جورج إبراهيم عبدالله.. “حيَّ على المقاومة”!

وصل المناضل اللبناني جورج إبراهيم عبدالله إلى لبنان، أمس، بعد 41 عاماً أمضاها في سجون فرنسا. رُفِض خلالها 12 طلباً لإطلاق سراحه، بسبب الضغوط الأميركيّة والإسرائيليّة على السلطات الفرنسيّة. وكانت محكمة الاستئناف في باريس قد أصدرت في 17 تموز/يوليو قرارها بالإفراج عن جورج عبدالله، أقدم سجين سياسي في أوروبا، شرط أن يغادر فرنسا وألّا يعود إليها أبداً.

أجيالٌ كثيرةٌ من اللبنانيّين والفلسطينيّين، لا تعرف مَن يكون جورج إبراهيم عبدالله. لم تسمع، ربّما، عن ذاك الشاب العكّاري الذي نذر شبابه وحياته لنصرة القضيّة الفلسطينيّة. حتّى أنّ القضاء الفرنسي صنّفه شخصاً يقبع في دهاليز التاريخ. ففي تعليله لدواعي الإفراج عن القائد السابق لـ”الفصائل المسلّحة الثوريّة اللبنانيّة”، اعتبر أنّ جورج عبدالله بات “رمزاً من الماضي للنضال الفلسطيني”. وأنّ “المجموعة الصغيرة التي كان يتزعّمها وتضمّ مسيحيّين لبنانيّين علمانيّين وماركسيّين وناشطين مؤيّدين للفلسطينيّين باتت منحلّة ولم ترتكب أيّ أعمال عنف منذ 1984″، أي تاريخ اعتقال جورج عبدالله. كان جورج يقيم في سويسرا، قبل أن يذهب إلى فرنسا لتسليم وديعة شقّة استأجرها. ودخل في عام 1984 إلى مركزٍ للشرطة في مدينة ليون، ليطلب الحماية من قَتَلة “الموساد” الذين يطاردونه. فاعتقلته الشرطة الفرنسيّة بتهمة حيازة جواز سفر جزائري مزوّر، ومن ثمّ حُكِمَ عليه بالسجن 4 سنوات في سجن لانميزان.

وردّاً على اعتقاله، اختطفت مجموعته المسلّحة الدبلوماسي الفرنسي سيدني جيل بيرول في آذار/مارس 1985. وافقت السلطات الفرنسيّة على تبادل المعتقلين عبر الجزائر، غير أنّها لم تفِ بوعدها بإطلاق سراح جورج عبدالله. فهي سرعان ما أدركت أنّ الرجل (الذي يجيد اللغة الفرنسيّة) ليس سائحاً على أراضيها، بل هو “عبد القادر السعدي” (اسم جورج عبدالله الحركي) بشحمه ولحمه. وفي آذار/مارس 1987، حُكم على عبدالله بالسجن المؤبّد بتهمة تدبير عددٍ من العمليّات الفدائيّة، وأبرزها اغتيال الملحق العسكري الأميركي في باريس تشارلز روبرت راي (18 كانون الثاني/يناير 1982)، والدبلوماسي الإسرائيلي يعقوب بارسيمنتوف (3 نيسان/أبريل 1982). ولطالما أكّد مُحامو جورج عبدالله ومناصروه أنّ محاكمته كانت موجَّهة ومُدارة من قِبَل قوّةٍ أجنبيّة عارضت، على الدوام، طلبات الإفراج عنه.

على الأرجح، لم يعرف تاريخ المحاكمات في العالم قضيّةً زاخرة بالدسائس والمؤامرات والتسييس، كما حدث مع قضيّة جورج إبراهيم عبدالله. فعدا عن أنّ السلطات الفرنسيّة لم تتوصّل يوماً إلى أيّ أدلّةٍ تدينه سوى تهمة “استعمال وثيقة سفر مزوَّرة”، فهو أُبقي موقوفاً في خرقٍ صارخ للإجراءات القانونيّة الفرنسيّة وللمعاهدة الأوروبيّة لحقوق الإنسان، والتي تنصّ على أنّ المحكومين بالسجن المؤبّد (كحال جورج) يجب أن يُطلَق سراحهم بعد 18 سنة كحدٍّ أقصى. أي إنّ جورج قد أمضى 23 سنة في السجن، كُرمى لعيون الأميركيّين والإسرائيليّين الذين وصفوا أيّ قرارٍ بالإفراج عنه بـ”الخطير للغاية، والذي لا يصبّ في مصلحة الولايات المتحدة أو فرنسا أو لبنان. ولا سيّما، مع نيّته بالانضمام مجدّداً إلى عائلته المرتبطة بالإرهاب، لذا فهو سيكون حرّاً في متابعة أهدافه العنيفة من دون إشرافٍ فعّال من المحاكم الفرنسيّة”.

أعتقد أنّ معظم قاطني السجن اللبناني الكبير، قد اختاروا النسيان لكي يتمكّنوا من العيش والاستمرار بانتظار الموت. لكن، لا أعرف ماذا اختار جورج عبدالله، وهو يرى “الكذب يدور حول الأرض في انتظار أن تلبس الحقيقة حذاءها”، بحسب تعبير الكاتب الأميركي مارك توين، لكي يتمكّن من الصمود في سجنه الفرنسي الصغير بانتظار الحياة

من دون شكّ، سيسخط العدوّ كثيراً (وهل أجمل من سخط العدوّ؟) على رؤية جورج عبدالله في مطار بيروت، وهو يُصرّح بكوفيّته المُذيّلة بالعلم الفلسطيني، “أنّ المقاومة مُسمَّرة في هذه الأرض ولا يمكن اقتلاعها”. والمناضل المحرّر لم ينسَ غزة وجَوْعاها. ولا صمت الجماهير العربيّة على هذا الجوع، وهي تقف على مرمى حجر من أرض فلسطين. وأمام العشرات الذين انتظروه أمام قاعة الوصول في المطار، انتقد ملايين العرب الذين يتفرّجون على غزة بينما أطفالها يموتون جوعاً: “هذا معيب للتاريخ وبحقّ الجماهير العربيّة، أكثر من الأنظمة التي نعرفها”، قال جورج عبدالله شاكراً كلّ مَن ساهم في إطلاق سراحه. ماذا بعد؟

إنّ أهمّ ما في حدث الإفراج عن جورج عبدالله هو، في الحقيقة، توقيت عَتْقه. فهذا ما تفهمه من عيون الناس وقبضاتها المرفوعة التي انتظرته في لحظة كبوة المقاومة. في لحظة الهزائم الكبرى. في لحظة الخوف من الآتي الأعظم. في لحظة السقوط المدوّي لكلّ شيء. في لحظة اليأس. لحظة الأسئلة الكبيرة. والانتظارات الخائبة و…و…و. فأنْ يأتي مناضلٌ عتيق من وراء البحار، ويضخّ فيك صرخاتٍ مُعتّقة بالعنفوان، ويدعوك لكي ترفع رأسك من بين شلاّلات الرؤوس المنحنية، فهو لَعَمْري شيءٌ كنَسَم الروح. مَن يحتمل هذه الدنيا؟ مَن يحتمل غطرسة الأعداء والمتكبّرين والطغاة؟ مَن يحتمل آلام القضيّة المخذولة؟ والانتظار الطويل؟ واستحالة العدل؟ وهزيمة الحقّ أمام الوحشيّة؟ وكلّ تلك الأنانيّة؟ وكلّ ذلك الظلم؟ كيف سنجد طاقة الاحتمال لما تبقّى من هذا العمر؟

أسئلة تُلحّ عليّ منذ الصيف الفائت. لكنّني خجلتُ من نفسي، وأنا أشاهد سيّد الصبر والانتظار وهو يستقبل مُستقبليه بوجهٍ مُتعَب، لكنّه ينبض بالحياة والحريّة. ومن ثمّ فكّرت وأسرَّيتُ لنفسي: جورج كان في سجنه الصغير وكنّا نحن في سجننا الكبير. لذا، لم تُصِبه لوثة الحياة اللبنانيّة كما أصابتنا. ولم يُقصَف عقله بالتفاهات التي عطّلت كلّ قدرةٍ لنا على التفكّر. ولم تغسل دماغه بروباغندا وسائل الإعلام (المأجورة بغالبيّتها؟) مثلما حصل معنا. يقول الكاتب والروائي البرازيلي باولو كويلو: “الانتظار مؤلم والنسيان مؤلم أيضاً، لكن معرفة أيّهما تفعل، هو أسوأ أنواع المعاناة”. أعتقد أنّ معظم قاطني السجن اللبناني الكبير، قد اختاروا النسيان لكي يتمكّنوا من العيش والاستمرار بانتظار الموت. لكن، لا أعرف ماذا اختار جورج عبدالله، وهو يرى “الكذب يدور حول الأرض في انتظار أن تلبس الحقيقة حذاءها”، بحسب تعبير الكاتب الأميركي مارك توين، لكي يتمكّن من الصمود في سجنه الفرنسي الصغير بانتظار الحياة!

إقرأ على موقع 180  لبنان يا "كعك الهوا"!

كلمة أخيرة. في عام 2012، اعترف قائد الاستخبارات الفرنسيّة السابق إيف يونيه في مقابلةٍ صحفيّة، بأنّ ما حدث مع جورج إبراهيم عبدالله كان “مؤامرة أمنيّة مخالفة للقانون”. وأردف يقول: “فعلاً، لقد تصرّفنا في هذه القضيّة كمجرمين. وآن الأوان لوضع حدٍّ للظلم الكبير الذي ألحقناه بجورج عبدالله”. إقتضى أن تُرفَع اللعنة تلو اللعنة عليكم وعلى العدالة الفرنسيّة الممسوخة.

Print Friendly, PDF & Email
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
free online course
إقرأ على موقع 180  كيسنجر.. الثعلب المُثير للجدل