

إلاّ أنّه لا يُمكِن أيضاً لأيّ متبصّرٍ في الأحداث إلاّ أن يشهد على مدى الصلافة في توقيت الإعلان عن هذا الاعتراف ومغزاه. لماذا؟
يناضل الفلسطينيّون من أجل حقوقهم منذ أن سُلِبَ وطنهم وهجّروا منه في العام 1948. لكنّ الاعتراف يأتي متأخّراً كثيراً مع الإبادة الجماعيّة والتدمير الممنهج لكلّ مقومّات الحياة التي تقوم بهما حكومة بنيامين نتنياهو وجيشها في غزّة، وبعد أن قضمت المستوطنات معظم أراضي الضفّة الغربيّة. بالتالي جاء الاعتراف بعد أن أزالت إسرائيل جميع مقوّمات وجود دولة فلسطينيّة ولو بالحدّ الأدنى.
وقد ترافق هذا الاعتراف مع منع الولايات المتحدة رئيس السلطة الفلسطينيّة محمود عباس (أبو مازن) من الوصول إلى قاعة الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة في نيويورك ومنع ذات الحكومات التي أقرّته رفع الأعلام الفلسطينيّة على مبانٍ عامّة، في حين لا مشكلة في رفع الأعلام الأوكرانيّة أو الإسرائيليّة تضامُناً. كما أتى اعتراف كثيرٍ من الدول مشروطاً لفتح السفارات واكتماله بإصلاحات يجب أن تقوم بها السلطة الفلسطينيّة المحاصَرة في مربّعٍ أمنيّ في رام الله والتي لا سيادة لها لا على أرض، ولا على النقد، ولا على القانون.. هذا غير التبعيّة شبه الكاملة للدولة العبريّة.
نعم؛ إقرارٌ دوليٌ بحلّ الدولتين في حين لم يعُد هناك مجالٌ إلاّ لدولة واحدة يجب بالمقابل أن تُطالَب دوليّاً أن تخلع عنها ما بات أقسى بكثيرٍ من نظام الفصل العنصريّ (الأبارتايد) في جنوب إفريقيا.
لا أسسَ لنظامٍ عالميّ وإنّما هروبٌ إلى الأمام أمام تعدّد الأقطاب الإقليميّ والعالميّ، دون العودة إلى “الإرهاق الاستراتيجيّ” للولايات المتحدة في حروبٍ كتلك التي عرفتها في أفغانستان؛ هروبٌ نحو إغراق الخصوم وكذلك الحلفاء سويّةً في صراعاتٍ لا نهاية لها بين بعضهم البعض. ولا ينجو من هذا اللانظام العالمي المتعدّد الأقطاب، لا من يرفض الصفقات ويتعرّض بالتالي لعقوبات قاسية، ولا من يرضى بها لأنّها في كلّ الأحوال صفقات آنيّة يُمكِن إلغاءها
هكذا يمثّل هذا الاعتراف نقطّة تحوّل فيما يتعلّق بصلافة سياسات الدول تجاه القضيّة الفلسطينيّة، التي لم تعُد كما كانت قضيّة أخلاقيّة وقضيّة حقوق مركزيّة في الدبلوماسيّة العالميّة. بل تتهرّب الدول أمام رأيها العام عبر هذا الاعتراف من الالتزام بقرارات محكمة العدل الدوليّة أو أن تتّخذ إجراءات عقابيّة ضد إسرائيل وقادتها لإيقاف الجرائم، كما قامت بذلك تجاه دولٍ أخرى جرّاء انتهاكاتها لحقوق الإنسان. هذا في حين أضحت القضيّة الفلسطينيّة بالنسبة لكثيرٍ من الدول العربيّة قضيّةً ثانويّة، بعيداً وراء ما يُنظَر إليه كمصلحة وطنيّة خاصّة لكلّ دولة في التعاون مع دولة إسرائيل، وأحياناً لمواجهة دول عربيّة أخرى. وحتماً يلعب تماهي سياسات الولايات المتحدة مع سياسات الحكومات الإسرائيليّة، حتّى تلك أكثرها تطرّفاً اليوم، دوراً في هذا التحوّل. ولا يعيق ذلك أنّ دولة إسرائيل تشعر اليوم بنشوة الإفراط في القوّة والنفوذ، ولا يهمّها أن تعتدي مباشرةً على دولةٍ خليجيّة، من المفترض أنّها تحت حماية الولايات المتحدة من أيّ عدوان.
وهذه الصلافة لا تخصّ فلسطين وحدها. إذ بات مشهد العلاقات الدوليّة يتحوّل صراحةً، منذ تولّي الرئيس دونالد ترامب، ويقوله جهارةً مبعوثه توم باراك فيما يخصّ المشرق العربي.. نحو منطق “الصفقات”. إذ بات الحديث عن الديموقراطية وحقوق الإنسان يغيب تماماً أمام منطق الصفقات الاستراتيجيّة والاقتصاديّة. والمهمّ هو الحصول على موارد طبيعيّة وأسواق أو قطع الطريق أمام الصعود الاقتصادي العالمي للصين ومشروعها لـ”الطريق والحزام”.
لا أسسَ لنظامٍ عالميّ وإنّما هروبٌ إلى الأمام أمام تعدّد الأقطاب الإقليميّ والعالميّ، دون العودة إلى “الإرهاق الاستراتيجيّ” للولايات المتحدة في حروبٍ كتلك التي عرفتها في أفغانستان؛ هروبٌ نحو إغراق الخصوم وكذلك الحلفاء سويّةً في صراعاتٍ لا نهاية لها بين بعضهم البعض. ولا ينجو من هذا اللانظام العالمي المتعدّد الأقطاب، لا من يرفض الصفقات ويتعرّض بالتالي لعقوبات قاسية، ولا من يرضى بها لأنّها في كلّ الأحوال صفقات آنيّة يُمكِن إلغاءها أو تغيير مسارها في أيّ لحظةٍ لأيّ سببٍ كان.
وفي هذا السياق، لا يهمّ كثيراً من يحكم الدول أو طبيعة أنظمة الحكم القائمة فيها، استبداديّة كانت أم ديموقراطيّة. علماً أنّه في كلّ الأحوال يتمّ إطلاق “مهندسي الفوضى” لتجييش المجتمعات وتوجيهها ضمن لعبة الصفقات والصلافة القائمة.
وهنا يحقّ التساؤل عن سرعة تطبيع الولايات المتحدة والدول الأخرى مع السلطة الجديدة في سوريا، برغم التوجّهات التي كانت قائمة للتطبيع مع السلطة البائدة قبيل سقوطها. تطبيعٌ برغم إرث هذه السلطة الجديدة خلال الصراع في العراق أو في سوريا، وبرغم ما حصل بعد استلامها زمام الأمور. أترتبط هذه السرعة بضرورة قلب معادلات المنطقة لحين تنفيذ نتنياهو لخطّته في غزّة ولبنان؟ أهي خدعة استراتيجيّة لإبعاد النظر عمّا يريده نتنياهو من سوريا في مشروعه للهيمنة على المنطقة؟ إذ أنّه وحده يبقى عصيّاً على عقد أيّة صفقة معها، مهما كان انتهاكها لسيادة سوريّا بالحدّ الأدنى على أراضيها؟ أم أنّ سرعة التطبيع ترتبِط أيضاً بإنهاء أوضاع الحماية للاجئين السوريين في دول الجوار كما في أوروبا، دون خلق أيّة أرضيّة لاحتوائهم ببرامج إعادة نهوض اقتصادي وإعادة إعمار؟ فهل يجب على السوريين أن يثقوا بهذا التطبيع مقابل انقسامٍ داخليّ يعتريهم لم يسبق له مثيل وبين فقرٍ ما زال منتشراً بشكلٍ واسع؟ “نحن نعطيهم فرصة فقط” (!)، كما يوضح ذلك توم براك. فرصة لماذا؟
كذلك من المنطقيّ التساؤل عن الأسباب التي أخذت السياسات الدوليّة عموماً إلى صفاقة هذه الأيام؟
منذ الأزل، المصالح والنفوذ هي التي كانت تقود سياسات التعامل بين الدول. لكنّها كانت تُغلّّف منذ إنشاء الأمم المتحدة بعد الحرب العالميّة الثانية والحرب الباردة بشعارات مثل: “دعم حق تقرير المصير”، “مناهضة الإمبريالية”، “الدفاع عن الحرية والديمقراطية”، و”حقوق الإنسان”. برغم ذلك لم تتوانَ القوى الكبرى في إقامة الحروب والعمل على قلب أنظمة الحكم وغير ذلك لخدمة مصالحها. إلاّ أنّ القيَم وراء تلك الشعارات والتي كانت تترسّخ شعبيّاً وبخاصّةً في أوروبا والولايات المتحدة من جرّاء آلام الحرب الكبرى تراجعت بشكلٍ كبير في الآونة الأخيرة أمام “الحرب على الإرهاب” – دون تحديد ما هو الإرهاب – وضرورة “معاقبة الدول المارقة” – مارقة على من؟- وتوجيه سبب المشاكل نحو اللاجئين والمهاجرين – العمالة الرخيصة التي يتمّ جلبها – واستبدال مرجعيّة الإرث الأخلاقي “اليونانيّ الرومانيّ” بمرجعيّة الإرث “المسيحيّ-اليهوديّ”.. وكأنّ إرث الإنسانيّة ليس أكثر ثراءً من ذلك بكثير وكأنّ إرث الديانات التوحيديّة لم يكُن شراكةً وتفاعلاً بين الإسلام واليهوديّة والمسيحيّة؟
هكذا لم يعُد مهمّاً أمام الرأي العام الداخليّ في أوروبا وأمريكا أي تحجّج بالقيَم. قلّةٌ شعبيّة ما زالت متمسّكة بهذه القيَم. تلك التي ترفع علم فلسطين كرمزٍ حتّى لنضالاتها الداخليّة. أمّا الأغلبيّة فتصوّت في الانتخابات للصلافة، حتّى لو تعدّت هذه الصلافة على حريّات بلادهم الداخليّة ذاتها. المهمّ أن تحقّق الريادة العالميّة والعظمة في وجه عالمٍ خارجيّ يتمّ إبرازه كفوضى وفُرَص.
هكذا رافق التحوّل نحو الصلافة الصريحة في السياسات الدوليّة تحوّلٌ عميق من القيَم نحو الهويّات، ليس فقط في المشرق العربي، ولكن أيضاً، وبخاصّةً، في الغرب.
لكنّ قمّة الصلافة أن يصِف القائمون على سياسات الدول الكبرى أنّ المشرق العربي يعيش دوماً حرب هويّات “عشائريّة”، وكأنّ لا يدّ لأجهزة بلادهم سابقاً واليوم، في خيانة طموحاتها في الديموقراطية وفي الحريّة وفي العيش بكرامة وسلام؟