في غزة.. الهوية أقوى من الدمار

في قطاع غزة، لم يقتصر الدمار على الجدران، بل طال الروح والذاكرة والمكان. الاحتلال هجّر نحو مليونَي فلسطيني، وهدم بيوتهم ومسح أحياءهم، في جريمة ممنهجة استهدفت استقرارهم النفسي وارتباطهم بالأرض. لم تعد العودة تعني الرجوع إلى المنزل الخاص بل إلى فراغ. في "العِرقبادة"، تحوّل الوطن إلى ركام، وتحولت الخيام إلى ملاذٍ مؤقت، بينما تظلُّ الهوية عصيّة على الهدم.

كان يحمل على ظهره المقسوم القليل من المتاع، وقطرات من الماء بالكاد تكفي عطش يوم واحد فقط. وكانت تمشي خلفه أمٌ أنهكها التعب، استشهد زوجها قبل عام، وهُدم بيتها، تحتضن طفلها الصغير، وتمد يدها الأخرى لطفلتها التي تكبره قليلاً، تبكي ولا تدري من أي وجع تبكي.

يمر شيخٌ طاعنٌ في السن، يجرّ زوجته المرهقة، فيأتيه العونُ من رجل كهلٍ، قدم من طرف الطريق الممتد على طول الساحل الجنوبي، على بعد 40 كلم من جنوب يافا، يمدُّ يد المساعدة بينما لحيته المهملة تروي ماضياً رأى فيه أياماً أفضل، وكان فيه وجههُ أكثرَ إشراقاً قبل أن يمرّ عليه جفاف الحرب.

آلاف المشاهدٌ تتكررُ، مرسومة بزيت الدموع، محفورة على وجوه مليونَي نازح فلسطيني، عادوا إلى “لا بيت”، و”لا حارة”، و”لا غرفة نوم”، و”لا مطبخ يُعد فيه طعام الغائبين”. لقد فقدوا كلّ شيء: راحة الجسد، طمأنينة النوم.. وحتى روتين الحياة اليومي. نحلت أجسادهم، وجاعت أمعاؤهم، وجفّت أعينهم من شدة البكاء. لم يبق لديهم مكان يحفظ ولو شيئاً من الخصوصية، فلا عمل ولا قدرة على ممارسة أبسط النشاطات البشرية. لم يُبقِ الاحتلال على مدرسة ولا جامعة ولا مقهى ولا أي مكان للترفيه.. إذا كان هناك من مجال لهكذا رفاهية.

برغم كل ما فُقد، بقيت الحقيقة واضحة: لم يُهدم “البيت القومي” للفلسطينيين. صحيح أن الاحتلال نسف البيوت الصغيرة، لكنه لم ولن ينجح في قتل الأرض، البحر، والانتماء. الفلسطيني ليس بحاجة إلى العودة إلى بيته الخاص ليبدأ من جديد، فالوطن أوسع من الجدران

هدم المنزل.. هدف العرقبادة الأول

في جريمةٍ ممنهجة واستهداف مباشر لبنية الحياة الفلسطينية، شنّ الاحتلال الإسرائيلي، طوال عامين متكاملين، حرب إبادة على قطاع غزة. دمّر المنازل، المحال، المكاتب، المدارس، حضانات الأطفال، المستشفيات، وحتى دور العجزة.. وكل ما ينبض بحياة هنا أو هناك.

لم يكن الهدم عشوائياً، فقد أرادوه احتفالاً لإرضاء النفوس والعُقول الصهيونية المريضة؛ كان جنود الاحتلال يهدمون المنزل بهدف تقديم الركام كـ”هدية” عيد ميلاد لطفله أو زوجته أو حبيبته.. حتى أن بعض نشرات الأخبار العبرية تعلق على خبر اتفاقية وقف إطلاق النار بصورة تصف عودة النازحين الفلسطينيين بعنوان: “عائدون إلى لا مكان”.

وتعرف عقول الحركة الصهيونية أن هدم منزل لا يعني فقط سقوط الجدران والأسقف، بل محاولة لتحطيم رموز الانتماء والأمان والاستقرار، ونسف الذاكرة، وكل ما يتعلق بذكريات الطفولة واللقاءات العائلية.. وتعرف شدَّة الصدمة النفسية التي يعانيها الغزاويون جراء ذلك، خصوصاً الأطفال منهم وكذلك العجائز. إن الصهاينة، بتدميرهم لمنازل الغزيّين، قد سعوا إلى نسف حتى رائحة القهوة ولون الشرفات وشمس الصباح، أرادوا إبادة جيل وجعل من بقي على قيد الحياة إما معاقاً جسدياً أو مريضاً نفسياً.

الهوية أقوى من الجدران

كتب لي صديقي، قبل أن يُهجَّر قسرياً، من منزله في غزة، يقول: “أُجبرنا على الرحيل. قبّلنا جدران ما تبقى من بيوتنا، والتي كنّا رمَّمناها بعد القصف الأول والنزوح الأول. تركنا أرواحنا معلقةً على عتبات الديار وشرفاته وأبوابه وشبابيكه.. النزوح يشبه نزع الروح من الجسد، يا صديقي”.

بعد أسبوع من رسالته، سقط المبنى بالكامل. انتهى كل شيء. هذا الفقد العنيف أثّر على الجميع: اكتئاب، قلق، كوابيس، عزلة، سلوكيات عدائية أو انطوائية لدى الأطفال، وتراجع في القدرة التعليمية والاجتماعية. أصبح الفلسطينيون بلا مأوى، بلا شبكة دعم، بلا حي أو سوق أو جامع. حتى المساجد، والكنائس، والمعالم التاريخية لم تسلم.

ما حصل لم يكن فقط استهدافاً للأجساد، بل كان نسفاً ممنهجاً للمكان والذاكرة، للمكوّن المكاني من الهوية الفلسطينية. أراد الاحتلال جعل غزة غير صالحة للحياة، ليس فقط بالحصار، بل بقتل الشعور بالألفة والانتماء. أصبح الغزاويون يعيشون في خوف وتوتر دائمين لعدم استطاعتهم معرفة توقيت عودتهم إلى مأوى- أي مأوى. لقد تعمَّد بنيامين نتنياهو أن يهدم منازل الغزاويين على طريقة “السلامي” (بالتقسيط مثل شرائح إصبع لحم المارتديلا). لقد استمتع بتدمير كل ما يرمز إلى حضارة الفلسطينيين، من جامعات ومراكز ثقافية، إلى مساجد وأسواق وكنائس، وكان يتلذذ بتعذيب الفلسطينيين بشكل ساديّ عبر سلخهم عن الأماكن ذات القيمة الثقافية والأثرية والرمزية (النازيون أنفسهم امتنعوا عن قصف المعالم الثقافية والتاريخية، عندما كانوا يحتلون باريس ولندن، إبان الحرب العالمية الثانية). نتنياهو أراد إنهاء القضية الفلسطينية برمتها من خلال جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العِرقي وتهجير أكثر من مليوني فلسطيني وتسوية قطاع غزة بالأرض.

لقد فعل نتنياهو كل هذا- وأكثر، ومارس العرقبادة لجعل قطاع غزة “مكاناً غير صالح للحياة، وليصيب الغزيين بالاكتئاب وفقدان الأمل في المستقبل. لكن ما يشعر به الغزاويون اليوم، وبعد مشاهدتهم لكل ما حلّ بهم في العِرقبادةُ، هو الظلم والغضبٌ والكراهية، فهل يمكن أن يكون للسلام مكان بعد العِرقبادة؟

إقرأ على موقع 180  خياراتُ إسرائيل في غزة كُلّها سيئة.. من الفلوجة إلى ماريوبول!

جراحٌ لن تلتئم

هذه المعاناة جراء العرقبادة تترك ندوباً نفسية قاسية على مستوى الجماعة، قد تبقى آثارها لعقود: من اضطراب ما بعد الصدمة، إلى فقدان الشعور بالسيطرة، إلى الانهيار التدريجي لشبكات الدعم الاجتماعي. كلُّ هذا يحدث وسط حصارٍ مُحكم وضغط التهجير المستمر، وظروف معيشية صعبة جداً.. حتى الخيام لا تستوفي أدنى المعايير المطلوبة.

وقد نشهد لدى بعض شرائح المجتمع الفلسطيني تفككاً للروابط الاجتماعية نتيجة نسف عائلات كاملة من السجل السكاني وفقدان الأصدقاء والأقارب. فالهدم أدى إلى التهجير والانتقال مراراً إلى أماكن جديدة غير صالحة للسكن، مما يفكك شبكات الدعم الاجتماعي والعائلي. وهذا بدوره يزيد من الشعور بالعزلة والوحدة، ويؤثر على العلاقات الاجتماعية، ويزيد من التوترات في المجتمع.

قال لي صديقي من جنوب غزة، بعد إعلان اتفاق الهدنة: “نحن في خيمة. بيتُنا لم يعد موجوداً. لا أعرف أين سنعيش، أو كيف سأحمي أطفالي. هم يبكون غرفهم، كتبهم، ألعابهم، ملابسهم، صورهم.. وحتى الروائح التي كانوا يألفونها في بيتهم”.

برغم كل ما فُقد، بقيت الحقيقة واضحة: لم يُهدم “البيت القومي” للفلسطينيين. صحيح أن الاحتلال نسف البيوت الصغيرة، لكنه لم ولن ينجح في قتل الأرض، البحر، والانتماء. الفلسطيني ليس بحاجة إلى العودة إلى بيته الخاص ليبدأ من جديد، فالوطن أوسع من الجدران.

الوطن هو الأرض والهوية. هو الانتماء. هو التراب. هو الصعتر. أما الاحتلال فهو الصواريخ العابرة التي مهما قتلت منّا سنبقى نحن نحن- من زيتٌ، ومن دم وترابٌ وصعتر. وبرغم جريمة العِرقبادة، سيبقى الفلسطيني متشبثاً بما تبقى من ذاكرة، وبما لم يستطيعوا هدمه: الإرادة.

Print Friendly, PDF & Email
مكرم خُوري - مَخّوُل

أكاديمي فلسطيني – بريطاني مقيم بإنكلترا

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  "الحريديم" و"كورونا": التوراة تحمينا!