيدة من خارج القارة، ما يطرح تساؤلات حول ما إذا كانت المنظمة التي لا يتجاوز عدد أعضائها حالياً ثماني دول ستتوسع مستقبلاً نحو إفريقيا وأميركا اللاتينية.

وبرغم أن منظمة شنغهاي تمثل كتلة بشرية واقتصادية وعسكرية هامة، إلا أنها بحاجة إلى تقوية علاقاتها البينية ومعالجة الخلافات العميقة بين دولها، وخاصة بين الهند وباكستان وبين الصين والهند وبين طاجيكستان وقرغيزيا. وعندما تتمكن المنظمة من بناء هياكل متينة، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، حينها يمكنها أن تكون نداً للغرب وهيئاته المختلفة مثل حلف الناتو والاتحاد الأوروبي.

Print Friendly, PDF & Email
هادي حبلي

كاتب وباحث لبناني

Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  انتخابات تركيا المحلية.. إسطنبول "أم المعارك" وأنقرة محسومة للمعارضة