

ساهمت الجغرافيا اللبنانية في تكوين الهواجس الطائفية؛ ذلك أن موقع لبنان بين سوريا وفلسطين، وانفتاحه على المتوسط، جعله عرضةً لتجاذبات إقليمية ودولية. المسيحيون ارتبطوا بالغرب حفاظاً على خصوصيتهم، فيما توجّه المسلمون نحو محيطهم العربي والإسلامي ثم المذهبي، ما عمّق التباين في الهوية السياسية. كما تحوّلت مناطق، كجبل لبنان والبقاع والجنوب والشمال، إلى فضاءات أعادت إنتاج الخصوصيات، حيث ساهمت الطبيعة الوعرة والتوزيع السكاني في تكريس حدود نفسية واجتماعية بين الطوائف.
أضاف التاريخ اللبناني طبقات متراكمة من المخاوف والانقسامات؛ فالإرث العثماني، والانتداب الفرنسي، ثم مرحلة الاستقلال والحرب الأهلية، شكّلت كلها ذاكرة جمعية مثقلة بالصراعات. هذه الذاكرة لم تكن محايدة، بل تشكّلت وفق سرديات متباينة لكل طائفة، ما جعل صياغة تاريخ وطني موحّد مهمة شبه مستحيلة. ومن هنا برز “صمت الطوائف” كآلية دفاعية، حيث تُفضّل الجماعات إبقاء جروح الماضي في حيّز المسكوت عنه. يغدو مفهوم الهواجس الطائفية مفتاحاً لفهم الديناميات اللبنانية، فهي ليست مجرد أوهام بل بنيات راسخة. وإذا كان التاريخ قد رسّخ الطائفية كمؤسسات وقوانين، فإن الجغرافيا وفّرت الأساس البنيوي لاستمرارها، إذ عزّزت عزلة الجماعات وانغلاقها الذاتي، فباتت ترى نفسها ككيانات شبه مستقلة. هكذا يتضح أن فهم الطائفية اللبنانية يقتضي قراءة دقيقة للعلاقة المعقّدة بين التضاريس والمجتمع.
التضاريس عزَّزت التمايز
يورد يوسف أبو شقرا في الجغرافيا السياسية للكيان اللبناني (2005) أنّ الجبال لم تكن مجرّد تضاريس بل “حصون بشرية” صنعت تاريخ الطوائف. فقد وفّر جبل لبنان عزلةً منحت الجماعات شعوراً بالأمان وقدرةً على حماية الذات، فغدا المكان عنصراً في صياغة الهوية. الموارنة اتخذوا من المرتفعات ملاذاً من السلطة العثمانية ما رسّخ لديهم هوية ذات بعد انفصالي. والدروز استقروا في مناطق وعرة، كالشوف وحاصبيا، ما أتاح لهم استقلالية نسبية وحماية لخصوصيتهم العقائدية. أما الشيعة، فرغم أنّ الجنوب والبقاع ليسا جبالاً فعلاً، فإن مرتفعات جبل عامل وسلاسل البقاع وفّرت عزلةً نسبية أسهمت في تكوين هويتهم، المرتبطة أيضاً بالحرمان الاقتصادي والتهميش السياسي. هكذا تحوّلت تضاريس لبنان إلى حدود طبيعية عزّزت التمايز بين الجماعات.
ارتبط السُنّة بالمدن الساحلية، حيث برزوا في التجارة والمرافئ والإدارة، ما رسّخ هويتهم كطائفة “مدينية” منفتحة على الفضاء العربي والإسلامي. وقد تجسّد ذلك في بيروت، التي لم تكن عاصمة فحسب، بل ساحة صراع على صورة “المدينة الدولة”. وكما وصفها كمال الصليبي في “بيت بمنازل كثيرة” (1988)، فقد مثلت “مرايا الطوائف”، حيث سعى كل طرف لفرض صورته الخاصة. وإذا كرّست الجبال العزلة، فإن السواحل غذّت التنافس المفتوح بين الطوائف.
إن فهم الطائفية اللبنانية يقتضي قراءة دقيقة للعلاقة المعقّدة بين التضاريس والمجتمع.. فالتاريخ رسّخ الطائفية كمؤسسات وقوانين، والجغرافيا وفّرت الأساس البنيوي لاستمرارها، إذ عزّزت عزلة الجماعات وانغلاقها الذاتي، فباتت ترى نفسها ككيانات شبه مستقلة
أما سهل البقاع، المُمتد بين سلسلتي الجبال، فشكّل مساحة تماسٍ دائمٍ بين الطوائف. فهو ليس عزلة كالجبال ولا انفتاحاً كالسواحل، بل ساحة احتكاك وتوتر متكرر كلما ضعفت الدولة المركزية. هكذا جسّد البقاع نموذج “الهواجس المفتوحة”، حيث لم تتمكن أي طائفة من فرض سيطرة مطلقة عليه.
بالمقابل، أسّست “العزلة الجغرافية لعزلة ثقافية، والعزلة الثقافية أنتجت سرديات طائفية مستقلة”. فقد طوّرت الطوائف اللبنانية سردياتها التاريخية الخاصة، غالباً لتبرير الهواجس، ما جعل الطائفية قائمة على الخوف من الآخر أكثر من كونها تنوعاً ثقافياً. لم تكن الجغرافيا مجرد إطار محايد، بل حارساً للهواجس الطائفية. وإذا وفّرت الجغرافيا البُنية المكانية للطائفية، فقد أسهم التاريخ في ترسيخ الهواجس داخل الذاكرة الجمعية. فالطوائف اللبنانية لم تكن مجرد جماعات دينية، بل تحوّلت إلى وحدات سياسية اجتماعية، ارتبطت هواجسها بتجارب الاضطهاد والتحالفات الخارجية والحروب الداخلية، لتصبح الذكرى مخزوناً للقلق الجماعي ومبرراً للتمايز.
نظام “الملل” وشرعنة الانقسام
مع الحكم العثماني، في القرن السادس عشر، تأسس نظام “الملل” الذي منح الطوائف استقلالية قانونية وإدارية، لكنه في الوقت نفسه شرّعَنَ الانقسام الطائفي، وجعل من كل طائفة “دولة داخل الدولة”. مثلت أحداث 1860 نقطة مفصلية، إذ اندلع صراعٌ دمويٌ بين الموارنة والدروز في جبل لبنان، انتهى بمجزرة دمشق، فأرسى لدى الموارنة هاجس “التهديد الوجودي” ولدى الدروز هاجس “الخوف من الإقصاء”.
مع سقوط الدولة العثمانية ودخول الانتداب الفرنسي (1920) وقيام “دولة لبنان الكبير”، بدأت مرحلة جديدة من صناعة الهواجس. فقد جمع الانتداب مناطق متعددة تحت سلطة الموارنة، ما غذّى هواجس المسلمين، وكرّس دستور 1926 المحاصصة الطائفية، مؤكّداً أن لبنان ليس دولة أمة، بل اتحاد هواجس طائفية. وعند الاستقلال، عام 1943، نصّ “الميثاق الوطني” على تقاسم السلطة ما وفّر استقراراً نسبياً، لكنه أعاد إنتاج الطائفية.
ويصف المؤرخ اللبناني فوّاز طرابلسي هذه المرحلة بأنها “مرحلة التوازن الهش”، حيث لم تُحلّ الهواجس، بل جرى تجميدها مؤقتاً. وشكّل اندلاع الحرب الأهلية انفجاراً للهواجس المتراكمة، فقد تحولت المخاوف إلى نزاعات مسلحة، وأعيد رسم الجغرافيا اللبنانية على أسُس طائفية. الحرب الأهلية رسخت الهواجس بدل تذويبها. وكما يشير المفكر اللبناني ميشال شيحا (لبنان: فكرة وكيان)، فإن “الحرب كانت حواراً مسلحاً بين الطوائف، انتهى بتقاسم جديد للقلق”.
وضع اتفاق الطائف، عام 1989، حداً رسمياً للحرب، لكنه لم يلغِ الطائفية، بل أعاد توزيعها بشكلٍ أعقد، ما جعل الهواجس أكثر رسوخاً.
الميثاقية.. وسياسة الصمت المتبادل
التاريخ في لبنان لا يُقرأ كوقائع محايدة، بل كذاكرة جمعية تُستعاد لتبرير الهواجس. هذه الذاكرة الانتقائية تجعل من التاريخ خزاناً للهواجس، يُستخدم سياسياً في كل أزمة.
بُنيَ النظام السياسي اللبناني على تسويات غير مكتوبة، عُرفت بـ”الميثاقية”. هذه التسويات قامت على قاعدة “لا غالب ولا مغلوب”، ما جعل كل طائفة تتنازل جزئياً لكنها في المقابل تحصل على ضمانات.
إحدى هذه الضمانات هي الصمت المُتبادل، لكن هذا الصمت لم يكن دليل وفاق، بل كان إرجاءً للمشكلات. وهذا ما ذكره ميشال شيحا، في كتابه “لبنان: فكرة وكيان”: “إن لبنان بُني على ‘اتفاق الصمت‘، حيث يتجنب الجميع الأسئلة الجوهرية حول هوية الدولة ومصيرها”.
أخطر أشكال الصمت السياسي ظهر بعد الحرب الأهلية، مع اتفاق الطائف. فقد نصَّ الاتفاق على طيّ صفحة الماضي لكن من دون أي آليات للعدالة الانتقالية. وهكذا جرى تعليب الذاكرة، لا محاكمات، لا اعترافات، لا سردية وطنية جامعة، بل صمت شامل. هذا الصمت جعل الطوائف تحتفظ برواياتها الخاصة عن الحرب وتورثها لأجيالها.
في المجتمع اللبناني هناك مساحات واسعة من الكلام الممنوع. فالتربية العائلية، والمدرسية، والثقافية، كلها تعزّز فكرة أن بعض القضايا لا ينبغي نقاشها بشكل علني.
الميثاقية أرست قاعدة “لا غالب ولا مغلوب” وسياسة “الصمت المُتبادَل”.. واتفاق الطائف وضع حداً رسمياً للحرب، لكنه لم يلغِ الطائفية، بل أعاد توزيعها بشكلٍ أعقد، ما جعل الهواجس أكثر رسوخاً
هذا الصمت المتبادل يُبقي الهواجس حيّة من دون مواجهة، فيتحول الخوف إلى بُنية دائمة. والصمت هنا ليس عجزاً عن الكلام بل وظيفة سياسية.
يقوم النظام الطائفي على إدارة الهواجس عبر منح كل طائفة ما يكفي من الامتيازات لتشعر بالأمان، شرط ألّا تطالب بتغيير جذري. وكما يشير نزار حبيش، في “الطائفية والسياسة في لبنان”، فإن الطائفية لا تقوم فقط على الانقسام، بل وأيضاً على القدرة على إخفاء الانقسام بلغة وحدة شكلية.
مرآة لصراعات المنطقة
المفارقة أن هذا الصمت يُنتج هواجس جديد؛ فالموارنة يخشون تلاشي خصوصيتهم الكيانية، الُسنة يتوجسون من تهميشٍ متصاعدٍ بعد صعود الشيعة، والشيعة يقلقون من إقصاءٍ محتمل بعد انتهاء دور المقاومة، فيما يرى الدروز أن الصمت يغطي على تراجع وزنهم الديموغرافي والسياسي. وهكذا يصبح الصمت حلقة مفرغة، يُعزز القلق بفعل غياب المواجهة.
وتكشف الهواجس المعاصرة أن الطائفية ليست بقايا ماضٍ بل أداة حيّة لإدارة السياسة والمجتمع. فالمؤسسات اللبنانية، عبر المحاصصة والقوانين التمثيلية، تكرّس هذه المخاوف وتُبقي كل طائفة رهينة لذاكرتها وقلقها. وأي إصلاح لا يقتصر على الدستور أو الاقتصاد، يستدعي التعامل مع الهواجس نفسها كمنظومة جماعية وفردية، فيما تظل الأقليات شاهداً دائماً على هشاشة الكيان التعددي اللبناني.
وتكشف الهواجس أيضاً أنّ الطائفية شبكة من المخاوف الجماعية التي تتحكم بالمجتمع. لذلك، فإن أي إصلاح حقيقي يبدأ من معالجة هذه المخاوف على المستويين الفردي والجماعي، قبل البحث في أي تعديلات دستورية.
لبنان، بحساسية موقعه وتعدديته الطائفية، كان دائماً ساحة متأثرة بالتحولات الإقليمية. أزمات سوريا والعراق وفلسطين واليمن، إضافة إلى النفوذ الإقليمي والدولي، كلها تركت أثراً مباشراً على هواجس طوائفه. وبذلك يتحول لبنان إلى مرآة لصراعات المنطقة، حيث تُستثمر المخاوف المحلية في لعبة النفوذ الإقليمي والدولي.
هذه التحولات جعلت الهواجس تتجاوز كونها إرثاً محلياً لتصبح أداة تُستعمل في تكريس الانقسامات. فقد شكّلت الجغرافيا والتاريخ والصمت والطائفية المؤسساتية شبكةً من القلق الجماعي تجعل الطوائف أسيرة ماضيها وهاجسها المستمر.
يبقى الاستقرار رهين القدرة على تفكيك هذه البُنية، عبر إعادة النظر في الهوية الوطنية، وتوزيع الموارد بعدالة، وتطوير مؤسسات ديموقراطية، وصياغة سردية جامعة. فلبنان ليس مجرد كيان جغرافي بل نظام من الهواجس المتراكمة. وهذه الهواجس ليست قدراً محتوماً، بل يمكن تجاوزها إذا ما تحوّل الخوف إلى مساحة تعايش يضمن حضور الجميع من دون تهميش.