المثقفون والناس.. ودينامية الخبز المشترك

النخبة الفكرية اليوم تعيش في لحظة اختبار أخلاقي وتاريخي. هي حضور اجتماعي واعٍ يملك حسّ المسؤولية تجاه زمن تغمره الفوضى، وتتصاعد فيه موجات اللجوء والخوف والعنصرية والإسلاموفوبيا. في هذا المشهد، يتقدّم المثقف كفاعل في قلب العاصفة، يقرأ البنية الرمزية للعنف، ويُفكّكها، ويعيد تركيب الوعي الجمعي على أسس العدالة.

النخبة هنا جماعة من الفاعلين الذين يمارسون الفكر بوصفه عملاً جماعيًا متجذرًا في الواقع، لا امتيازًا معرفيًا معزولًا. استلهام أنطونيو غرامشي يمنح هذا الدور عمقًا جديدًا، فغرامشي قدّم رؤية للمثقف العضوي، المنبثق من نسيج الجماعة الشعبية؛ المتحدث بلغتها؛ المُعبّر عن حاجاتها؛ المُشارك في بناء وعيها. بهذا المعنى، يتحول المثقف العضوي إلى جسر بين الفكر والميدان؛ بين التجربة اليومية والمشروع التحرّري الذي يزرع الأمل في أرض مثقلة بالتفاوت.

تستمد النخبة قوتها من قدرتها على تحويل الفكرة إلى أداة نضال حيّة. حين تتناول قوانين الهجرة أو قضايا اللجوء، تدرك أن خلف النصوص القانونية شبكة مصالح تتغذى على الخوف من الآخر، وعلى هوس الأمن، وعلى فكرة التفوق الثقافي. النخبة الحقيقية تُبدع سرديات مضيئة تُعيد للمهاجر كرامته، وتضع المقهور في قلب الحكاية، وتحوّل الضحية إلى ذاتٍ فاعلة تُعيد تعريف التاريخ من جديد. فالتاريخ يُكتب بأيدي الذين يتَحدّون صمته.

يتجلى المثقف العضوي كمهندس رمزي لكتلة تاريخية جديدة تتكوّن من المقهورين الذين يستعيدون أصواتهم عبر الفعل الثقافي. فالتغيير ينبت من التقاء الوعي بالجرح، ومن تحوّل الفكر إلى طاقة خلاص جماعي

غرامشي رأى أن الهيمنة تُمارس عبر الثقافة قبل أن تُمارس عبر القوة. لذلك دعا إلى تأسيس هيمنة بديلة تنبثق من الطبقات الشعبية عبر التعليم والإعلام والممارسة اليومية. هنا يتجلّى دور النخب في صياغة لغة جديدة للمقاومة تتجاوز الخطاب السلطوي وتُنتج مفاهيم حرّة للكرامة والمواطنة. فالمعركة التي تخوضها النخبة ليست سياسية فحسب، بل أنطولوجية أيضًا، تتعلّق بسؤال الوجود الإنساني ذاته: من يملك الحق في تعريف الإنسان؟ من يصوغ مفهوم المواطنة؟ من يمنح الشرعية للكرامة؟

التحدي أمام النخب المعاصرة يكمن في تجاوز الترف النظري والانتقال نحو الفعل الميداني. النخبة التي تنخرط في قضايا الناس تخلق الأثر الأعمق، والمثقف الذي ينزل إلى الشارع ويتفاعل مع الأحياء الشعبية يُحرّر المعرفة من عزلتها. في زمن تغزو فيه وسائل التواصل كل بيت، ينهض المثقف ليجلس إلى طاولة العامل، واللاجئ، والطالب، والأم، ويحوّل اللغة إلى خبز مشترك.

المثقف الغرامشي يزرع الأفكار في الحقول، يصوغ الحسّ المشترك ليصبح حسًّا سليمًا، ينقّي الفكر من الركام الأيديولوجي، ويقود نحو وعي نقدي يفتح الطريق أمام تحالفات إنسانية عابرة للطوائف والحدود. النخب تمارس وظيفتها كضمير حيّ يُعيد التوازن بين المعرفة والعدالة؛ بين اللغة والسلطة؛ بين التاريخ والمستقبل.

في زمن تتقاطع فيه المآسي بين ضفة المتوسط وضفاف السياسة، يتجلى المثقف العضوي كمهندس رمزي لكتلة تاريخية جديدة تتكوّن من المقهورين الذين يستعيدون أصواتهم عبر الفعل الثقافي. فالتغيير ينبت من التقاء الوعي بالجرح، ومن تحوّل الفكر إلى طاقة خلاص جماعي. النخب التي تعي هذا المعنى تبذر في الوعي بذور الاستفاقة، وتبني من الفكر جسدًا يقاوم النسيان والإقصاء.

حين تنضج النخب وتتواضع أمام الواقع، يتحول الفكر إلى طاقة تَحرّر تَفتح الأفق أمام ولادة إنسان جديد، يكتب تاريخه بالعقل والعاطفة معًا، ويجعل من الثقافة فعل وجود، ومن الوعي طريقًا نحو العدالة.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  أنجيلا ميركل.. "خاتمة الكبار" في أوروبا
عبد الحليم حمود

رئيس تحرير مجلة "بوليتيكا"؛ روائي وفنان تشكيلي لبناني

Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
online free course
إقرأ على موقع 180  نحن كائنات جميلة.. ويلزم أن نكون أشراراً