“اليوم التالي” إسرائيلياً .. ماذا حلّ بالدولة والمجتمع؟

كان الانتقام سمة الحرب الإسرائيلية على غزة بعد تهشيم صورة الكيان في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، فأطلقت إسرائيل مدعومةً من الغرب الإمبريالي حربها الأطول منذ تأسيسها، وهي دامت 471 يوماً، إذا احتسبنا نقطة النهاية يوم الأحد في 19 كانون الثاني/يناير الماضي.

على وقع حرب الإبادة الجماعية على غزة، حصلت متغيرات كثيرة في شؤون الدولة والمجتمع الصهيونيين، سيكون لها حتماً تمظهرات عدّة، في الأشهر والسنين القادمة، بمسار انحدار هذا الكيان.

أولاً؛ خسائر إسرائيل الاقتصادية:

وفق أحدث البيانات الصادرة عن وزارة المال الإسرائيلية، فإنّ الكيان قد تكبّد خسائر تقدّر بنحو 34 مليار دولار، منذ بدء الحرب في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. البيانات الحكومية تشير إلى تراجع السياحة بنسبة تفوق 80 % مقارنةً بعام 2019، وهو العام الذي يصنّف بذروة الحركة السياحية قبل جائحة كورونا. إضافةً إلى ذلك، كان العجز المالي قد بلغ 4.5 % مع بداية عام 2024، ليقفل العام أبوابه بعجز وصل إلى 7.7 %. أما على صعيد الشركات والقطاعات الاقتصادية، فقد كشفت صحيفة “معاريف” في تموز/يوليو الماضي، أنّ 46 ألف شركة إسرائيلية أغلقت أبوابها منذ اندلاع الحرب في 7 تشرين الأول/أكتوبر، مع توقعات بارتفاع العدد إلى 60 ألف شركة بحلول نهاية العام 2024. ووفقاً لشركة (Bdi Coface) التي توفر معلومات تجارية لإدارة مخاطر الائتمان، فإنّ حوالي 77 بالمئة من الشركات التي تم إغلاقها منذ بداية الحرب (حوالي 35 ألف شركة بمعظمها صغيرة)، هي الأكثر ضعفاً في الاقتصاد الإسرائيلي.

أما بالنسبة لقطاع التقانة العالية (High-tech) والذي تتميز فيه إسرائيل، فإنّ خسائر عديدة أصابته ما أفقد الكثير من الموظفين موارد دخلهم. وفي هذا الإطار، واستناداً إلى تقرير صادر عن مؤسسة “ستارت أب نيشن سنترال”، فإن ما يقرب من نصف (49%) شركات التكنولوجيا الفائقة الإسرائيلية تقول إنها شهدت إلغاء الاستثمارات منذ بدء الحرب. وعلاوةً على ذلك، أعربت 31% فقط من الشركات عن ثقتها في قدرتها على جمع الأموال في العام المقبل، ويتوقع ما يقرب من 48% من هؤلاء انخفاضًا مستمرًا في الاستثمارات في العام 2025.

ثانياً؛ إسرائيل في قفص الاتهام الدولي:

أصدرت المحكمة الجنائية الدولية في تشرين الثاني/نوفمبر 2024، مذكرة اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع السابق، يوآف غالانت، بتهمة ارتكاب جرائم حرب في قطاع غزة. وبحسب بيان المحكمة الجنائية الدولية فإنّ “هناك أسبابًا منطقية للاعتقاد بأن نتنياهو وغالانت ارتكبا جرائم وأشرفا على هجمات على السكان المدنيين..”.

وقد أثار القرار عاصفة من ردود الفعل الإسرائيلية المستنكرة والتي تضمن بعضها كلاماً مشيناً بحق المحكمة ورئيسها وعملها. ومهما حاول الكيان تعمية الحقائق والقفز عنها، فإنّ ما مجموعه 124 دولة، وهي الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية، مضطرة قانوناً لاعتقال وتسليم أي فرد صدرت بحقه مذكرة اعتقال من المحكمة إذا وطأت قدماه أرض اي من هذه الدول، وفقاً للنظام الأساسي للمحكمة. وفي حال في حالة عدم تنفيذ أي دولة لأمر الاعتقال فإن العقوبة التي تواجهها لا تتعدى لفت النظر الدبلوماسي، مثل إحالة دولة ما إلى جمعية الدول الأطراف في المحكمة الجنائية الدولية وفي نهاية المطاف إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. هذا مع العلم أنّ قائمة أعضاء المحكمة الجنائية الدولية تشمل جميع دول الاتحاد الأوروبي إلى جانب المملكة المتحدة، وكندا، واليابان، والبرازيل، وأستراليا.

إنّ هذه المذكرة الصادرة بحق نتنياهو وغالانت تضاف إلى سلسلة من القرارات الأخرى التي أدانت الكيان، كالقرار الصادر عن محكمة العدل الدولية عام 2004، والذي اعتبر في حينه، أنّ جدار الفصل العنصري مخالف للقانون الدولي مطالباً إسرائيل بإزالته من كل الأراضي الفلسطينية بما في ذلك القدس الشرقية وضواحيها، مع تعويض المتضررين من بنائه. وطالبت محكمة العدل الدولية في تموز/يوليو الماضي، إسرائيل بوضع حدّ لاحتلالها الأراضي الفلسطينية المحتلة بعد 1967، داعيةً إلى إنهاء أي تدابير تُسبّب تغييراً ديموغرافياً أو جغرافياً، في خطوة قضائية غير مسبوقة. وقالت المحكمة الدولية، إنّ رأيها يعتمد على فرضية أن الأراضي الفلسطينية هي أراض تحت الاحتلال بمقتضى الخطوات الإسرائيلية منذ 1967.

أظهر حجم التحركات الشعبية المستنكرة لحرب غزة والمؤيدة لحق الفلسطينيين، تعاطفاً دولياً متزايداً في الأوساط الشعبية العالمية. كما وثقّت صور الإبادة الجماعية فظائع هذا الكيان وعرتّه، أمام العالم أجمع. وكان لانضمام جيل Z إلى هذه التحركات وقع كبير في سياق اعلام الشريحة الشبابية الناشئة في العالم، عن حقائق تاريخية، كانت لا تذكره له وسائل الاعلام التقليدية

ثالثاً؛ المقاطعة الشعبية تتزايد:

مع بدء الحرب على غزة، تزايدت الدعوات لمقاطعة الدول أو الهيئات الداعمة للكيان، ما أدّى إلى فسخ عقود تجارية واستثمارية عديدة. الأمثلة في هذا السياق كثيرة ولكننا سنورد بعضاً منها:

  • على إثر انطلاق حركة الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الأميركية (نيسان/أبريل 2024)، وافقت عدّة جامعات في أميركا والنرويج وإسبانيا وإيطاليا وهولندا وجنوب أفريقيا وكندا وأستراليا على إما على تعليق العلاقات مع المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية المتواطئة مع الكيان، أو مراجعة العلاقات الثنائية بينهما. في إسبانيا وحدها، التزم مؤتمر رؤساء الجامعات، الذي يضم 76 جامعة، بتعليق التعاون مع الجامعات الإسرائيلية التي لا تمتثل للقانون الإنساني الدولي.
  • أكدّت حملة مقاطعة “بوما” العالمية أن شركة “بوما” الرياضية، ستنهي عقد رعايتها مع الاتحاد الإسرائيلي لكرة القدم في 31 كانون الأول/ديسمبر 2024، كجزء من حملة مطالبات شعبية، تتعرّض لها الشركة منذ عام 2018 إلا أنها تزايدت بعد الحرب الإسرائيلية على غزة.
  • أعلنت شركتا “ستاربكس” و”ماكدونالدز” الأميركيتين أنهما حقّقتا تراجعاً في مبيعاتهما نتيجة حملات المقاطعة الشعبية العالمية. وفي تقرير لشركة “ماكدونالدز” صدر في مطلع الصيف الماضي، أعلنت شركة الوجبات السريعة العملاقة أن ّمبيعاتها العالمية انخفضت لأول مرة منذ عمليات الإغلاق بسبب جائحة كورونا، في عام 2020. وكشف التقرير أنّ صافي دخل “ماكدونالدز” انخفض بنسبة 12 في المائة في الربع الثاني من العام 2024. وفي منشور على منصة ” لينكد-إن”، حذّر الرئيس التنفيذي للشركة، كريس كيمبزينسكي، من “التأثير التجاري الهادف” للحرب على الشرق الأوسط وبعض الأسواق الأخرى.
  • أوقفت شركة “كارفور” لسلاسل التجزئة، عملياتها في سلطنة عُمان في 7 حزيران/يناير 2025، لتكون ثاني دولة عربية خلال شهرين تعلق فيها أنشطتها، بعد ما أغلقت الشركة أبوابها، في الأردن في وقتٍ سابق.
إقرأ على موقع 180  في المصطلح الاجرامي.. والنُخب العربية المُستلبة!

إنّ هذه الأمثلة تؤكد أنّ حجم المقاطعة الشعبية للكيان تتسع في جميع أنحاء العالم، وهي إذا ما استمرت في مرحلة ما بعد الحرب، وتحولت إلى ثقافة سياسية منتظمة، فإنّ تعرية الكيان ومعاقبته، لن تطال رموز الدولة فقط، بل ستمتدّ لملاحقة كل ما يمت بصلة إليه، في الأوساط الثقافية والفنية والاقتصادية والرياضية والأكاديمية.

رابعاً؛ صورة الكيان في الخارج:

أظهر حجم التحركات الشعبية المستنكرة لحرب غزة والمؤيدة لحق الفلسطينيين، تعاطفاً دولياً متزايداً في الأوساط الشعبية العالمية. كما وثقّت صور الإبادة الجماعية فظائع هذا الكيان وعرتّه، أمام العالم أجمع. وكان لانضمام جيل Z إلى هذه التحركات وقع كبير في سياق اعلام الشريحة الشبابية الناشئة في العالم، عن حقائق تاريخية، كانت لا تذكره له وسائل الاعلام التقليدية المرتبطة بالغرب ومنظومة اعلامه المتحيزة. لقد فضحت هذه الحرب إسرائيل أمام الخارج المزهو بها على أنها واحة الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط.

خامساً؛ اللا-أمان المجتمعي:

صحيحٌ أنّ إسرائيل ألحقت دماراً هائلاً في قطاع غزة قد يمتدّ إصلاحه لعشرين سنة وربما أكثر، وصحيحٌ أيضاً أنها قتلت نحو خمسين ألفاً وجرحت عشرات الآلاف من الأشخاص، إلا أنها ستبقى تعيش كابوس السابع من أكتوبر. إنّ غياب الشعور بالأمان دفع بالعديد من الإسرائيليين إما للهجرة أو البدء بالتفكير بهذا الخيار. وفي هذا السياق، أفاد مكتب الإحصاء الإسرائيلي، بأن 82700 غادروا البلاد خلال العام 2024 بسبب الحرب وهذا رقم قياسي. وأشارت البيانات أيضاً إلى ميزان الهجرة الدولية، وهو الفرق بين عدد الأشخاص القادمين للعيش في إسرائيل وعدد الأشخاص الذين يغادرونها، مبينةً أنه في نهاية عام 2024، أصبح الرصيد سلبياً ويعكس انخفاضا قدره 18200 شخص، والسبب الرئيسي لذلك هو هجرة الإسرائيليين. وبرغم حملات القصف المركزّة على المدنيين الفلسطينيين والبطش بهم، الا أنّ إسرائيل لم تُحقّق أهدافها التي أعلنت عنها في بداية الحرب، والتي تتمثل إحداها بالقضاء على حركة حماس، بشكل نهائي. يكفي أن نذكر في هذا الإطار، أنّ مهندس “خطة الجنرالات”، الجنرال المتقاعد غيورا آيلاند، قد كتب مقالاً صحفياً منذ عدّة أيام، يُقرّ فيه بفشل إسرائيل في هذه الحرب، معلناً أنّ الانتصار هو لمصلحة “حماس”.

إنّ العوامل التي صدعّت بنية الدولة والمجتمع الإسرائيليين، وكشفت زيف إسرائيل للخارج، سيكون لها تأثير بالغ في المستقبل القريب على طريق انحدار الكيان والذي على ما يبدو أنّ الوقائع التي أفرزتها حرب الإبادة الجماعية، ستُسرّع من وتيرة هذا الانحدار.

ومن المهمّ الإشارة إلى أنّ عوامل عديدة سابقة لحدث 7 أكتوبر وإفرازاته، كانت موجودة وتتفاعل في مستويات مختلفة، في العقود الثلاثة الماضية ويمكن تلخيصها بالآتي:

1- اتجاهات الهجرة المعاكسة،

2- اللا-توازن الديمغرافي بين الإسرائيليين من جهة والفلسطينيين والعرب من جهة أخرى،

3- التناقضات الطبقية في المجتمع الإسرائيلي،

4- العنصرية المتفشية في المجتمع الإسرائيلي،

5- تعاظم التهديدات الأمنية سواء أتت من دول أو جماعات،

6- سمعة إسرائيل التي أصبحت في الحضيض.

باختصار، لن يكون أي إسرائيلي في المرحلة المقبلة بمأمن سواء أكان مقيماً في غلاف غزة أو الضفة الغربية أو القدس أو منطقة الشمال، ما لم ينعم الفلسطينيون بحريتهم ودولتهم. كما تُعلّمنا التجارب أنّ المقاومة ولاّدة، ومسيرتها لا تنطفئ، طالما هناك احتلالٌ وظلم.

Print Friendly, PDF & Email
عطالله السليم

كاتب وباحث سياسي

Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  فتح وحماس أسيرتا لغة الماضي.. أية مهمات تنتظر الفلسطينيين؟