آثار سياسات الحمائيّة على دول الجنوب العالميّ

تؤثّر السّياسات الحمائيّة التي تفرضها الدّول الكبرى بشكلٍ كبيرٍ على قدرة دول الجنوب على المنافسة، حيث تخلق حواجز تجاريّة تعرقل صادراتها وتقلّل من فرصها في الأسواق العالميّة. هذه السّياسات، التي غالبًا ما تُبَرّرُ بحماية الصّناعات المحلّيّة أو بدواعي التخوّف من فقدان السّبق التكنولوجيّ، تضع دول الجنوب في مواجهة تحدّياتٍ كبرى في تجارتها الدّوليّة وتحدّ من قدرتها على جذب الاستثمارات الأجنبيّة. في ظل التحوّلات الجيوسياسيّة الحاليّة وتصاعد نزعة الدّولة القوميّة في الغرب، أصبحت هذه الإجراءات أكثر تشدّدًا وتعقيدًا، مما يهدّد بإعادة تشكيل خريطة التّجارة العالميّة لصالح الدّول المتقدّمة على حساب اقتصادات الجنوب النّاشئة.

حواجز التجارة وتأثيرها على الصّادرات

تفرض السّياسات الحمائيّة قيودًا متعدّدةً على التّجارة، مما يقلّل من قدرة دول الجنوب على تصدير منتجاتها والمنافسة بفعاليّة. هذه الإجراءات لا تقتصر على الرّسوم الجمركيّة التّقليديّة، بل تشمل معايير فنيّة وقواعد منشأ صارمة وحواجز غير جمركية أخرى يصعب على الدّول النّامية الوفاء بها.

القيود على الواردات

تُعَدّ القيود على الواردات، مثل الرسوم الجمركيّة الباهظة، من أبرز أدوات الحمائيّة التي تؤثّر سلبًا على دول الجنوب. هذه الرسوم تزيد من تكلفة دخول منتجات دول الجنوب إلى أسواق الدول الكبرى، مما يجعلها أقلّ تنافسيّةً مقارنةً بالمنتجات المحلّيّة أو منتجات الدول الأخرى التي لا تخضع لنفس القيود. على سبيل المثال، فُرِضَتْ رسومٌ جمركيةٌ عاليةٌ على دول آسيويٍّة نامية، مثل كمبوديا (49%) وبنغلاديش (37%) ولاوس (48%)، من قبل الولايات المتحدة. هذا يحدّ من قدرة هذه الدّول على الاستفادة من مزايا التّجارة الحرّة ويعرقل نموّها الاقتصاديّ. وفقًا لدراسة الناصري، حول الحمائيّة الجديدة وانعكاساتها على المصالح التّجاريّة للدّول الناميّة، فإنّ هذه الإجراءات تؤدّي إلى “تقليص فرص النّفاذ إلى الأسواق العالميّة للدّول النامية، خاصةً تلك التي تعتمد على تصدير سلعٍ محدودة”.

تراجع القدرة التّنافسيّة

تختلف آثار السّياسات الحمائيّة على الدّول النامية بناءً على وفرة مواردها ودرجة تنوّع اقتصاداتها. فالدّول التي تعتمد بشكلٍ كبيرٍ على عددٍ قليلٍ من الصّادرات تجد نفسها أكثر عرضةً لتأثيرات هذه السّياسات. يمكن أن تؤدّي هذه القيود إلى تقليص حصّة الدّول النامية من صادرات المواد الخام والأوّليّة، مما يضعف من قدرتها على التوسّع في التّجارة الدّولية. تشير دراسة الموسويّ وفاضل حول سلاسل القيمة العالميّة إلى أنّ “السّياسات الحمائيّة تعطّل اندماج الدّول النّامية في سلاسل القيمة العالميّة، مما يحرمها من فرص التّحديث التكنولوجيّ ونقل المعرفة“.

تأثيرات متباينة على القطاعات

تُظْهِرُ دراسات حالة أنّ تأثير الأساليب الحمائيّة المقنّعة يمكن أن يكون متباينًا. فعلى سبيل المثال، خلصت دراسة الموسويّ وفاضل حول تونس والمغرب وإسبانيا وفرنسا إلى وجود تأثيرٍ سلبيٍّ متباينٍ للأساليب الحمائيّة المقنّعة على صادرات منتجاتٍ معيّنة في عامي 2009-2010. بينما أشارت دراسة أخرى للموسويّ وفاضل حول قطاع المنتجات البحريّة المغربيّة خلال الفترة من 2009 إلى 2012 إلى أن الأساليب الحمائيّة المقنّعة لم تؤثّر بشكلٍ كبيرٍ على صادرات هذا القطاع، حيث لم تتجاوز التّعريفة المعادلة لها 5.08%. ويعزى ذلك إلى الجهود المبذولة في تطوير هذا القطاع لمواجهة التّحديات الحديثة، مما يشير إلى أهمّيّة التّكيّف والابتكار في التّصدي للحمائيّة.

تداعيات على التّنمية والاستثمار

لا تقتصر آثار السّياسات الحمائيّة على التّجارة المباشرة فحسب، بل تمتدّ لتشمل جوانب أوسع من التّنمية الاقتصاديّة والاستثمار، مما يهدّد بعرقلة مسيرة التّنمية في دول الجنوب ويزيد من الفجوة الاقتصاديّة العالمية.

كما تقوّض السّياسات الحمائيّة الجهود المبذولة لتعزيز التّكامل الاقتصاديّ العالميّ، وتخلق حواجز أمام تدفّقات التّجارة، ممّا يقلّل من الفوائد المحتملة للتّعاون الاقتصاديّ. وهذا يؤثّر سلبًا على قدرة دول الجنوب على الاندماج في سلاسل القيمة العالميّة والاستفادة من الفرص التي توفّرها التّجارة الدولية. وفقًا لتقريرٍ حول الإجراءات الحمائيّة والصّراعات الجيوسياسيّة، فإن “الانعزاليّة التّجارية تهدد بمزيدٍ من تهميش الدّول النّامية في الاقتصاد العالميّ، ممّا يحرمها من عوائد العولمة الإيجابيّة”.

تحدّيات جذب الاستثمار الأجنبيّ

تضع الممارسات التجاريّة الجديدة والسّياسات الصّناعيّة المتجدّدة في الدّول المتقدّمة، مثل قانون البنية الأساسيّة الأميركي لعام 2021 وقانون الرقائق الإلكترونية والعلوم لعام 2022، وقانون الحدّ من التضخّم لعام 2022، تحدّياتٍ كبيرةً أمام قدرة دول الجنوب على جذب الاستثمارات الأجنبيّة. تهدف هذه القوانين إلى تحويل مكوّناتٍ صناعيّةٍ وسلاسل إمدادٍ معيّنة إلى الولايات المتحدة أو شركائها الموثوق بهم، بالإضافة إلى فرض قيودٍ صريحةٍ على التّجارة والاستثمار والتكنولوجيا مع دول مثل الصين. هذا يعني أنّ دول الجنوب قد تجد صعوبةً أكبر في استقطاب الاستثمارات التي تحتاجها لتطوير صناعاتها وتحقيق النّمو. وهذه السّياسات تخلق بيئةً تنافسيّةً غير متكافئة، حيث تنجح الدّول الكبرى في جذب الاستثمارات على حساب الدّول النامية”.

 

زيادة التّكاليف والتّعقيد

تتضمّن الإجراءات الحمائيّة الجديدة في الاتحاد الأوروبيّ، على سبيل المثال، آليّة تعديل حدود الكربون (CBAM)، التي تفرض تسعيرًا إضافيًّا على الواردات من الخارج. هذا الإجراء، الذي دخل حيّز التّنفيذ في أكتوبر 2023، سيؤثّر على صادرات الدّول النّامية، خاصةً في قطاعات الصّلب والأسمدة ومشتقّات الطّاقة والألمنيوم والأسمنت. مثل هذه الإجراءات تزيد من تكاليف الإنتاج والتّصدير لدول الجنوب، مما يقلّل من قدرتها على المنافسة في الأسواق العالميّة. وفقًا مركز الأهرام للدّراسات ، فإنّ “هذه الإجراءات البيئيّة غالبًا ما تفتقر إلى آليات دعمٍ حقيقيّةٍ للدّول النّامية للتحوّل نحو الاقتصاد الأخضر، ممّا يجعلها عبئًا إضافيًا على اقتصاداتها”.

إقرأ على موقع 180  "الفورين أفيرز": العالم على أبواب مجاعة

 في الختام، إنّ السّياسات الحمائيّة التي تفرضها الدّول الكبرى تضع عبئاً كبيراً على اقتصادات دول الجنوب، ممّا يعيق قدرتها على المنافسة عالميًّا ويؤثر سلبًا على جهودها التنمويّة. لمواجهة هذه التحدّيات، يتعيّن على دول الجنوب تبنّي استراتيجيّاتٍ متكاملةٍ تشمل إثبات الضّرر النّاجم عن الإجراءات الحمائيّة في المنظمات الدّوليّة والمطالبة بالتّعويض، مع بناء قدراتٍ دبلوماسيّةٍ وتقنيةٍ قادرةٍ على توثيق الآثار السّلبية. كما يجب التوسّع في التّرتيبات الإقليميّة بين البلدان النّامية والأسواق النّاشئة لدفع التّجارة والاستثمار فيما بينها، كما في حالة منطقة التّجارة الحرّة القارّيّة الأفريقيّة (ACFTA) التي تسعى لخلق سوقٍ موحّدةٍ تعزّز التّكامل الاقتصاديّ. بالإضافة إلى ذلك، يجب التحوّط ضد الإجراءات الحمائيّة الجديدة من خلال تطوير آلياتٍ مرنةٍ للتكيّف مع المتغيّرات الدّوليّة وحماية المصالح الوطنية، مع تقييد الاعتماد على الاستدانة الدّوليّة والدّفع نحو تعبئة الموارد المحلّيّة، والتّركيز على جذب الاستثمارات المباشرة.

تتطلّب مواجهة هذه التّحديات ليس فقط استجاباتٍ استراتيجيّةً من دول الجنوب، ولكن أيضاً تعاوناً دولياًّ لضمان نظامٍ تجاريٍّ أكثر عدالةً وإنصافاً. يجب أن تعمل دول الجنوب على تعزيز التّكامل الإقليميّ، وبناء قدراتٍ إنتاجيّةٍ أكثر تنوّعاً وتطوّراً، والمشاركة الفاعلة في صياغة قواعد التّجارة الدّوليّة لضمان مراعاة مصالحها التّنموية. فقط من خلال تضامنٍ جنوبيٍّ قويٍّ وإصلاح النّظام الدّوليّ يمكن تحقيق نظامٍ تجاريٍّ عالميٍّ يعود بالنفع على جميع الأطراف، ويحقّق التنمية المستدامة للجميع.

(*) راجع المقالة الأخيرة للكاتب نفسه: دول الجنوب في مواجهة تحدي تصاعد الدولة القوميّة في الغرب

Print Friendly, PDF & Email
سعيد عيسى

دكتوراه في الأنتروبولوجيا الاقتصادية؛ كاتب وباحث في شؤون العمال والحماية الاجتماعية؛ خبير في الحوار الاجتماعي والحوكمة والتدريب.

Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  الفضل على حق.. مَن يُقلّد مَن، الإسلام السياسي أم أنظمة الإستبداد؟