سحر الرّموز وأَسْرُ الشهادات

في المجتمعات الحديثة، يُفْتَرَض أنّ التعليم والشهادات العليا تمنح الفرد القدرة على الاختيار ورفع مستوى وعيه. إلا أنّ الواقع يكشف المفارقة الآتية: كثيرٌ من المتعلّمين يواصلون الخضوع للنّفوذ الرمزيّ، الانقياد للجماعات القويّة، أو حتى للميليشيات المحلّية، بينما ينجح آخرون في الخروج عن هذه السيطرة وممارسة استقلاليةٍ حقيقيّة. هذه الظاهرة تثير تساؤلاتٍ أنثروبولوجيةً عميقةً حول العلاقة بين المعرفة والسلطة، بين التعليم والحريّة، وبين الفرد والمجتمع. فهل يكفي التراكم المعرفيّ وحده ليحمي العقل من الوقوع تحت سلطة الرّموز والأنماط الاجتماعية؟ أم أن هناك عوامل خفية تتحكّم في الانقياد، حتى بين المتعلّمين الأعلى تأهيلاً؟

المعرفة وحدها لا تكفي

المعرفة الأكاديمية وحدها لا تكفي لضمان الاستقلالية. المتعلّمون الذين يخضعون للسيطرة يمتلكون معرفةً نظرية، لكنّهم يفتقرون إلى الرأسمال الرمزيّ والاجتماعيّ، فالأوّل أي الرأسمال الرمزي هو السلطة الاجتماعيّة المستمدّة من الاعتراف والاحترام، أي أنّ المجتمع “يعترف” لشخص ما بقيمته، ومن ثم يمنحه نفوذًا غير ملموسٍ ولكنه فعّال. بينما يعكس الرأسمال الاجتماعيّ قدرة الشخص على الاعتماد على الآخرين، والتعاون معهم، وتسهيل التفاعل الاجتماعيّ لتحقيق أهدافه، سواء كانت شخصيّة أو جماعيّة.

وهذان الرأسمالان يمكّنان من قراءة الرموز الاجتماعية وفك شيفرة الكاريزما والطقوس الجماعيّة. فالأفراد قد يكونون مطّلعين على النظريّات السياسيّة والفلسفيّة، لكن فهم كيفية تفاعل السلطة الرمزيّة مع الجماعات المحليّة أو الهيئات الدينيّة يحتاج إلى خبرةٍ اجتماعيّةٍ وتجارب حيّة. والاعتماد على وسطاء محلّيين أو شبكاتٍ محدودة، والثقة المُفْرِطَة بالسلطة التقليديّة، تجعلهم أكثر عرضةً للانقياد، حتى مع أعلى مستويات التعليم (Bourdieu, 1986; Durkheim, 1956).

الأبعاد النفسية والاجتماعية للخضوع

يلعب البعد النفسيٌّ دورًا محوريًا في الانقياد. ضعف الاستقلال النفسيّ أمام الضغوط الاجتماعيّة أو الانغماس في التحيزّات الجماعيّة يجعل بعض المتعلّمين أكثر عرضةً للتأثير، بينما يعزّز تأثير الكاريزما والطقوس الجماعيّة من سطوة الانقياد. الانتماء الدينيّ أو الطائفيّ يضيف أبعادًا إضافيّة تجعل رفض الإرشاد أو المقاومة أصعب، خاصةّ عندما تتشابك الرّموز الاجتماعيّة مع الواجب الأخلاقيّ. يمكن رؤية ذلك في الدّراسات التي توثّق كيف أن الالتزام بالرّموز الجماعية، حتى بين المثقفين، يؤدّي أحيانًا إلى اتخاذ قراراتٍ تتناقض مع المعرفة العلميّة أو المنطقيّة (Onwuegbuzie & Frels, 2016).

الفارق بين الخضوع والاستقلاليّة ليس مسألة تعليمٍ فحسب، بل تفاعلٍ معقّدٍ بين المعرفة، الشبكات الاجتماعيّة، الخبرة، والقيم الشخصيّة. الحريّة المعرفيّة تتطلّب أكثر من تراكم المعلومات؛ فهي تحتاج إلى الوعي بالحقول الاجتماعيّة، القدرة النقديّة، والتجربة الشخصيّة التي تصنع استقلاليّة حقيقيّة. هذا الفهم الأنثروبولوجيّ يفتح أفقًا لدراسة العلاقة بين التعليم والسلطة، ويوضح لماذا يمكن لشهادات عليا أن تصنع وعيًا علميًا، لكنها لا تضمن الحرّية الفكريّة إذا غابت العناصر النفسيّة والاجتماعية والثقافية

القيم والثقافة كخطّ دفاع

القيم الشخصيّة والثقافة المجتمعيّة تشكّل خطّ الدّفاع الأخير أمام الانقياد. فالمتعلّم الذي ينشأ في بيئةٍ تشجّع التفكير النقديّ، وتقدّر المبادئ الفرديّة، يكون أكثر قدرةً على رفض الانقياد غير المبرّر. الثقافة تؤسّس لفهم رموز السلطة والتمييز بين النّفوذ المشروع وغير المشروع، وهو ما يفسّر لماذا بعض الأفراد ينجحون في مقاومة التوجيهات الاجتماعيّة حتى تحت ضغط الجماعة (Geertz, 1973).

عوامل الاستقلالية والخروج عن السيطرة

يتمكّن بعض المتعلّمين من الخروج عن السيطرة نتيجة امتلاكهم رأسمالًا رمزيًا واجتماعيًا يمكّنهم من تفكيك الرّموز وفهم آليات القوة غير المرئية. هؤلاء الأفراد لا يعتمدون على الوسيط الاجتماعيّ التقليديّ، بل يبنون شبكة علاقاتٍ بديلةٍ توفّر لهم الدّعم والمعلومات المستقلة. كذلك، يمتلكون القدرة على تحليل الرّموز والطقوس الجماعيّة وفهمها كأدوات تأثير، وليس كحقائق مطلقة، وهو ما يعزّز استقلاليّتهم الفكريّة (Bourdieu, 1986).

التفكير النقديّ والخبرة العمليّة

مهارات التفكير النقديّ هي حجر الأساس لمقاومة الانقياد. المتعلّمون المستقلّون لا يقبلون المعلومات كحقائق جاهزة، بل يختبرونها ويميّزون بين المظاهر والحقائق. على سبيل المثال، الشخص المتعلّم الذي يواجه خطابًا مليئًا بالشعارات الرمزيّة يمكنه التمييز بين الرسائل الرمزيّة الفعليّة والحقائق الموضوعيّة. الخبرة العملية والتجارب الحياتيّة تعزّز هذا الفهم، إذ تمنح الفرد وعيًا بالتهديدات المحتملة وتدرّبه على اتخاذ قراراتٍ مستقلةٍ حتى تحت ضغط الرموز الاجتماعيّة (Perry, Hall, & Ruthig, 2005).

المساران الرئيسيّان للمتعلّمين

يخضع المتعلّمون إلى مسارين متوازيين: الأول هو الخضوع والسيطرة، فيغلب على المتعلّم هنا الاعتماد على الرّموز، الوسطاء، والانتماءات التقليدية، ويبقى وعيه مقيدًا بالأنماط الاجتماعيّة القائمة. والثاني هو الاستقلالية والمقاومة وهنا تتضافر المعرفة النظريّة مع المهارات النقديّة، الشبكات البديلة، الخبرة العمليّة، والقيم الشخصيّة، فتتيح للفرد أن يخرج عن النّفوذ الرمزيّ ويمارس اختياراته بحريّة (Bourdieu & Passeron, 1990).

وفي بعض السياقات الإقليميّة، يظهر أنّ المتعلمين الذين يحملون شهاداتً عليا يخضعون للميليشيات المحليّة برغم وعيهم الأكاديمي. التحليل الأنثروبولوجي يشير إلى أنّ هذه الظاهرة ناتجة عن تداخل الانتماءات الاجتماعيّة، الرموز القويّة، والخوف من العزلة، وهي عوامل لا تقلّ أهميةً عن المعرفة الأكاديميّة. في المقابل، نجد متعلّمين استطاعوا تأسيس مشاريع مجتمعٍ مدنيٍّ أو صحافة مستقلّة، وهم يمثلون حالة الانفصال عن النفوذ الرمزيّ بفضل تكامل التعليم، الخبرة العمليّة، والدّعم الاجتماعيّ البديل (Geertz, 1973; Bourdieu, 1986).

التعليم والانقياد عبر البيئات الثقافيّة

لفهم ظاهرة الخضوع والاستقلاليّة بين المتعلّمين بشكلٍ أعمق، يمكن إجراء تحليلٍ مقارنٍ بين بيئاتٍ ثقافيّةٍ واجتماعيّةٍ مختلفة. في المجتمعات الغربيّة، حيث يتمّ تشجيع التفكير النقديّ والمبادرة الفرديّة منذ المراحل التعليميّة المبكّرة، يظهر أنّ المتعلّمين الأكثر تأهيلاً يميلون إلى ممارسة استقلاليّةٍ أكبر في اتخاذ القرارات والابتعاد عن التأثيرات الرمزيّة للجماعات التقليديّة. فعلى سبيل المثال، الطلاب الجامعيّون في الولايات المتحدة أو أوروبا الغربية غالبًا ما يتعرّضون لتجارب تعليمية تحفّز النقاش، التجربة العمليّة، والمشاريع الفرديّة، مما يمنحهم القدرة على مواجهة النفوذ الرمزيّ (Perry, Hall, & Ruthig, 2005).

إقرأ على موقع 180  حين تتحوّل الشعبوية من عاطفة إلى أكثر من أيديولوجيا

في المقابل، في المجتمعات التي يرتبط التعليم فيها بالانتماء الجماعيّ أو الهوياتيّ، نجد أن المتعلّمين برغم حصولهم على شهادات عليا، يبقون مرتبطين بشبكات النّفوذ المحليّ والرموز التقليديّة. فالالتزام بالانتماء الطائفيّ أو القبليّ أو العشائريّ يمكن أن يكون أقوى من التعليم النظريّ، إذ يوفّر للشخص حمايةً اجتماعيّةً وامتيازاتً محدّدة، لكنّه يقيّد في الوقت نفسه حرّية الاختيار ويزيد من احتماليّة الانقياد (Geertz, 1973; Bourdieu, 1986).

توضح هذه المقارنة أن العلاقة بين التعليم والاستقلاليّة ليست خطيّة، بل تتأثّر بالبنية الثقافيّة والاجتماعيّة للشبكات، وبدرجة تمكين الأفراد من ممارسة النّقد الذاتيّ. بمعنى آخر، التعليم وحده لا يكفي؛ بل يجب أن يقترن بالخبرة العمليّة، القيم الشخصية، والرأسمال الاجتماعيّ البديل لتفعيل قدرة المتعلّم على اتخاذ قراراتٍ مستقلة (Onwuegbuzie & Frels, 2016; Bourdieu & Passeron, 1990).

في الختام، الفارق بين الخضوع والاستقلاليّة ليس مسألة تعليمٍ فحسب، بل تفاعلٍ معقّدٍ بين المعرفة، الشبكات الاجتماعيّة، الخبرة، والقيم الشخصيّة. الحريّة المعرفيّة تتطلّب أكثر من تراكم المعلومات؛ فهي تحتاج إلى الوعي بالحقول الاجتماعيّة، القدرة النقديّة، والتجربة الشخصيّة التي تصنع استقلاليّة حقيقيّة. هذا الفهم الأنثروبولوجيّ يفتح أفقًا لدراسة العلاقة بين التعليم والسلطة، ويوضح لماذا يمكن لشهادات عليا أن تصنع وعيًا علميًا، لكنها لا تضمن الحرّية الفكريّة إذا غابت العناصر النفسيّة والاجتماعية والثقافية (Bourdieu, 1986; Onwuegbuzie & Frels, 2016; Geertz, 1973).

المراجع:

  1. Bourdieu, P. (1986). The forms of capital. In J. G. Richardson (Ed.), Handbook of theory and research for the sociology of education (pp. 241–258). Greenwood Press.
  2. Bourdieu, P., & Passeron, J.-C. (1990). Reproduction in education, society and culture. Sage.
  3. Durkheim, É. (1956). Education and sociology. Free Press.
  4. Geertz, C. (1973). The interpretation of cultures. Basic Books.
  5. Onwuegbuzie, A. J., & Frels, R. K. (2016). Determining factors for the development of critical thinking in higher education students. International Journal of Educational Research, 13(6), 59–76.
  6. Perry, R. P., Hall, N. C., & Ruthig, J. C. (2005). Perceived (academic) control and scholastic attainment in higher education. In R. P. Perry & J. C. Smart (Eds.), Scholarship of teaching and learning in higher education: An evidence-based perspective (pp. 477–551). Springer.

Print Friendly, PDF & Email
سعيد عيسى

دكتوراه في الأنتروبولوجيا الاقتصادية؛ كاتب وباحث في شؤون العمال والحماية الاجتماعية؛ خبير في الحوار الاجتماعي والحوكمة والتدريب.

Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  جنوبٌ عالميٌ صاعدٌ.. وقارةٌ شماليةٌ مُهدّدةٌ بالتفكك