جنوبٌ عالميٌ صاعدٌ.. وقارةٌ شماليةٌ مُهدّدةٌ بالتفكك

نعيش زمناً تكاثرت فيه وتكالبت علينا أزمات أكثرها خانق. ففي غالبية دول الشمال، كما في جميع دول الجنوب، شعوبٌ تعاني عواقب سوء إدارة وصعوبات مالية واختناقات سلعية وغذائية وظلم شديد في توزيع الموارد وتضخم في الأسعار وفساد سياسي واجتماعي متفاقم.

يزداد الشعور بالقلق ولا أقول اليأس كلما انسد طريق خلاص بعد الآخر وتعدّدت مظاهر العنف أو التهديد به، وصارت الفوضى كابوساً ضاغطاً يُهدّد ما تبقى، وهو قليل، من مدخرات الأفراد والدول على حد سواء. يزداد أيضاً القلق بين خاصة الناس ومن بيدهم الأمل في التغيير بسبب إدراكهم المتجدد أن قضايا دولية استجدت أو تدهورت حتى صارت تشكل في مجموعها أو منفردة مصدر تهديد لكل أمل متجدد في خلاص قريب.

اخترت في السطور الآتية بعض ما أعرفه عن قضيتين تستدعيان الاهتمام بهما:

أولاً؛ أوروبا المهددة بالتفكيك:

كنتُ شخصياً منذ بداية عملية التكامل ثم الاندماج الأوروبي من أكثر المتفائلين بهذه الظاهرة الطارئة على السياسة الدولية. تعلمنا في معاهد العلم العليا الكثير عن ماضي أوروبا. حروب متواصلة بينها حربان عالميتان أهلكتا ملايين البشر، وسباقات على استغلال أمم في أمريكا الجنوبية ـ قبل أن تصبح لاتينية ـ وأمم في آسيا وأمم عديدة في أفريقيا والشرق الأوسط. مصدر الأمل لدينا كان الحال التي خرجت عليها شعوب أوروبا من حرب أشعلها حكامها والدعوات الخجولة ولكن الملحة من بعض قادة الفكر لإقامة تجمعات اقتصادية بأهداف تكاملية تجمع بين دول متفاوتة الأحجام والثروات في غرب القارة. كبرت الفكرة ونضجت من جماعة حديد وصلب إلى سوق اقتصادية أوروبية مشتركة إلى اتحاد أوروبي.

ليس من قبيل المبالغة في كثير القول بأن الحرب الأوكرانية، أيا كانت نتيجة مساراتها في المستقبل، قد نتج عنها صدعٌ في مشروع الوحدة الأوروبية. نتج عنها أيضا وهو الأهم بالنسبة لنا، انتكاسة أمل في سلم عالمي وفي استقرار يطول أمده

عاشت أوروبا مرحلة غير مسبوقة من السلم الإقليمي كان الظن أو الأمل أن تستمر. ولكن حدث ما يدفع الكثيرين في داخلها وبخاصة في خارجها إلى الشك في أن تستمر. حدث أن تعرّضت أوروبا لموجات متتالية من الهجرات الآسيوية والأفريقية بدأت ضرورية وانتهت كارثية. حدث أيضاً أن دعت الأحوال الإقتصادية والسياسية في عدد من دول جنوب القارة إلى بعث أو تجديد “نفس” استعماري تحول إلى طاقة سباق لغزو واسع في أفريقيا. حدث ثالثاً أن العضو الأكبر في حلف الأطلسي تورط في خطأ جيواستراتيجي كبير استدعى الخروج منه الاستعانة كعادة الولايات المتحدة بتغطية غير محدودة بالوقت أو المال أو السلاح من جانب الدول الحليفة حتى صارت أوروبا طرفاً في أجواء حرب كانت تظن أنها ربما نأت بعيداً عنها إلى الأبد.

ليس من قبيل المبالغة في كثير القول بأن الحرب الأوكرانية، أيا كانت نتيجة مساراتها في المستقبل، قد نتج عنها صدعٌ في مشروع الوحدة الأوروبية. نتج عنها أيضا وهو الأهم بالنسبة لنا، انتكاسة أمل في سلم عالمي وفي استقرار يطول أمده.

ثانياً؛ عالم ناشئ في الجنوب:

من بين مفاهيم كثيرة طرحتها التطورات الأخيرة في السياسة الدولية لفت نظري بصفة خاصة مفهوم “الجنوب العالمي” أو “عالم الجنوب”. صرت، مع بعض التأمل، أعتقد أنه يُعبّر عن حالة عالمية جديدة تختلف عن أي حالة سابقة كان للجنوب دور مشهود فيها. لم يكن قصد باندونج الإعلان عن نشأة “الجنوب”، فالجنوب في ذلك الحين كان مشاركاً في قيادة تيار “متعدد الجغرافيا والألوان”. بل إن التكوينات المتعاقبة لدول ما سمي بالعالم النامي والعالم الثالث ومجموعة السبعة وسبعين وغيرها تعمدت فيما يبدو الابتعاد عن تسميات تحمل صفة الجنوب، تماماً كما تعمدت، أيضاً فيما يبدو، مجموعة أعضاء الحلف الأطلسي، النأي بنفسها عن صفة حلف “الرجل الأبيض”، برغم أنه بالفعل الحلف الذي نشأ وعاش وتوسعت عضويته، باستثناء يكاد يكون وحيداً، وما يزال في نظر رجل الجنوب الملون هو الحلف الذي يحمي مصالح الرجل الأبيض.

لم يعد الجنوب العالمي أو عالم الجنوب مجرد مفهوم نظري أو جغرافي. حدث في السنوات الأخيرة أن تحرّكت هذه الكتلة الضخمة في اتجاهات تستحق منا الاهتمام والمتابعة. أقصد بالكتلة الضخمة التحرك العسكري في جانب من القارة الإفريقية واستعدادات ملموسة على مستوى القارة اللاتينية تنذر بسلوك مماثل في الجوهر وإن ليس في الشكل. أقصد أيضاً مجموعة “البريكس” وما حقّقت من شعبية سياسية في أوساط “الجنوب”، وفي الوقت نفسه، لا أنكر فضل المغزى الذي تتضمنه. تأسّست وفي عضويتها دولتان من الجنوب (الصين والهند) بينهما صراع على الحدود كامن حيناً وساخنٌ حيناً آخر. الملفت للإنتباه أن هاتين الدولتين برغم هذا الصراع الناشب بينهما وبرغم المحاولات الأمريكية المتواصلة للإيقاع بالهند وجذبها بعيداً عن المجموعة نحو أحلاف سريعة التجهيز تحت المظلة الأمريكية، برغم هذا وذاك يظل العداء للغرب، وبالذات لذكرى الرجل الأبيض خلال المرحلة الاستعمارية يُشكل العمود الفقري والأساس في عقيدة السياسة والحكم في كلا الدولتين: الهند والصين. يبقى واضحاً وملحاً الدور النشيط الذي يلعبه ولعب جزءاً منه في مرحلة نشأة “البريكس” الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا. كان يسعى وهو مستمر في السعي لتكون الغلبة لدول الجنوب في مجموعة “البريكس”، ولتكون هي الصوت المُعبّر عن هذا الجنوب الصاعد والثائر ضد هيمنة الرجل الأبيض.

أشعر بالغبن الذي لا شك شعر به الأستاذ أمين معلوف. هذا الرجل كان يستحق أن يحصل من فرنسا على التكريم الذي أنعم به عليه الرئيس إيمانويل ماكرون لو أنه جاء في ظروف طبيعية وليس في ظروف نكبة سياسية وثقافية، نكبة الموقف الفرنسي من الثورة الإفريقية الناشبة ضد الاستعمار الفرنسي

أعرف، كما يعرف كل متابع ومدقق لقضية دولية بعينها، أن الطبقة الحاكمة في فرنسا لم ولن تغفر للجيوش الحاكمة في إفريقيا توليها الحكم ضد رغبة باريس، وبمعنى أدق، دون مباركتها. هي أيضاً لن تغفر لواشنطن غدرها وخيانتها عهود التحالف المشترك عندما مارست ضغوطها لمنع تدخل “الإيكواس” والفرنسيين ضد النيجر وغيرها من الدول الإفريقية الثائرة. فرنسا خلال أقل من عام تعرضت مرتين على الأقل للغدر الأمريكي مرة في قضية الغواصات النووية لأستراليا ومرة مع مستعمراتها الأفريقية. وفي النهاية، أشعر بالغبن الذي لا شك شعر به الأستاذ أمين معلوف. هذا الرجل كان يستحق أن يحصل من فرنسا على التكريم الذي أنعم به عليه الرئيس إيمانويل ماكرون لو أنه جاء في ظروف طبيعية وليس في ظروف نكبة سياسية وثقافية، نكبة الموقف الفرنسي من الثورة الإفريقية الناشبة ضد الاستعمار الفرنسي ورد الفعل البارد أو الساكت من جانب علماء وأكاديميي فرنسا وغضب كثير من المفكرين القريبين من المجتمع الفرانكوفوني في أنحاء “عالم الجنوب”. على كل حال بدأ الغضب على السلوك السياسي الفرنسي تجاه الثورة الإفريقية الراهنة يضغط على صانعي السياسة في عديد دول الجنوب وفي فرنسا أملاً في تعديل هذا السلوك قبل أن يتفاقم ويتحول إلى قطيعة ثقافية.

إقرأ على موقع 180  لبنان إلى "نادي الكآبة".. الليرة بالكيس والشنطة!

***

قضايا أخرى تتفاعل مع بعضها البعض ومع البيئة القلقة المحيطة بها. أضرب مثالاً بقضية منها تستحق منا اهتماماً خاصاً. كتبت عنها بالتلميح حينا والتصريح حيناً آخر. خشيت، وما زلت أخشى، أن يستمر ضغط الولايات المتحدة الأمريكية على دول المنطقة منفردة أو مجتمعة في غياب وحدة العمل السياسي العربي فتتخذ هذه الدول سياسات تضعف فرص النظام القومي العربي في استعادة مسيرته وتدفع بنشأة بديل له. البديل هجين لن يُحقّق آمال أو أحلام الشعوب العربية في الاستقلال والتقدم ولن يُحقّق الإستقرار أو السلام في المنطقة.

Print Friendly, PDF & Email
جميل مطر

كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  ما بعد خيرسون.. القرم أو التسوية؟