وقبل أن تنجلي النتائج النهائيّة للهجوم الوحشي الإسرائيلي الذي يستهدف تدمير قطاع غزّة وإبادة سكانه، يتبيّن أنّ إدارة المعركة تحت إشراف القائد محمد ضيف لم يغب عن حساباتها التحوّل الدولي نحو نظام انتقالي للتوازن الشامل يصبّ في غير مصلحة الولايات المتحدة الأميركيّة والكتلة الأطلسيّة على ما تُشير مآلات المواجهة مع الإتحاد الروسي في أوكرانيا. وكذلك تصدّع “البيت الإسرائيلي” الذي أصابت مضاعفاته تماسك المؤسسة العسكريّة وكفاءتها، فضلاً عن وصول موجة التطبيع العربيّة مع دولة إسرائيل إلى العتَبَة السعوديّة المقدّسة والحاسمة في ظّل رعاية أميركية مشدّدة وارتخاء عربي مثير للريبة.
والحصيلة أنه إذا كان مطلوباً توجيه ضربة صاعقة لاستعادة الوعي وإعادة الاعتبار للقضيّة الفلسطينيّة على المستوى السياسي ـ الديبلوماسي، فإن ذلك قد تحقق في 7 تشرين الأول/أكتوبر على أيدي مقاومين فلسطينيين من الجيل الجديد تجرّأوا على تسجيل أسطورة أخرى للعبور.. كان وقعُ زلزالها أكبر من حرب تشرين/أكتوبر 1973 كونها أصابت بمقتلٍ نظام الإحتلال والتمييز العنصري على أرض فلسطين.
***
ليس جديدًا القول إن التأييد الكامل لإسرائيل يُمثل منذ عقود الركن الرئيسي للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط. وفي هذا الإطار، تستمر إسرائيل في تلقي ٣ مليارات دولار من المساعدة الاميركية سنوياً، فضلاً عن الدفع على مستوى الإقليم نحو التطبيع مع الدولة اليهودية، وآخر الخطوات في هذا الإتجاه محاولة التطبيع السعودية الإسرائيلية.
هذا التحول الأميركي له ما يُبرّره في ضوء التقييم الغربي للفشل العسكري والإستراتيجي الإسرائيلي في مواجهة حركة “حماس”، ذلك أن ديبلوماسيين أوروبيين عملوا في إسرائيل ولديهم معرفة بآليات الجهاز الأمني الإسرائيلي، يُجمعون على أن ما حدث في ٧ تشرين/أكتوبر ٢.٢٣ يصعب على المرء تصوره واستيعابه
لكن الإختراق الإستراتيجي الذي حقّقته المقاومة الفلسطينية في ٧ تشرين/أكتوبر نتيجة لعملية “طوفان الأقصى”، ينطوي على تهديد إستراتيجي لإسرائيل يدفع إلى تحول أميركي من العمل من أجل التأثير في السياسة الإسرائيلية، إلى محاولة تأطير هذه السياسة واحتضانها على نحوٍ دراماتيكي يوحي بأن الكيان الإسرائيلي على حافة الانهيار، وأن على الإدارة الأميركية أن تعنى بإخراجه من دوامة الإنقسام والتفكك التي ظهرت مؤشراتها الأولى قبل أشهر إبّان حركة الإحتجاج على الإصلاحات القضائية التي تطاول بنية النظام السياسي الإسرائيلي.
ويُفهم من السلوك الأميركي المرافق لحملة الدعم العسكري والتموضع في الحرب مع إسرائيل، وهو سلوك سيبلغ ذروته مع زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى إسرائيل في الساعات المقبلة، أن إدارة البيت الأبيض تُحاول عبر المواكبة الميدانية من قبل مسؤولين تنفيذيين مثل وزيري الخارجية أنتوني بلينكن والدفاع لويد أوستن، وربما مشاركة ضباط أركان كبار في عملية الضبط والربط، تبريد الرؤوس الإسرائيلية الحامية التي لا ترى في الشعب الفلسطيني سوى “حيوانات بشرية” يجب سحقها!
وتتولى الإدارة الأميركية، في الوقت نفسه، مهمة ردع أطراف إقليمية، ولا سيما إيران وحزب الله، عبر تحذيرها من عواقب التدخل لتوسيع الصراع، ما يعني أن الولايات المتحدة تريد حصر المواجهة مع المقاومة الفلسطينية في غزة.. تحت طائلة أن تتولى هي الرد على أي طرف إقليمي يمكن أن ينخرط في المعركة دعماً لحركة “حماس”.
وليس سراً أن التوجيهات الأميركية ساهمت في إنتاج حكومة الطوارئ التي تضم إلى بنيامين نتنياهو أقطاباً من المعارضة أبرزهم وزير الدفاع يوآف غالانت علماً أن تركيبة المجلس الحربي المصغر تعكس ثقل النخبة العسكرية في إدارة الأزمة.
الفشل الإستراتيجي
هذا التحول الأميركي له ما يُبرّره في ضوء التقييم الغربي للفشل العسكري والإستراتيجي الإسرائيلي في مواجهة حركة “حماس”، ذلك أن ديبلوماسيين أوروبيين عملوا في إسرائيل ولديهم معرفة بآليات الجهاز الأمني الإسرائيلي، يُجمعون على أن ما حدث في ٧ تشرين/أكتوبر ٢.٢٣ يصعب على المرء تصوره واستيعابه بكل بساطة.
ويلفت هؤلاء الإنتباه إلى أن جغرافيا فلسطين المحتلة لم تشهد من زمن النكبة (١٩٤٨) اختراقات برية من النوع والاتساع اللذين سُجّلا في ٧ تشرين/أكتوبر الماضي. زدْ على ذلك عامل المفاجأة المطلقة وغياب أي ردة فعل فورية من الجيش الإسرائيلي (لنحو ست ساعات)، فضلاً عن آلاف القتلى والجرحى والمفقودين من الجنود المستوطنين اليهود، بالإضافة إلى ما يزيد عن مائتي أسير من الجنود والمستوطنين. هذا المشهد يُصيب بالذهول معظم الذين يعتبرون أنفسهم على اتصالٍ بالشؤون الإسرائيلية.
تبدو معضلة إسرائيل في هذا الشأن مأساوية: لا يمكنها أن تتصرف وكأن الأسرى غير موجودين مثلما لا يمكنها أن “تُدوزن” مراحل حربها البرية في غزة وفقاً للضرورة المتعلقة بخلاصهم
هذا الفشل الإسرائيلي الذي شُبّهَ بما حصل خلال حرب أكتوبر ١٩٧٣ يصبح مرعباً إذا أخذنا في الإعتبار أن الصورة التي كانت سائدة هي أن كل ما يجري في قطاع غزة لا يمكن أن يخفى على أجهزة الإستخبارات الإسرائيلية نظراً إلى كثافة وفاعلية وسائلها البشرية والتقنية في القطاع. وكانت عمليات الإغتيال المركزة لمسؤولين كبار من حركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي” تدفع نحو تأكيد هذا التفوق الأمني. لذلك من الصعب تفسير كيف أن هجوماً فلسطينياً بهذا الحجم يستدعي تحضيراً طويلاً ومشاركة المئات من الكادرات، أمكن له اختراق التفوق الأمني الاسرائيلي المزعوم.
إلا أن الفشل يتعدى الأجهزة السرية إلى المنظومة العسكرية والإستراتيجية بسبب إخلاء منطقة “غلاف غزة” من القوات المرابطة عادةً فيها ونقلها إلى الضفة الغربية تحت ضغط تصاعد أعمال المقاومة هناك، وإصرار جناح الصهيونية الدينية في الحكومة السابقة على منح هذه المنطقة أهمية خاصة بسبب تمركز أنصار هذا الجناح في مستعمرات الضفة الغربية. وتكشف شهادات العديد من المستوطنين الذين أفلتوا من قبضة الفدائيين، عمق الصدمة والخيبة التي اجتاحت المجتمع الإسرائيلي إزاء غياب “جيش الشعب” لا بل “نومه” في وقت الإمتحان. وهذا ما قد يُفسر المغالاة الدونكيشوتية في التهديدات الموجهة إلى سكان غزة وحركة “حماس”، كما حضور قادة الأركان السابقين في تركيبة حكومة الطوارئ، فضلاً عن الايغال في سفك الدم الفلسطيني طوال عشرة أيام متتالية.
تغيير المعادلة
أما على المستوى الإستراتيجي، فإن التخطيط الأميركي الإسرائيلي الذي يقضي بدفع عملية التطبيع بين الدولة اليهودية والعالم العربي نحو فرض العزلة على الفلسطينيين وإنهاء القضية الفلسطينية، قد تلقى ضربة مباشرة، ومن المفيد أن نُسجّل هنا أنه بعد إخراج مصر من الصراع وتوقيع “اتفاقات ابراهام” بين إسرائيل ودول الإمارات والبحرين والمغرب والسودان جاء دور العملاق السعودي، بما يُمثل من عمق إسلامي كبير، للدخول في محادثات معقدة مع إسرائيل بوساطة أميركية وذلك سعياً إلى الانضمام إلى عملية التطبيع والاستفادة من فوائدها، ولا سيما الإقتصادية.
ومن الواضح الآن أن اختراق “طوفان الأقصى” يُغيّر المعادلة الإقليمية ويجعل من الصعب قيام أي تقارب لدولة عربية أو إسلامية مع إسرائيل في الوقت الذي تقوم الدولة اليهودية بشن حرب إبادة ضد الشعب الفلسطيني بذريعة اجتثاث قاعدة “الإرهاب” في قطاع غزة.
ووسط تقدم خطوات التطبيع التي دفعت في الآونة الأخيرة وزراء إسرائيليين إلى زيارة السعودية في الوقت الذي تحدث ولي العهد السعودي محمد بن سلمان عن تحقيق تقدم في هذه العملية، من السهل التصور أن حركة “حماس” عرفت كيف تترجم الإرادة الشعبية المقاومة في الضفة الغربية والقطاع لتذكير العالم العربي أنه لا يمكن تجاوز العامل الفلسطيني في السياسات الإقليمية، وهذا جعلها تتبوأ موقع من يُعيد المسألة الفلسطينية إلى طليعة “الأجندة” في الشرق الأوسط.
تحتاج العلاقات الأميركية ـ الإسرائيلية إلى الرصد في المرحلة المقبلة، من زاوية تداعيات عملية “طوفان الأقصى” وعودة الدولة اليهودية إلى مربع حاجتها الإستراتيجية إلى الحماية الأميركية حتى إشعار آخر
ويمكن التأكيد أن توقيت عبور حركة “حماس” إلى جنوب فلسطين المحتلة، تم في ضوء قراءة ثاقبة لأبعاد التناقضات السياسية التي تعصف بالنظام الإسرائيلي منذ أشهر والتي تضعف طاقة هذا النظام وقدرته على الرد، كما يلحظ التوقيت إنهماك الإدارة الأميركية بالحرب الأوكرانية والإستعداد للإنتخابات الرئاسية المقررة في العام 2024، فضلاً عن عناصر متشابكة ومتناقضة على الصعيد الإقليمي.
يبقى العامل التكتيكي الذي يرافق حرب “طوفان الأقصى” وهو أسر المئات من الإسرائيليين، وبينهم جنود وضباط كبار بالإضافة إلى عدد من حاملي الجنسية المزدوجة (أميركيون وبريطانيون وفرنسيون وغيرهم). من شأن هذا العامل أن يُعقّد المعادلة الصعبة أصلاً أو يُسهّلها بطريقة ما، إذ أنه يُدخل عنصراً غير مسبوق لا تعرف إسرائيل ولا أميركا الطريقة المناسبة للتعامل معه، بينما يُمثل بالنسبة إلى حركة “حماس” ورقة ضغط قوية للتفاوض. وتبدو معضلة إسرائيل في هذا الشأن مأساوية: لا يمكنها أن تتصرف وكأن الأسرى غير موجودين مثلما لا يمكنها أن “تُدوزن” مراحل حربها البرية في غزة وفقاً للضرورة المتعلقة بخلاصهم!
في الخلاصة، تحتاج العلاقات الأميركية ـ الإسرائيلية إلى الرصد في المرحلة المقبلة، من زاوية تداعيات عملية “طوفان الأقصى” وعودة الدولة اليهودية إلى مربع حاجتها الإستراتيجية إلى الحماية الأميركية حتى إشعار آخر.