مع “الانقسام” وعزل وكلاء المستعمِر.. حتى لو كانوا فلسطينيين بيولوجياً!

تبدو مقولة "أنا ضدّ الانقسام ومع التوافق الوطني" بديهية لكل فلسطيني. مع ذلك، تدفعنا البداهة نفسها إلى تفكيك هذه العبارة ووضعها في سياقها التاريخي وبحث دلالتها في إطار المشروع التحرري الفلسطيني، فلا تبقى مفهوماً هلامياً مائعاً، يوظف في غير موضعه، وبل من أجل إضعاف الحالة الفلسطينية على وجه التحديد. 

عادة ما تستخدم مقولة “إنهاء الانقسام” في وصف حل التناقضات بين سلطة محمود عباس من ناحية وحركات التحرر الوطنية والإسلامية في فلسطين من ناحية أخرى، فهل التناقض بين الطرفين هنا ثانوي أم تناقض جوهري؟ وهل هناك توافق بين السلطة والقوى الوطنية على القضايا الكبرى من مقاومة احتلال، واستيطان وتحقيق الحرية والاستقلال؟ وهل تتقاطع مصلحة السلطة بوظيفتها الأمنية المتمثلة في ملاحقة المقاومين ومحاصرتهم واعتقالهم واغتيالهم وتفكيك بنية المقاومة نفسها مع مصلحة الشعب الفلسطيني؟

أظن أن الإجابة على هذه التساؤلات باتت ومعلومة للجميع، وعلى ضوء هذه الإجابات، أقول بثقة: إذا مثّل “الانقسام” تناقضاً جوهرياً بين قوى ثورية تحررية، وأخرى وكيلة عن الاستعمار، تنفذ وظيفته وتسعى لتحقيق غاياته، فأُنا مع هذا الانقسام بوصفه تموضعاً صحياً وصحيحاً في معادلة الصراع.

وقبل أن يخرج من يتهمنا بالانعزالية والفوضوية، يلزمنا التمييز بعمق بين نوعين: التباين والتناقض.

التباين خلافٌ داخل منظومة تحرّر واحدة تُدار فيها التناقضات بقواعد وحدةٍ ميدانية وبرنامج تحرّري واضح. أما التناقضٌ فهو صراع تناحري بين مشروعين مختلفين تماماً، أحدهما يستمدّ بقاءه من استمرار الاحتلال ويعامله كضمانة لوظيفته، وآخر يربط الشرعية بالفعل التحرّري والعدالة. في الحالة الأولى، تُحسم المسائل بأدوات السياسة والجبهة الموحدة وإدارة الاختلاف. في الحالة الثانية يتحوّل “التوافق” إلى هزيمة وبرنامج ينقض جوهر القضية، فيما يُسرّع حسم التناقض لصالح القوى الثورية مسار عملية التحرر. لم يسجل التاريخ أن حركة تحرر منحت الشرعية لمسارٍ يُعطّل غايتها، ولم يُسجل أيضاً أن منظومة سياسية وظيفية مرتبطة عضوياً بمنظومة الهيمنة قبلت أن تتنازل لصالح مشروع التحرر. لهذا أنا مع الطلاق الأبدي مع سلطةٍ قبلت أن تكون أداة للقمع ولتفريغ الشعب الفلسطيني من قيمه الثورية وكافة مقومات صموده.

وحتى لا يبقى موقفنا تجاه ما يطلق عليه “الانقسام الفلسطيني” في إطار التحليل، لنعد قليلاً في التاريخ حتى نفهم ما حدث، كيف اندلع الصراع بين السلطة والمقاومة، وهل فعلاً ما حدث كان انقساماً أو انقلاباً؟ ومن الذي انقلب؟ وعلى من؟ وهل يجوز أن نظل في مرمى الاتهام لمن يقولون: إن الشعب الفلسطيني منقسم على نفسه. أو: ليتوحد الفلسطينيون أولاً قبل أن يطالبوا بالالتفاف حول قضيتهم.

لا يجوز الحديث عن انقسام فلسطين – فلسطيني، لأن ما حدث هو عملية فرز طبيعية تمظهر من خلالها مشروعان متناقضان تماماً في غاياتهما، وصلا حد التناحر والصراع. لذلك أنا أعلن بأنني مع هذا النوع من “الانقسام” ومع عزل وكلاء المستعمِر، حتى لو كانوا بيولوجياً فلسطينيين

دايتون لأولوية احتواء حماس والجهاد

للحكاية هنا جذور تاريخية عميقة، تعود إلى بزوغ تيار التسوية في منظمة التحرير المتمثل بالقيادة السياسية المتنفذة. لكننا سنبدأ الحكاية منذ اكتسحت حركة “حماس” صناديق الاقتراع في الانتخابات التشريعية الفلسطينية مطلع العام 2006. مثّل هذا الفوز لحظة انكشاف حقيقي لما تبقى من هندسة “أوسلو”. شكلت هذه الانتخابات محطة تحول في خيارات الشعب الفلسطيني. وأثبتت نتائج التصويت أن الجماهير تنفضّ عن أولئك الذين يلقون البندقية تحت أقدام المحتل، ويلتفون حول خيار المقاومة ورجالها. على أساس هذا المبدأ تراجع حضور القوى الوطنية التاريخية لمنظمة التحرير، لصالح صعود حركات المقاومة الإسلامية مثل حماس والجهاد الإسلامي.

بعد حسم المعركة الانتخابية لصالح حماس، بدأ الحصار السياسي فوراً. قُطعت المساعدات، وتوقفت الرواتب، وأُغلقت الأبواب في وجه الحكومة الجديدة في غزة، برغم أنها جاءت بإرادة شعبية صريحة، وبرغم أنها كانت حكومة الوحدة الوطنية الوحيدة التي شهدتها الحالة السياسية الفلسطينية، إذ شارك فيها جميع المنتخبين في المجلس التشريعي باستثناء الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي وضعت فوارق جوهرية بين المشاركة في المجلس التشريعي والمشاركة في حكومة سياسية.

لكن الأخطر من كل هذه الإجراءات المباشرة ضد الحكومة، هو ما كان يجري خلف الستار. آنذاك بدأت الإدارة الأميركية ومعها الكيان الصهيوني وبمساعدة محمد دحلان في تحضير خطة انقلاب يشرف عليها الجنرال الأميركي كيث دايتون، تنص على تدريب وتسليح عناصر من أجهزة السلطة ومنتسبين من حركة فتح في الأردن ومصر، بتمويل أميركي وخليجي، لإعادة ترتيب الأجهزة الأمنية على نحو يضمن تحجيم حماس وشلّ قدرتها على فرض سلطتها في الميدان، ومن ثم تفكيك البنى المقاومة للشعب الفلسطيني بكل أطيافها. في تلك المرحلة، شنّت الأجهزة الأمنية التابعة لسلطة أوسلو حملة اعتقالات واسعة طالت كوادر ونشطاء من جميع حركات المقاومة الإسلامية والقوى الوطنية الفلسطينية الممثلة في منظمة التحرير.

تمثلت الخطة التي أطلق عليها البعض “انقلاب فتحاوي بغطاء أميركي”، في إنشاء قوة تنفيذية تُسند إليها مهام “استعادة السيطرة” على غزة بشكل خاص. وكانت نقطة الارتكاز فيها محمد دحلان، الذي أعاد بناء نفوذه في القطاع عبر شبكة أمنية متشعبة ومحمية أميركياً. العديد من وسائل الإعلام وثقت الدعم الأميركي لهذه القوة، من أسلحة خفيفة، وذخائر، ومعدات اتصالات، وتدريبات تكتيكية، كلها بإشراف دايتون الذي وصف حماس لاحقاً بأنها “تحدٍّ يجب احتواؤه”.

إقرأ على موقع 180  لحظة غزة المفصلية.. أسئلة فلسطينية وعربية

ولم تكن هذه الخطة محصورة في بعديها السياسي والأمني، بل امتدت آثارها إلى مستويات اجتماعية واقتصادية وفكرية عميقة. فقد جرى استغلال المؤسسات من الداخل عبر إخضاع موظفيها لمنظومة من الضغوط والابتزاز الممنهج، حيث تحولت الرواتب والمخصصات المالية إلى أدوات لإسكات الأصوات المعارضة وضمان الولاء المطلق. وفي موازاة ذلك، نشطت ماكينة إعلامية وخطابية للترويج لروايات تهدف إلى تبرير الإجراءات وإضفاء الشرعية عليها، مستخدمة شعارات تتحدث عن “الإصلاح” و”الاستقرار” و”حماية المصلحة العامة”، بينما كانت تُخفي في جوهرها عملية إقصاء وتصفية ممنهجة لكل من يشكل عقبة أمام التنفيذ. وبهذه الطريقة، تداخلت أدوات الضغط الاقتصادي مع هندسة الوعي العام، لتشكيل بيئة تقبل بالتحولات المفروضة وتصمت عن المواجهة حماية لوجودها الاجتماعي والقوت اليومي للعائلة. وأدى هذا كله إلى نشوء طبقة مشوهة من الموظفين، الذين لا ينتمون بنيوياً ولا طبقياً للمنظومة التابعة لقوى الهيمنة، لكنهم مضطرون بحكم الحاجة إلى أن يكونوا وقوداً في معركة تستهدف مصالحهم الوطنية أولاً.

ما حدث في غزة عام 2007 لم يكن “انقلاب حماس على الشرعية” كما تروّج له أجهزة إعلام السلطة والاحتلال وبعض العواصم العربية، بل كان تحركاً استباقياً لإفشال انقلاب يقوده محمد دحلان بدعم صهيوأميركي رجعي، يستهدف حكومة الوحدة الوطنية التي يقودها إسماعيل هنية، ويستهدف على المدى البعيد إعادة هندسة المجتمع الفلسطيني بالقضاء على منجزاته التاريخية

حماس تستبق الإنقلاب.. كيف؟

في المقابل، كانت حركة حماس تُراقب تنامي التشكيلات المضادة. ومع تصاعد حوادث التصفيات والاشتباكات المحدودة في القطاع وتزايد أعداد المعتقلين في الضفة، وارتفاع نبرة التحريض، اتخذت قرار المواجهة بناءً على معطيات ميدانية وأمنية جمعتها الحركة خلال عام من المواجهة الباردة.

اندلعت المواجهة في حزيران/يونيو 2007. وخلال ستة أيام فقط انهارت مقار الأمن الوقائي التابعة لدحلان – دايتون، وتراجعت القوة الخاصة التي دُربت في الخارج، وتفككت شبكة النفوذ التي بناها دحلان على مدى سنوات. حتى أن الصحافة الأميركية أشارت حينذاك في تقاريرها إلى أن “القوة التي أُعدَّت لإسقاط حماس، سقطت في أول مواجهة فعلية معها”.

كانت حماس مدركة أن رد السلطة، وبنصائح أميركية، سيكون توريط الحركة في ملف غزة المعقد، وأنهم سيلجأون إلى أسلوب الحصار والعزل لإفقار الشعب وابتزازه لاستكمال مخططهم الذي فشل بالأدوات الأمنية. لذا بادرت الحركة بعد الحسم إلى الدعوة لتشكيل حكومة وحدة وطنية، وأبدت استعدادها للحوار السياسي من أجل إعادة ترتيب الداخل الفلسطيني بما يضمن حماية عناصر صمود الشعب. وأعلن إسماعيل هنية في خطاباته في حينه، أن المرحلة تتطلب توافقاً وطنياً، وأن غزة لا يمكن أن تكون بديلاً عن الكل الفلسطيني. لكن هذه الدعوات لم تلق استجابة. فأعلنت القيادة في رام الله تشكيل حكومة طوارئ برئاسة سلام فياض من دون العودة للمجلس التشريعي، وجرى تثبيت واقع سياسي في الضفة معزول عن نتائج الانتخابات ومعادٍ لأي صيغة تفاهم.

أما المجلس التشريعي الذي كان يتشكل في غالبيته من حماس، فتم تجميده بشكل كامل، وبات المشهد يدار من خارج المؤسسات الدستورية. ونتيجةً لتعنت السلطة لفكرة القضاء على أي بذرة للمقاومة يمكن أن تنمو وتُثمر مستقبلاً، وخضوعها الكامل لإملاءات تفكيك بنى المقاومة ونزع سلاحها، فشلت جميع الوساطات التي طرحت حلولاً توافقية ومن بينها تشكيل قيادة وطنية موحدة تتبنى برنامج يعتمد البناء وتعزيز مقومات صمود الشعب الفلسطيني.

خلاصة الكلام، ما حدث في غزة عام 2007 لم يكن “انقلاب حماس على الشرعية” كما تروّج له أجهزة إعلام السلطة والاحتلال وبعض العواصم العربية، بل كان تحركاً استباقياً لإفشال انقلاب يقوده محمد دحلان بدعم صهيوأميركي رجعي، يستهدف حكومة الوحدة الوطنية التي يقودها إسماعيل هنية، ويستهدف على المدى البعيد إعادة هندسة المجتمع الفلسطيني بالقضاء على منجزاته التاريخية من تشكيلات وطنية ومجتمعية وبنى مقاومة. ومع أن كل هذا فشل، إلا أن الانقلاب الوحيد الذي نجح في السياق، هو انقلاب السلطة على حركة فتح بمضمونها التاريخي ومهامها التحررية. لقد ابتلعت التسوية تنظيم فتح ولم يبقَ منه إلا أصوات مبعثرة هنا وهناك، وخلايا “شهداء الأقصى” التي تخوض الكفاح جنباً إلى جنب مع قوى شعبنا الفلسطيني.

بعد كل هذا، لا يجوز الحديث عن انقسام فلسطين – فلسطيني، لأن ما حدث هو عملية فرز طبيعية تمظهر من خلالها مشروعان متناقضان تماماً في غاياتهما، وصلا حد التناحر والصراع. لذلك أنا أعلن بأنني مع هذا النوع من “الانقسام” ومع عزل وكلاء المستعمِر، حتى لو كانوا بيولوجياً فلسطينيين.

لقد حسم “طوفان الأقصى” الجدل حول الهويات ووضعها تحت عنوانين: هوية مكافحة منحازة للعدالة والحرية، وأخرى مرتهنة تماماً لإرادة المستعمِر، تنفذ أهدافه بتحطيم كل أسس العدالة والحرية.

Print Friendly, PDF & Email
آدم كنعان

كاتب فلسطيني

Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  فيلم "أوبنهايمر".. نقاش الملف النووي