

وحدات بادر ماينهوف
تشكلت وحدات بادر ماينهوف، التي عُرفت لاحقًا باسم الجيش الأحمر (Rote Armee Fraktion – RAF)، في سياقٍ مشحونٍ بالتوترات السياسية والاجتماعية في ألمانيا الغربية في أواخر ستينيات القرن العشرين. جاءت نشأتها عام 1970 كنتيجة مباشرة لتراكم الإحباطات الناتجة عن فشل الحركات الطلابية السلمية في تحقيق تحولّات جذرية في بنية النظام السياسيّ والاجتماعيّ. أسّسها أندرياس بادر وأولريكه ماينهوف، الصحفية والناشطة السياسية، إلى جانب جوديث بيتلر ومجموعة من الشباب اليساريين المتأثرين بأفكار الثورة المسلحة.
من الناحية الأيديولوجية، انطلقت الحركة من مرجعية ماركسية-لينينية-ماويّة مشبعة بأفكار حركات التحرّر الوطني التي ازدهرت في العالم الثالث. لقد استلهمت من تجارب الثورة الكوبية وحرب فيتنام، بالإضافة إلى تأثير الثورة الثقافية الصينية. اعتبرت هذه المرجعيات الكفاح المسلح الأداة الأكثر فعالية لتفكيك النظام الرأسماليّ والإمبرياليّ، ورفضت المسارات الإصلاحية أو السلمية، مؤمنةً بأن التغيير الحقيقي لا يمكن أن يتمّ إلا عبر المواجهة المباشرة والعنيفة مع مؤسّسات الدولة.
اجتماعيًا، انتمى معظم أعضاء الحركة إلى الطبقة الوسطى المثقفة، وكانوا في الغالب طلاب جامعاتٍ أو خريجين حديثين. هذه الخلفية المتميزة فرّقتها عن الحركات الثورية التقليدية ذات الجذور العمالية.
على مستوى التنظيم، اعتمدت الحركة على بنية لامركزية، مما سمح لها بالعمل في سرّية نسبية. وشملت أنشطتها عمليات تفجير لمبانٍ حكوميةٍ وشركاتٍ كبرى، واغتيالاتٍ استهدفت رموز السلطة، وعمليات خطف بهدف الضغط السياسي أو تحرير المعتقلين. من أبرز عملياتها “هجوم مايو” عام 1972 الذي استهدف مقرات الجيش الأميركي. كما لجأت إلى سرقة البنوك لتمويل عملياتها، مرفقةً أعمالها بحملاتٍ دعائيةٍ مكثفةٍ تبرّر أفعالها. على الرغم من الحضور الرمزيّ القويّ الذي اكتسبته، فإن استراتيجيتها القائمة على العنف السياسيّ أدّت إلى نتائج متناقضة، حيث ساهمت في خلق بيئةٍ أمنيةٍ مشدّدة، وإصدار قوانينٍ قمعية، ما أضعف الحركات اليسارية غير المسلّحة.
الألوية الحمراء
تأسّست الألوية الحمراء (Brigate Rosse) في العام 1970، على يد مجموعة من الشباب الإيطاليين، معظمهم من الطلاب والعمّال، وأبرزهم ماريو موري وألبيرتو فرانسيسكي. لم تكن هذه المنظمة مجرّد ردّ فعلٍ عشوائيّ، بل كانت نتاجًا مباشرًا لموجة الاحتجاجات العالمية لعام 1968 في أوروبا، والتي شهدت تمرّدًا ثقافيًا وسياسيًا على القيم المحافظة والأنظمة القائمة. كما نشأت في سياق فترة تاريخية تعرف بـ”السنوات الصعبة (Anni di Piombo)” وهي مرحلة اتّسمت باضطراباتٍ اجتماعيةٍ وسياسيةٍ وعنفٍ سياسيٍّ متصاعد في إيطاليا. كانت البلاد في تلك الفترة تعاني من أزمةٍ سياسيةٍ حادّةٍ وصراعاتٍ بين القوى اليسارية والقوى المحافظة، إضافة إلى انتشار الفقر والتفاوت الاجتماعيّ، ممّا دفع كثيرين للاعتراض على النظام السياسيّ والديموقراطية البرلمانية التي اعتبرتها الألوية غير فعّالة وعاجزة عن تحقيق العدالة.
اعتمدت الألوية الحمراء على الماركسية اللينينية الثورية والماوية كإطارٍ فكريٍّ أساسيّ. تأثرت بشكل كبير بكتابات ماو تسي تونغ وفكر الثورة المسلحة، الذي كان يروّج لفكرة أن العنف هو الوسيلة الوحيدة لإحداث تغييرٍ جذريٍّ في المجتمعات. كانت الألوية الحمراء تؤمن بأن النظام الرأسماليّ والديموقراطية البرلمانية في إيطاليا ليسا سوى واجهة للنظام البرجوازيّ الفاسد الذي يستغل العمّال والطبقات الفقيرة. من هذا المنطلق، اعتبرت أنّ إسقاط هذا النظام لا يمكن أن يتمّ سلميًا، بل عبر الثورة المسلّحة فقط. تبنت الحركة مفهوم حرب العصابات كاستراتيجية رئيسية، معتبرة أنّ الاشتباك يجب أن يكون في المدن وفي قلب النظام، وليس في الأطراف أو المناطق الريفية.
تميّزت الألوية الحمراء بتركيبتها الاجتماعية التي جمعت بين فئات مختلفة من الشباب. كان أغلب أعضائها من الشباب الجامعي، خصوصًا الطلاب المتطرفين سياسيًا الذين فقدوا الأمل في الإصلاح السلمي. كما انضمّ إليها عدد كبير من العمّال الصناعيين في المدن الكبرى مثل ميلانو وتورينو، الذين كانوا يعانون من ظروف عملٍ صعبةٍ وشعورٍ عميقٍ بالاستغلال. هذا المزيج من المثقفين والطبقة العاملة أعطى الحركة قوة مزدوجة، فجمع بين التنظير الثوري والخبرة في ميدان العمل والنضال الاجتماعي. كما ضمّت الألوية أيضًا عناصر من الطليعة السياسية اليسارية التي كانت قد رفضت الطرق السلمية للإصلاح، ورأت في العنف المسلّح السبيل الوحيد للتغيير.
اعتمدت الألوية الحمراء تنظيمًا سريًا للغاية على شكل خلايا صغيرة ومستقلة، بهدف الحفاظ على السرية وتجنّب القمع الأمنيّ الواسع. سمح هذا التنظيم اللامركزي للحركة بالاستمرار والعمل بفعاليةٍ برغم الحملات الأمنية المكثفة. نفذت الألوية الحمراء عمليات متنوعة، شملت الاغتيالات، وعمليات الخطف، والتفجيرات، وسرقة البنوك لتمويل نشاطاتها. استهدفت في عملياتها مسؤولين سياسيين، ورجال أمن، ورجال أعمال، وقضاة، وغيرهم ممن اعتبرتهم جزءًا من “النظام البرجوازيّ القمعيّ”.
بلغت شهرتها الذروة مع عملية اختطاف وقتل رئيس الوزراء الإيطاليّ الأسبق ألدو مورو عام 1978. كانت هذه العملية واحدة من أشهر وأكثر عمليات الألوية الحمراء تأثيرًا، حيث هزّت إيطاليا بأكملها وأدّت إلى انقسامٍ عميقٍ في الرأي العام الإيطالي حول الحركة وأساليبها. كان الهدف من العملية هو الضغط على الحكومة الإيطالية للإفراج عن عدد من أعضاء الحركة المعتقلين.
كانت أهداف الألوية الحمراء واضحة وجذرية. في المقام الأول، سعت إلى إسقاط النظام الرأسماليّ والديموقراطية البرلمانية في إيطاليا وإقامة دولة اشتراكية حقيقية تقوم على أسسٍ ثورية. كما اعتبرت نفسها جزءًا من حركةٍ عالميةٍ لمكافحة الإمبريالية الأميركية وتأثيرها المتنامي في إيطاليا وأوروبا. كان دعم الحركات الثورية في العالم الثالث، خصوصًا في أمريكا اللاتينية، هدفًا رئيسيًا آخر. آمنت الألوية أنّه من خلال كسر المؤسّسات القائمة والقيام بأعمال عنفٍ سياسيّ، يمكنها إحداث “ثورة شعبية” وتحفيز الجماهير على التمرّد ضد النظام القائم.
أثارت الألوية الحمراء موجةً من الخوف والقلق في إيطاليا وأوروبا، ووصفتها السلطات بـ«الإرهابية» بسبب العنف الواسع الذي استخدمته. رداً على ذلك، شنت الدولة حملاتً أمنيةً واسعةً للقضاء على الحركة، واستخدمت قوانين مكافحة الإرهاب، وفرضت إجراءات قمعية أثرت على الحريات العامة. أسهمت الحركة في تصعيد الأزمة السياسية والاجتماعية في إيطاليا خلال «السنوات الصعبة»، ودفعت البلاد إلى حافة الانهيار في بعض الأحيان. تأثير الألوية لم يقتصر على الحدود الإيطالية، بل تعدى ذلك إلى أوروبا والعالم، وأثر في الخطاب السياسيّ حول الإرهاب والثورة، وأثار نقاشات واسعة حول شرعية العنف السياسيّ كوسيلة للتغيير.
حزب الفهود السود
تأسّس حزب الفهود السود (Black Panther Party) في خريف العام 1966 في أوكلاند، بكاليفورنيا، على يد الناشطين هوي نيوتن وبوبي سيل. جاء تأسيسه كرد فعلٍ مباشرٍ وحاسمٍ على العنف البوليسي المتزايد والتمييز العنصري الممنهج الذي تعرض له الأميركيون من أصل أفريقي. كان الحزب يمثل نقطة تحولٍ في حركة الحقوق المدنية الأميركية، حيث تجاوز النهج السلمي الذي تبناه قادة مثل مارتن لوثر كينغ الابن. في حين أنّ حركة الحقوق المدنية ركّزت على التشريعات والمقاومة اللاعنفية، تبنى الفهود السود نهجاً أكثر تصعيداً وواقعية، معتبرين أنّ الدفاع عن النفس هو حقٌ أساسيٌّ وضرورةٌ لمواجهة عنف الدولة.
تميّزت أيديولوجية حزب الفهود السود بكونها مزيجًا فريدًا يجمع بين الفكر القومي الأسود والأيديولوجية الماركسية-اللينينية. سعى الحزب إلى تحرير السود من الظلم، ولم يرَ في المساواة القانونية حلاً كاملا، بل اعتبر أن التحرّر الحقيقي يتطلب تغييرًا جذريًا في بنية المجتمع. تأثر الحزب بشدّةٍ بفكر مالكولم إكس الذي دعا إلى الدفاع عن النفس واستخدام “كلّ الوسائل الضرورية” للردّ على القمع. اعتبر الفهود السود أنّ الكفاح المسلح وحق الدفاع الذاتي ليس مجرّد خيار، بل هو ضرورة حتمية في مواجهة عنف الدولة. في الوقت نفسه، لم يقتصر فكر الحزب على العنف، بل تضمّن رؤية شاملة للعدالة الاجتماعية والاقتصادية.
استقطب الحزب أساسًا الشباب السود في المدن الحضرية الكبرى، لا سيما من الطبقات العاملة والفقراء الذين عانوا من التهميش الاجتماعيّ والاقتصاديّ والبطالة. كان هؤلاء الشباب يشعرون بالإحباط من فشل الحركات السلمية في تحسين أوضاعهم المعيشية، ووجدوا في خطاب الفهود السود القويّ والمباشر ما يعبر عن غضبهم ومعاناتهم.. كما تلقى الحزب تأييداً محدوداً من أقلياتٍ عرقيةٍ أخرى وحركاتٍ يساريةٍ ناشطة داخل الولايات المتحدة، مما عكس قدرته على تجاوز القضية العرقية إلى قضايا طبقية أوسع.
كانت استراتيجية الحزب متعدّدة الأوجه. في البداية، ركّز على إنشاء وحداتٍ مسلحةٍ للقيام بدوريات مراقبة الشرطة في أحياء السود، بهدف ردع العنف البوليسيّ وتوثيقه. هذه الدوريات كانت نقطة قوة للحزب وسببًا في لفت الانتباه الإعلاميّ إليه. أطلق الحزب برامج اجتماعية واسعة النطاق تهدف إلى بناء مجتمع متماسك ومكتفٍ ذاتيًا.. هذه البرامج أثبتت أنّ الحزب لم يكن مجرّد منظمة عنفية، بل حركةً اجتماعيةً تقدّم حلولًا ملموسةً لمشاكل المجتمع.
وضع حزب الفهود السود “برنامج النقاط العشر” الذي تضمن أهدافًا مثل: تحقيق المساواة العرقية وإنهاء التمييز العنصري وحماية السود من العنف البوليسيّ والظلم الاجتماعيّ وبناء قوة سياسية مستقلة للسود تمكّنهم من التحكّم بمصيرهم. بالإضافة إلى ذلك، طالب الحزب بإرساء عدالةٍ اجتماعيةٍ واقتصادية، من خلال برامج تنموية داخل المجتمع الأسود، ومكافحة البطالة، وتوفير السكن اللائق.
أثّر حزب الفهود السود في الحركات التحررية العالمية من خلال ربط القضية السوداء بالنضال العالميّ ضد الاستعمار والإمبريالية. لكن هذا التأثير القوي لم يأتِ دون ثمن، حيث استهدفته السلطات الأميركية بقوة. خاض الحزب معارك شرسة مع مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI)، الذي شنّ حملة قمع مكثفة ضده، بهدف تفكيكه وإضعافه. وبرغم أن الحزب تراجع بشكل كبير في أواخر السبعينيات، إلا أن إرثه ظل حيًا ومؤثرًا في الخطاب السياسي الذي يتناول قضايا مثل العنصرية والعدالة الاجتماعية.
منظمة الطقس الجويّ في أميركا
تأسّست منظمة “الطقس الجوي” (Weather Underground) عام 1969 كجناح راديكاليٍّ لحركة “طلاب من أجل مجتمع ديموقراطي” (SDS)، وذلك خلال مؤتمر الحركة في شيكاغو، حيث حدث انقسام بين الجناح المعتدل والجناح الثوري. أخذت المجموعة اسمها من جملة في أغنية لبوب ديلان: “You don’t need a weatherman to know which way the wind blows“، لتشير إلى موقفها من الواقع الثوري وعدم انتظار مؤشرات تقليدية للتغيير. نشأت المنظمة في خضمّ أجواء الحرب الباردة، ووسط تصاعد الغضب الشعبيّ ضد حرب فيتنام، واضطهاد السود، وقمع الحركات الاحتجاجية. تأثرت بأفكار ماو تسي تونغ وستالين وكتابات فرانز فانون وتشي غيفارا، ودعت إلى الثورة المسلحة ضد الإمبريالية الأميركية.
آمنت المنظمة بأنّ الولايات المتحدة دولة استعمارية/إمبريالية. رفضت الديموقراطية الليبرالية بوصفها شكلًا مموهًا للهيمنة الطبقية والعنصرية. دعمت حركات التحرّر الوطنيّ في العالم الثالث، واعتبرت الثورة العنفية ضرورة تاريخية، وشدّدت على التضامن مع نضال الأميركيين من أصل أفريقي (مثل الفهود السود)، ومع فيتنام وفلسطين وكوبا.
أغلب أعضاء المنظمة جاؤوا من الطبقة الوسطى، من طلاب جامعات نخبويّة كجامعة كولومبيا، وبركلي، وشيكاغو. كثير منهم من البيض، ومتعلّمين، متأثرين بأفكار الماركسية والراديكالية الطلابية الجديدة، وبعضهم من أسر ليبرالية يسارية.
بعد أحداث 1970، تحوّلت المجموعة إلى منظمة سرّية تعمل في الخفاء، واعتمدت تكتيك “الخلايا المنعزلة”، واتّبعت أسلوب “دعاية الفعل”، أي تنفيذ عمليات رمزية تُظهر مقاومة النظام، ورفضت إلحاق الأذى بالمدنيين، وكانت تُرسِل تحذيرات قبل التفجيرات.
نفّذت منظمة الطقس الجوي عشرات العمليات بين 1970 و1975 مثل تفجير مبنى البنتاغون (1972) احتجاجًا على قصف هانوي، تفجير مبنى وزارة الخارجية (1975) ضد تدخلات أميركا في العالم الثالث، وتفجير مقار الشرطة والبنوك والمحاكم الفيدرالية في نيويورك وواشنطن. وكان لها علاقات تنسيقية غير مباشرة مع مجموعات أخرى مثل الفهود السود، وجبهة تحرير النّساء، ومع حركاتٍ عالميةٍ مثل الجيش الأحمر الياباني.
مع نهاية السبعينيات، تراجعت المنظمة تدريجيًا، وخرج كثيرٌ من أعضائها إلى العلن بعد إلغاء التهم أو عبر تسويات قضائية، بينما بقي البعض مختفيًا لعقود. تركت المنظمة إرثًا رمزيًا مثيرًا للجدل حول حدود العنف الثوري، وأثر اليسار الراديكالي في أميركا.
(*) راجع الجزء الأول بعنوان: اليسار الراديكالي في ستينيات وسبعينيات القرن الـ20.. سياق وأسبابه؟
(**) الجزء الثالث والأخير غداً: ماذا تعرف عن الجيش الأحمر الياباني والجيش الجمهوري الإيرلندي والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين؟