عشت لفترات غير قصيرة في دول تطبّق قواعد وأيديولوجية النظم الديموقراطية، وعشت في الصين وقرأت، حتى الإدمان، عن الحزب الشيوعي الصيني وفلسفة الحكم في الصين وهي المشتقة من أصول بعينها في الفكر الماركسي اللينيني والمستندة في الوقت نفسه إلى تراث ثقافي وحضاري محلي، ومع ذلك، وبرغم هذه الخلفية التي تصورت ببعض المبالغة أنها ضرورية، لن أتجاسر فأقود مقارنات.
***
تابعت باهتمام بعض تفاصيل اجتماعات قمم الدول الغربية وخرجت بانطباعات كتبت عن بعضها. بقي معي راسخا انطباع، ولا أقول قناعة، بأن أوروبا، وبرغم تطمينات الرئيس الأمريكي جو بايدن، ما تزال غير مطمئنة إلى رسوخ الديموقراطية في أمريكا. تحدثت إلى أصدقاء في أوروبا، أحالوني إلى متخصصين يعتقدون أن الشرخ الذي أحدثه دونالد ترامب في البنية السياسية الأمريكية ما زال يتمدد ليس فقط في أمريكا ولكن يتمدد أيضا في أوروبا. يعرفون أن ترامب، وهو خارج البيت الأبيض، لم يهدأ ولن يهدأ له بال. كذب ترامب كذبة كبيرة ويبدو أنه بالفعل صدقها. يوما بعد يوم يتأكد اقتناعه بأنه الرئيس الشرعي للولايات المتحدة. تأثر ترامب، كما يتأثر ملايين المشاهدين الأمريكيين، ببرامج تلفزيون الواقع. في تلفزيون الواقع تتحول في عقول الناس القصة الزائفة لتصبح حقيقة واقعة. تشير دلائل بعينها إلى أن مؤلف القصة الزائفة يتأثر مثل بقية المشاهدين فتصبح قصته في نفسه حقيقة واقعة. بعض هذه البرامج كتب ترامب قصتها وأنتجها وأخرجها وقام بالتمثيل فيها.
***
الأخطر من وجهة نظر أصدقاء ومتخصصين أوروبيين هو تعامل الرئيس السابق ترامب مع حزبه، أي مع حزب الجمهوريين. قبل الاستطراد يجدر أن أذكر بأن ترامب لم يكن على وفاق مع هذا الحزب وبأنه لم يحترم قياداته حتى خلال ترشحه للرئاسة. هو الآن يهددهم باستبدالهم بأنصار من الذين ينفذون أوامره ويؤمنون بمعتقداته عن المجتمع الأمريكي ومستقبل أمريكا. أكثرهم صاروا يثقون في قدرته وهو خارج السلطة السياسية على حرمانهم في الانتخابات القادمة من تجديد احتلالهم لمقاعدهم في المجلسين. تقول المعلومات أن رئيس الأقلية في مجلس الشيوخ السناتور ميتش ماكونيل عاد عن تمرده واحتجاجه على دور الرئيس السابق ترامب في تحريك فتنة السادس من كانون الثاني/يناير واقتحام الكابيتول عندما وصله تهديد ترامب بحرمانه من فرص الفوز بالتمديد، وهكذا وصلت الرسالة إلى جميع أعضاء الحزب في الكونجرس بمجلسيه. وصل تهديد مماثل إلى كافة قواعد الحزب في أمريكا ولعله التهديد الذي كان له التأثير الأكبر. هنا هدد ترامب بأنه إن لم يحظ بدعم الحزب الجمهوري فسوف ينشئ حزبا ثالثا ينافس به الديموقراطيين والجمهوريين معا. وفي كل الأحوال لم يتوقف عن التنبيه بأن مصير الحزب الجمهوري بدون ترامب رئيسا له وموجها لن يجد في أول انتخابات مقاعده في المجلسين وقد احتلتها أغلبية تمثل الملونين وتقضي إلى الأبد على نفوذ العنصر الأبيض.
هل يفلح الرئيس جوزيف بايدن في مد عمر النظام الديموقراطي في الولايات المتحدة؟ هذا السؤال مصحوب بالقلق هو الآن مطروح في أوروبا، وبخاصة في الدول التي ستجري فيها انتخابات نيابية ورئاسية خلال الشهور القليلة القادمة
في كثير من المجتمعات، بما فيها مجتمعاتنا العربية، انحسر نفوذ النخبة وتراجع موقعها في تراتيب السلطة وفي صنع القرار. هناك سبب وربما أكثر من سبب وهناك نتيجة أو عاقبة وربما أكثر من واحدة. اتفق مع الرأي القائل بأن النخبة فقدت أكثر نفوذها عندما فقدت أساس شرعيتها في النظام السياسي، أقصد بالأساس احتكارها للمعلومات، وهذا فقدته عندما انتقلت حيازة المعلومات إلى مواقع جديدة مفتوحة لكل الناس، ومن هؤلاء الناس قادة السلطة السياسية الذين انتهزوا الفرصة وراحوا يؤلبون الرأي العام على النخبة المتهمة بالفشل وفقدان القدرة على توفير المعلومات. تعلمنا أن الديموقراطية لا تقوم لها قائمة إلا إذا توفرت في المجتمع معلومات كافية وضرورية تتوزع بحرية ومساواة وعدالة. تعلمنا أيضا وبدورنا نحاول نقل ما تعلمناه إلى أجيال جديدة تمارس الديموقراطية أو تسعى لتبنيها، تعلمنا أن النخب السياسية إذا اختنقت لنقص في التدريب على صنع المعلومات وتخزينها أو لقيود على حرية النشر والتوزيع فإنها، وأقصد النخبة، تتلاشى بالتدريج أو يتوالى ضعف نفوذها حتى تتقزم تاركة مكانها لبيروقراطية دائما في انتظار هذه اللحظة، لحظة سقوط الديموقراطية وتولي بدائلها السلطة. فقر النخبة أو تراجع شرعيتها صار علامة من علامات عصرنا الرقمي وتكاد كل الدول التقليدية والمتقدمة على حد سواء تعيش، بدرجة أو أخرى من المصاعب، هذه الأزمة وتداعياتها. الولايات المتحدة ليست استثناء.
***
ومن علامات سقوط النظام الديموقراطي استخدام المسئولين السياسيين لغة السب وتوجيه الشتائم واختيارهم الكلمات البذيئة وخطابات إذلال الخصوم والمعارضين، حينذاك نكون أمام مشهد تظهر فيه الدولة تفترس صغارها، وفي الوقت نفسه تستعجل سقوط الديموقراطية. هذا بالضبط ما فعله ترامب، وأظن أنه سوف يعيد ما فعله لو عاد واستلم السلطة. المشكلة هنا سواء حدث الأمر في أمريكا أو في دولة أخرى تكمن في حقيقة أن الرئيس الأعلى في تراتيب السلطة السياسية تعمد أن يختصر المسافة التي يجب أن تفصل بينه وبين الجماهير. هذه المسافة ضرورية للغاية في الديموقراطية كما في نظم أخرى. بحسابات الديموقراطية أخطأ ترامب وهو الآن يكرر الخطأ بعودته إلى الأسلوب نفسه أثناء إلقاء خطابه في مؤتمر من المؤتمرات التي أطلق أولها قبل أيام معدودة. بحسابات نية إسقاط الديموقراطية والنية في إقامة نظام متطرف بقواعد شخصية لم يخطئ ترامب بدليل أن الحزب الجمهوري بات عاجزا عن تقديم مبادرة تحفظ له كيانه وتنقذ النظام الديموقراطي من السقوط. تكمن خطورة تضييق المسافة بين الحاكم والجماهير في أن عواقب تضييق المسافة قد يخضع الحاكم لأهواء الجماهير المنفعلة غالبا ويخضع الجماهير لنزوات الحاكم وأهمها استخدام قوة الجماهير لضرب المعارضة ولإسقاط الدستور والمؤسسات الدستورية وحل الأحزاب وغيرها من البنى الديموقراطية.
***
هل يفلح الرئيس جوزيف بايدن في مد عمر النظام الديموقراطي في الولايات المتحدة؟ هذا السؤال مصحوب بالقلق هو الآن مطروح في أوروبا، وبخاصة في الدول التي ستجري فيها انتخابات نيابية ورئاسية خلال الشهور القليلة القادمة. لن نمل من القول بأن المزاج الأوروبي، ربما باستثناء دول قليلة، ما يزال غير مستعد للدخول في عملية اختيارات جادة بديلا للديموقراطية. والغريب أن هذا المزاج ما يزال في الوقت نفسه وفي غالبية المواقع غير واثق من تحقيق النصر السياسي في مواجهة طويلة وشاقة جدا مع الصين وروسيا بل وحتى مع كل منهما على حدة. فاتني أن أنقل ما يدور من نقاشات في أوروبا حول تلميحات الرئيس بايدن ومساعديه عن رغبة واشنطن الاستعانة بالدول الغربية الحليفة للتوجه جماعة إلى الشرق الأقصى في مسعى جديد لفرض حصار على الصين ومشاريع توسعها الأيديولوجي في منطقة الاندو باسيفيك. سمعت أن هناك في تلك النقاشات خرج من يشكك في احتمالات قبول أوروبا تسليم قيادها لأمريكا غير الواثقة من قدرتها الذاتية على حماية نظامها الديموقراطي.
(*) بالتزامن مع “الشروق”