

مع اقتراب موعد ذكرى اغتيال الشهيدين نصرالله وصفي الدين، أعلنت قيادة حزب الله عن برنامج احتفالاتها للمناسبة، ومن ضمنه إقامة فعالية كشفية قرب صخرة الروشة (رأس بيروت) يتخللها إضاءة الصخرة بصور الشهداء. بعد هذا الاعلان تنطح عدد من النواب المنتخبين عن دائرة بيروت رفضاً واعتبروا ذلك تعدياً على خصوصية بيروت، ولم يتورع هؤلاء عن اعتبار بيروت لطائفة بحد ذاتها، علماً أن الأمين العام الحالي لحزب الله الشيخ نعيم قاسم هو ابن مدينة بيروت ومن مواليد شارع زقاق البلاط فيها.
استغل رئيس الحكومة أصوات هؤلاء النواب، وعلى مسافة بضعة أيام من الاحتفال المقرر، بادر إلى اصدار تعميم إداري بمنع استخدام الأماكن العامة من دون ترخيص، من دون أن يسمي صخرة الروشة التي تعتبر معلماً سياحياً طبيعياً تاريخياً، فتوجهت إحدى الجمعيات التابعة لحزب الله إلى محافظ بيروت لطلب الترخيص، وجاءت الموافقة مشروطة بعدم اضاءة صخرة الروشة وألا يزيد عدد المشاركين في الاحتفال عن 500 شخص.
من المستبعد أن يبادر سلام إلى الاستقالة ما لم يصل داعميه الاقليميين والدوليين إلى الاستنتاج أنه بات يُشكّل عبئاً عليهم، مع أرجحية أن يزداد رصيد سلام عند هؤلاء، فيزدادا تمسكهم به في موقعه بانتظار ما يمكن أن يستجد من تسويات خارجية
إضاءة صخرة الروشة لم تكن سابقة، فقد سبق أن اضيئت في السنوات الأخيرة بصور لزعماء عرب وأعلام دول عربية وأجنبية من دون أي تعميم اداري من رئيس الحكومة أو من أي مسؤول في الدولة اللبنانية، ومن دون أن يُؤدي ذلك لأي اشكالية مع أي فئة لبنانية مناهضة لهؤلاء الزعماء أو الدول. لذلك، فُهِمَ من تعميم سلام أنه قرر تحدي حزب الله وبيئته في مناسبة غالية على الحزب وجمهوره لا بل على فئة كبيرة من اللبنانيين، والأسوأ أن هذا التعميم حاول الدفع بالجيش اللبناني والأجهزة الامنية للتصادم مع جمهور الحزب وأنصاره.
وبسبب الضغط والتحشيد والتهديد، تحولت الفعالية إلى مهرجان خطف الأنظار عن المهرجان المركزي بالمناسبة، وكان أن أضيئت الصخرة ليس فقط بصورة الشهيدين بل أيضاً بصورة للسيد نصرالله يتوسط رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري ونجله رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري وفي بال المنظمين أن يوجهوا رسالة لأهل بيروت أن هذه الفعالية لا تستهدفهم بل للتأكيد على أن صخرة الروشة لكل اللبنانيين وليس لفئة أو طائفة محددة وأن القاتل واحد وهو إسرائيل. لم يهضم نواف سلام الأمر وطالب الأجهزة العسكرية والأمنية والقضائية بملاحقة من أضاء صخرة الروشة وتوقيفه. وهنا لا يتطلب الأمر كثير عناء لفهم موقف رئيس الحكومة الذي بلغ به الامر في معاداة طرف شريك في حكومته حد أن يخالف هو نفسه القانون مع العلم أنه رجل قانون بصفته محامياً وقاضياً، فالقانون اللبناني لا يأمر بتوقيف المخالف لتعميم اداري ولكن وفي أقصى حد الاكتفاء بتغريمه مالياً.
ومنذ انطلاق حكومته قبل نحو سبعة أشهر حتى يومنا هذا يتخذ نواف سلام من “بسط سلطة الدولة على كامل اراضيها وفرض هيبتها على الجميع” عنواناً اندرج تحته قرار حصر السلاح بيد الدولة كما التعميم بمنع اضاءة صخرة الروشة، غير أن لبنان الذي يدار بنظام المحاصصة الطائفية لطالما عاش اوضاعا متوترة عند محاولة طائفة فيه الاستقواء على طائفة أو طوائف أخرى، فكيف بالأمر عندما تصبح قرارات رئيس الحكومة وتعاميمه الادارية تصب في خانة الضغط على طائفة، قال عنها المبعوث الأمريكي الخاص توم براك إنها تمثل أربعين بالمئة من سكان البلاد؟
وكما يقول المثل اللبناني “القصة مش رمانة، القصة قلوب مليانة”، ليست أزمة الصخرة وليدة لحظة بل هي نتاج مسار تراكمي عمره من عمر ولادة هذه الحكومة. في أحسن الأحوال، يُمكن القول إن سلام يتصرف من عندياته ولا كيمياء بينه وبين حزب الله وبالمقابل، يُمكن الافتراض أن الخارج الذي لعب دوراً أساسياً في وصول سلام إلى رئاسة الحكومة، يُلزمه بتنفيذ برنامج عمله بلا حساب للمصلحة الوطنية إذ أنه من غير الطبيعي لرئيس الحكومة في لبنان أن يترك كل شؤون الناس وهمومهم ويتفرغ لمقارعة طرف سياسي طائفي في البلاد إلى درجة تدفع إلى الصدام الداخلي بين جمهور هذا الطرف والأجهزة الأمنية والعسكرية.
هل نحن أمام استنتاج متسرع؟
يدرك سلام أن هيبة الدولة كلٌ لا يتجزأ من الماء والكهرباء والأرصفة واشارات السير وودائع اللبنانيين المسلوبة؛ وبالتالي يحترم اللبنانيون دولتهم عندما يلمسون أنها تحترمهم وتعمل لمعالجة أمورهم اليومية بمسؤولية، وإلا ما معنى أن تتفرج الدولة على مافيات أصحاب صهاريج المياه وأصحاب المولدات الكهربائية، ومافيا أصحاب المصارف وتُقرّر أن تتفرغ لنزع سلاح المقاومة في الوقت الذي ترفض “إسرائيل” تنفيذ اتفاق وقف الأعمال العدائية الذي تم التوصل إليه مع لبنان في 27 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي ونص بشكل واضح على الانسحاب “الإسرائيلي” من كل الأراضي اللبنانية واعادة الأسرى اللبنانيين. كما ترفض السماح للجيش اللبناني بالانتشار في كل منطقة جنوب الليطاني بحسب ما نص عليه الاتفاق، فهل هيبة الدولة هنا غير منقوصة بينما تصبح “الهيبة” في الروشة مسألة حياة أو موت؟
ثمة قول رائج “إذا أردت أن تطاع فاطلب المستطاع”، فكيف يُمكن أن يطلب سلام ألا يتجاوز عدد المشاركين في هذه الفعالية الخمسمائة شخص وهو من كان مسؤولاً عن التحشيد من خلال استفزاز طائفة يبلغ تعدادها تقريباً ثلث الشعب اللبناني وتعتبر نصرالله “حسين هذا العصر” وقد استشهد على طريق القدس؛ القدس نفسها التي جعلت سلام ينتمي في يوم من الأيام للمقاومة الفلسطينية؟
من المؤسف القول إن رئيس الحكومة يتصرف بكيدية سياسية تضع مصير حكومته على المحك، لا بل يُحرج رئيس الجمهورية جوزاف عون الذي صارت أولويته أثناء مشاركته في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، معالجة تداعيات الخطوة غير المدروسة لرئيس الحكومة وبالتالي التشديد على قادة الأجهزة العسكرية والأمنية أن ينفذوا القانون لكن من دون التسبب بأي تصادم داخلي، وهذا ما يطرح علامة استفهام عن مضمون بيان نواف سلام الذي اعتبر ما حصل “انقلاباً على الالتزامات الصريحة للجهة المنظمة وداعميها”، وثمة سؤال من يقصد بـ”الداعمين” غير رئيس الجمهورية؟
من حيث المبدأ في بلد غير لبنان كان من شأن ما حصل أن يُطيح برئيس الحكومة وحكومته، أو على الأقل أن يؤدي إلى استقالة وزراء الطرف المستهدف من الحكومة أو إقالة وزراء معنيين (كان سلام يشتهي أن يُقدّم كل من وزير الدفاع ميشال منسى ووزير الداخلية أحمد الحجار استقالتهما فور انتهاء مشهدية الروشة)، ولكن وبسبب التوازنات الطائفية في البلاد وبسبب الغطاء الاقليمي الذي جاء بسلام رئيساً للحكومة فإن هذا الأمر يبدو مستبعداً، فتجربة انسحاب الوزراء الشيعة من حكومة فؤاد السنيورة الأولى لم تكن مشجعة، إذ واصل الأخير مزاولة مهام حكومته التي اعتبرت فاقدة لشرعيتها الميثاقية، وحتى الآن، من المستبعد أن يبادر سلام إلى الاستقالة ما لم يصل داعميه الاقليميين والدوليين إلى الاستنتاج أنه بات يُشكّل عبئاً عليهم، مع أرجحية أن يزداد رصيد سلام عند هؤلاء، فيزدادا تمسكهم به في موقعه بانتظار ما يمكن أن يستجد من تسويات خارجية.