الهويات القاتلة تنهش نسيج مجتمعاتنا المشرقية

يشهد الشرق الأوسط اليوم تحوّلات عميقة وتحدّيات جسيمة تُعيد تشكيل مفاهيم الهوية على المستويات ‏الفردية والجماعية. في ظلّ هذه الديناميكيات، تبرز مفاهيم "الهويات السائلة" و"الهويات القاتلة" كأدوات ‏تحليلية مهمّة لفهم طبيعة الصراعات، التحالفات، والانتماءات المعاصرة في المنطقة.

تشير الهويات ‏السائلة، المستوحاة من أعمال عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان حول “الحداثة السائلة”، إلى ‏الطبيعة المتحوّلة وغير المستقرة للهويات في عالم معولَم ومتغيّر باستمرار. في سياق الشرق الأوسط، ‏حيث تتشابك الانتماءات الدينية، العرقية، القبلية، المناطقية، والوطنية، تتجلّى الهويات السائلة في تحوّلات ‏وتكيّفات مستمرة للأفراد والجماعات، حيث يُعادُ تعريف الولاءات والانتماءات استجابة لانهيار الدول، ‏مترافقاً مع صعود الجماعات الطائفية، والقبلية، والعشائرية والمناطقية المتطرفة، وتغير التحالفات الجيوسياسية. وهذا يؤدي إلى تشكّل هويات هجينة ‏تجمع بين عناصر متعدّدة، وقد تصبح الانتماءات مؤقتة أو تكتيكية في خدمة مصالح محدّدة.

على ‏النقيض، تستند الهويات القاتلة، كما يصفها المؤرخ والأديب أمين معلوف، إلى مفهوم صارم وأحادي للهوية يتم ‏تضخيمه إلى درجة الإقصاء والعنف ضد “الآخر”. في بيئة الشرق الأوسط المشحونة بالتوترات، تتجلّى ‏الهويات القاتلة في التطرف والإقصاء؛ في تسييس الهوية (سواء كانت دينية، عرقية، أو طائفية) ‏وتوظيفها لتبرير العنف ضد الآخر. يتم استغلال التباينات الهوياتية لتعبئة الأفراد ‏والجماعات في صراعات عنيفة، ما يؤدّي إلى تفكيك النسيج الاجتماعي وتقويض مفهوم المواطنة ‏المشتركة. وغالبًا ما تستند هذه الهويات إلى روايات تاريخية مُحرّفة تُستخدَم لتبرير العنف وتأجيج ‏مشاعر الكراهية.

في الشرق، لا يعمل هذان المفهومان بمعزلٍ عن بعضهما البعض، بل ‏يتفاعلان بطرق معقّدة. ففي حين أن الهويات السائلة قد تكون استجابة تكيفية للظروف المتغيرة، فإنّها ‏قد تخلق أيضاً فراغاً أو هشاشة تستغلها الهويات القاتلة لتأكيد سيطرتها. على سبيل المثال، قد يؤدي ‏ضعف الهوية الوطنية إلى بحث الأفراد عن انتماءات أكثر رسوخًا وصلابة في الهويات الطائفية، العشائرية، ‏القبلية، والمناطقية، والتي يمكن أن تتحول بسهولة إلى هويات قاتلة عندما يتم استغلالها سياسيًا.

يُصبح فهم تفاعل هذه ‏الهويات أمراً بالغ الأهمّية لتحليل الصراعات الراهنة في سوريا، العراق، اليمن، ولبنان وغيرها من البلدان، وكذلك لفهم ‏التحولات الاجتماعية والسياسية الأوسع في المنطقة. تتطلب معالجة هذه التحدّيات مقاربة شاملة تعزّز ‏قيم المواطنة المشتركة، التعدّدية، والتسامح، وتُفكِّكَ خطاب الكراهية الذي يغذي الهويات القاتلة، مع ‏الاعتراف بمرونة وتنوّع الهويات في المجتمعات المعاصرة.

وفي سياقات الاضطرابات السياسية والاجتماعية التي تهيمن على بلدان الشرق الأوسط، لم تعد الهوية مسألة انتماءٍ ثقافيٍّ بسيط، بل تحوّلت إلى ساحة صراعٍ مفتوحة بين قوى الدّفع نحو التعدّد والانفتاح من جهة، وقوى الانغلاق والاستقطاب من جهة أخرى. السؤال الذي يُطرَح بحدّة اليوم هو: كيف تسهم ديناميكيات الهوية السائلة في تغذية أو احتواء صعود الهويات القاتلة؟ وما هي آثار ذلك على استقرار المجتمعات والتحوّل السياسي في المنطقة؟

هذه المقالة تسعى لمعالجة السؤال انطلاقاً من أدوات ومفاهيم أنثروبولوجية، وخصوصاً من خلال مقاربة كليفورد غيرتز الرمزية، وأفكار زيغمونت باومان حول السيولة، ومفاهيم ما بعد الحداثة في قراءة الهوية بوصفها بناءً هشاً ومتنازعاً عليه.

الهوية كسردية رمزية: من التأويل إلى العنف

يرى كليفورد غيرتز أن الثقافة نظامٌ من المعاني الرمزية التي تجعل العالم مفهوماً وقابلاً للعيش، وأن الهوية ليست معطى جوهريًا بل نتيجة لتأويل هذه الرموز في سياقات اجتماعية وتاريخية معيّنة (Geetz, 1973). في هذا السياق، تصبح الهوية القاتلة لحظة اختزال للذات في رمزٍ واحدٍ مهيمن – الدين، العرق، أو الطائفة – وهي لحظة تأويلية مدمِّرة تُقصي كل سرديّات التعدّد وتُنتِج حدوداً عنيفة بين “نحن” و”هم”.

الهويات القاتلة لا تنشأ من فراغ، بل من خلال تراكمٍ رمزيٍّ مقصود، حيث تُبنى المعاني حول مفاهيم الخطر، النقاء، والتهديد الخارجي. وكما يوضّح أمين معلوف (2001)، فإن خطر الهوية لا يكمن في تنوّعها، بل في لحظة توحيدها القسريّ، عندما تُختزَل الذات إلى بعدٍ واحدٍ وتتسلَّح بهويتها في وجه الآخر.

الهوية السائلة: بين الانفتاح والهشاشة

في المقابل، تتيح الهوية السائلة، كما صاغها زيغمونت باومان، إمكانية التعدّد والتجاوز، حيث لم تعد ‏الهويات ثابتة أو مترسّخة في الانتماء البيولوجي أو الجغرافي، بل أصبحت مشاريع مفتوحة تُبنى وتُفكّك ‏باستمرار (Bauman, 2000). وتعكس هذه السيولة في الانتماء تحوّلاً عميقاً في شروط إنتاج الذات في ‏العالم الحديث، إذ بات الفرد مُحاطاً بخيارات متعدّدة من أنماط الانتماء، لكنه في الوقت نفسه مهدّد ‏دوماً بفقدان الثبات والمعنى.

غير أن هذه السيولة، حين تترافق مع هشاشة مؤسساتية وفقر رمزي – أي حالة من التهميش أو الإقصاء ‏المعنوي والاجتماعي، وعدم امتلاك الأفراد أو الجماعات للمكانة أو الاعتراف أو التمثيل أو القدرة على ‏التعبير عن الذات في المجال العام؛ فقرٌ على مستوى المعنى، والتقدير، والاعتراف الاجتماعي، وغالباً ما يرافق الفقر المادي أو يعمّق آثاره – تُصبح مدخلاً خصباً لانبعاث هويات قاتلة تبحث عن يقين رمزي.

إقرأ على موقع 180  سوريا صينية.. في صياغات شرق أوسطية جديدة

وفي غياب الدولة الجامعة أو العقد الاجتماعي القوي، تتحوّل الهوية السائلة إلى هشاشة وجودية، فيلجأ الأفراد إلى انتماءات ضيّقة تقدّم لهم حدّاً أدنى من الأمان الرمزي (Bauman, 2004).

آليات التحول من السيولة إلى القتل

في المجتمعات المفكّكة، مثل العديد من دول الشرق الأوسط أثناء الثورات أو الحروب أو بعدها، يصبح التعدّد الهوياتي عبئاً. يُعادُ إنتاج الطائفة والعشيرة كمأوىً أخير، وتُستعادُ الرموز المؤسّسة للهويات القاتلة عبر الخطاب، التعليم، والإعلام بأنواعه كافة. الأنثروبولوجي أرغون أبادوراي (2006) يحذّر من أنّ العولمة، بدلاً من أن توحّد الهويات، قد تؤدّي إلى تفجيرها من الداخل، حيث يشعر الأفراد بأن وجودهم مهدّدٌ من “الآخرين الصغار”، أي المجموعات القريبة والمشابهة ثقافياً، ما يؤدّي إلى عنفٍ رمزيّ وماديّ حاد.

تتحوّل الرموز المشتركة – مثل اللغة، الطقوس الدينية، أو الزيّ – إلى علامات فرز وإقصاء. وكما لاحظ طلال أسد (2003)، فإن تصوّرات الحداثة والعلمنة في المنطقة، بدلاً من نزع الطابع الطائفيّ أو العرقيّ عن الهويّات، أعادت ترسيخها في المجال السياسيّ من خلال بنى الدولة الحديثة نفسها.

تداعيات الهويات القاتلة على الاستقرار

تُخلّف الهويات القاتلة آثاراً عميقة على الاستقرار الاجتماعيّ والسياسيّ في الشرق الأوسط، إذ تؤدّي إلى تفكّك المجال العام وتفريغه من مضمونه كمكانٍ جامعٍ للحوار والتفاوض بين مكونات المجتمع. فبدلاً من الفضاء الوطنيّ المشترك، تنشأ مجالات طائفية أو عشائرية مغلقة تقوّض إمكانات التلاقي وتُجهِض أيّ أفقٍ لبناء مشروع سياسي شامل.

وفي خضم الحراكات الشعبية، كثيراً ما تحوّلت الهويات القاتلة إلى أدوات لإجهاض الثورات، كما في سوريا واليمن والعراق (ولبنان في زمن حربه الأهلية)، حيث أفضى تصاعد الاصطفافات الهوياتية إلى انزلاق المسارات الثورية نحو صراعاتٍ أهلية دامية، قطعت الطريق على إمكانات التغيير الديموقراطي.

كما تساهم هذه الهويات في إعادة إنتاج أنماطٍ من الاستبداد السياسي، إذ تستخدمها بعض الأنظمة لتبرير قبضتها الأمنية، مُقدِّمة نفسها كضامنٍ للاستقرار في مواجهة خطر التفكّك والانقسام، ما يسمح لها بترسيخ سلطتها على حساب بناء عقدٍ اجتماعيٍّ عادلٍ وشامل.

في الخاتمة، لا يكمن الحلّ في إنكار الهوية أو تفكيكها بالكامل، بل في إعادة تأويلها بوصفها شبكة مرنة من الانتماءات المتداخلة، لا كجذرٍ متصلّب. فالهوية، وفقاً لما بعد الحداثة، ليست سردية واحدة، بل فسيفساء من الذكريات، التجارب، والمواقع المتغيّرة. والمطلوب هو تعزيز قدرة الأفراد على التنقّل بين انتماءاتهم دون تهديد، وبناء مؤسّسات جامعة تحترم التنوع دون أن تفتته.

إنّ فهم علاقة الهوية السائلة بالهوية القاتلة يتطلب تجاوز التفسيرات النفسية أو السياسية الاختزالية، نحو قراءة تفكِّك البنى الرمزية التي تنتج الخوف والانغلاق أو التسامح والانفتاح. الهوية ليست جوهراً بل خطاباً، والقتل ليس فِعلاً غريزياً بل نتاج تأويلات متوترة للذات والآخر. وحده بناء فضاءٍ رمزيٍّ مشترك، لا يُقصي أحداً، يمكن أن يؤسّس لتحوّلٍ سياسيٍّ حقيقيٍّ في مجتمعاتٍ مأزومةٍ بالهويات.

 

المراجع

  • Appadurai, A. (2006). Fear of small numbers: An essay on the geography of anger. Duke University Press.
  • Asad, T. (2003). Formations of the secular: Christianity, Islam, modernity. Stanford University Press.
  • Bauman, Z. (2000). Liquid modernity. Polity Press.
  • Bauman, Z. (2004). Identity. Polity Press.
  • Geertz, C. (1973). The interpretation of cultures. Basic Books.
  • Maalouf, A. (2001). In the name of identity: Violence and the need to belong. Arcade Publishing.

Print Friendly, PDF & Email
سعيد عيسى

دكتوراه في الأنتروبولوجيا الاقتصادية؛ كاتب وباحث في شؤون العمال والحماية الاجتماعية؛ خبير في الحوار الاجتماعي والحوكمة والتدريب.

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  عالمٌ تقوده أمريكا طبقاً لتوجيهات "الملك المستبد"!