

من دونالد ترامب في الولايات المتحدة، الذي صعد على موجة الاحتقان العنصري والاقتصادي، إلى فيكتور أوربان في المجر، الذي بنى زعامته على الخوف من المهاجرين والترويج لـ”القيم المسيحية”، ومن ماتيو سالفيني وجورجيا ميلوني في إيطاليا، حيث استُخدم شعار “الإيطالي أولاً” لاستنهاض الحنين إلى أمة متخيّلة، إلى بوريس جونسون في بريطانيا، الذي صاغ خطابه أثناء “البريكست” بلغة التحدي القومي والتبسيط المبالغ به؛ تتجلّى ملامح الزعامة الشعبوية بوضوح، وإن اختلفت الأقنعة المحلية.
في فرنسا، تبني مارين لوبن سرديتها على استثنائية الهوية الفرنسية، وتقدّم نفسها كصوتٍ “منسيّ” يدافع عن “الفرنسي الحقيقي” ضد النخب الباريسية، وضد ما تعتبره انحلالًا أوروبيًا. وفي إسبانيا، برز حزب “فوكس” بخطاب يرتكز على الدفاع عن الأمة ضد التعددية الثقافية، وتُصاغ مقولاته في مناخ من النوستالجيا السياسية نحو زمن مركزي وذكوري وسلطوي.
حين لا يعود هناك معنى مشترك تستند إليه الجماعة، فإن الزعيم العاطفي يملأ الفراغ، لا كحل، بل كأثر. أثرٌ لانهيار سابق لم يُعالَج، ولعطش هائل إلى هوية واضحة وسط ضجيج التحولات. في مثل هذا المناخ، تصبح الشعبوية أكثر من أيديولوجيا؛ إنها شكلٌ من أشكال البقاء النفسي، البدائي والناجع
الجامع بين هذه التجارب ليس المضمون، بل الآلية. الزعيم الشعبوي لا يُنتج داخل المؤسسات، بل خارجها، في المجال الشعوري المضطرب للناخبين. هو استجابة لعطب جماعي في التمثيل، لفراغ رمزي لم تَملأه الأحزاب الكلاسيكية. صعوده لا يعكس نضجًا ديموقراطيًا، بل أزمة في معنى التمثيل نفسه.
وبينما تتباهى الديموقراطيات الليبرالية بديناميكياتها المؤسسية، تكشف الشعبوية هشاشة هذه الديناميكيات حين تعجز عن استيعاب العواطف الجارفة. فالجمهور لا يُصوّت للبرنامج بقدر ما يختبر لحظة الانتماء النفسي، عبر زعيم يتكلم “كما نتكلم”، ويُعبّر عمّا نخجل من قوله. يصرخ نيابة عن الخائف، ويعد بما لا يمكن تحقيقه، لأن وظيفته ليست الإصلاح، بل الإشباع الفوري لغريزة الإحباط.
من منظور التحليل النفسي، تُفهم هذه الزعامات بوصفها تمثيلات لعقد جمعية لم تُحلّ. هنا، تتلاقى مقولات المحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان حول الذات المتضخمة، مع فكرة عالم النفس السويسري كارل غوستاف يونغ عن “الظل الجماعي”، حيث تتجسد المآسي والمكبوتات في صورة من يتجاوز القانون، ويُعيد صوغ الحدود. أما المدرسة السلوكية التي تأسست على يد جون واتسون، فتتيح فهم كيف يتحوّل الجمهور إلى كائن شرطيّ، يستجيب للمثيرات لا للأفكار، ويكافئ الزعيم لا حين يُحسن الأداء، بل حين يُتقن الصدمة.
ما يكشفه التأمل العميق في الظاهرة الشعبوية هو أنّنا لا نواجه مجرّد نمط من أنماط الخطاب السياسي، بل طقسًا اجتماعيًا مكتمل البنية. فالمجتمعات، حين تفقد رموزها التأسيسية – سواء كانت دينية أو قومية أو نقابية – تسعى بشكل لا واعٍ إلى تعويض ذلك الفقد عبر استحداث رمز بديل، غالبًا ما يتجسّد في شخص الزعيم. هذا الزعيم لا يُنتخب فحسب، بل يُستدعى ككائن فاصل بين مرحلة ومرحلة، كأنّه يجسّد مشاعر الجماعة المكسورة، ويعيد تقديمها بلغة الخلاص والانفعال. إنه يؤدي وظيفة المقدّس، لا بوصفه نبيًا، بل باعتباره تعبيرًا عن حاجة الجماعة إلى وحدة، حتى ولو كانت تلك الوحدة مبنية على الخوف أو الكراهية.
من جهة أخرى، يُعبّر صعود هذا النموذج عن تحوّل خفيّ في العلاقة بين الخطاب والسلطة. لم يعد التأثير السياسي قائمًا على البرنامج، بل على القدرة على تفكيك المعايير التي تقوم عليها الحقيقة ذاتها. الزعيم لا يُقدّم معرفة بديلة، بل ينسف المرجعيات التي تضبط إنتاج المعرفة. إنه يُشكّك بكل ما يبدو بديهيًا: من الأرقام إلى الخبراء، من القانون إلى الصحافة، ويُحوّل الشك إلى يقين جماعي. بهذا الشكل، يُصبح الخطاب الشعبوي ليس مجرد تعبير عن الغضب، بل أداة لإعادة هندسة ما يُعتبر “واقعًا” في الوعي العام.
ما يبدو كأزمة سياسية سطحية، هو في جوهره طقس عبور وجودي، تُعيد فيه المجتمعات تعريف ذاتها تحت ضغط الفقد والانكسار. وحين لا يعود هناك معنى مشترك تستند إليه الجماعة، فإن الزعيم العاطفي يملأ الفراغ، لا كحل، بل كأثر. أثرٌ لانهيار سابق لم يُعالَج، ولعطش هائل إلى هوية واضحة وسط ضجيج التحولات. في مثل هذا المناخ، تصبح الشعبوية أكثر من أيديولوجيا؛ إنها شكلٌ من أشكال البقاء النفسي، البدائي والناجع.