لماذا لا يموت نداء “تحيا الجزائر.. تحيا الجزائرُ والعَرَب”؟

أعتقد بصدقٍ أنّ مُكوثي في باريس لسنوات طويلة، بالنّسبة إلى سنّي الحاليّ.. قد أعطاني الكثير الكثير، لا سيّما على المستوى الثّقافيّ والفكريّ. ولا أبالغ بتاتاً إذا ادّعيت أنّ من أحلى وأطيب وأعمق ما وهبني ايّاه هذا المُكوث، هو التّعرّف على العامل المغاربيّ - بمختلف تجلّياته - ضمن ثقافتَنا الاسلاميّة والعربيّة. حقّاً، أدين بالكثير لإخوتي المغاربة، وعلى مستويات متعدّدة، لا أعتقد أنّ أيّ واحدٍ منها هو من النّوع المادّيّ في جوهره، إن صحّ التّعبير.

أمّا المستوى الأوّل، فهو روحيّ-عرفانيّ بامتياز، فلا يُمكن برأيي الإمساك بقلب ذلك العامل المغاربيّ السّالف الذّكر، من غير المرور بالزّاوية الصّوفيّة – المتجذّرة والمتمدّدة معاً – ضمن هذه الثّقافات وضمن هذه المجتمعات الشّقيقة.

وأمّا المستوى الثّاني، فله علاقة بتلك الأصالة الاسلاميّة العميقة والقويّة إلى أبعد حدود.. حتّى تكاد تخال أحياناً أنّ المغرب لَهُوَ مهد الإسلام الحقيقيّ، إن كان على المستوى الرّوحيّ أو على المستوى الثّقافيّ والقِيَميّ. وهذا المستوى يشمل كذلك الأصالة العميقة تجاه الثّقافة العربيّة: فبالرّغم من تجذّر العامل الأمازيغيّ تاريخيّاً واثنيّاً، تجد عند إخواننا المغاربة أصالة عربيّة -لغويّة وقيميّة بشكل خاصّ -عميقة إلى حدّ بعيد أيضاً.

وأمّا المستوى الثّالث، فهو ما يمكن اعتبار أنّه التّعلّق الصّادق والقويّ والعميق جدّاً، بل والثّوريّ ذي الغليان المستمرّ.. بقضايا المسلمين والعرب بشكل عامّ، وبقضيّة فلسطين وشعبها بشكل خاصّ، من دون نسيان قضايا تحرير وتحرّر بلادنا من الاستعمار بمختلف تجلّياته والتي تُعتبر “فلسطين” رمزها كلّها. حقّاً، هو تعلّق، بل انخراط، من النّوع الثّوريّ والقويّ جدّاً، وقد يبدو غريباً – وعنيفاً نسبيّاً في أحيان كثيرة – لبضع المشارقة والشّرقيّين.

وهذا الانخراط النّبيل والجميل والعميق جدّاً يأخذ طعماً مميّزاً عند إخواننا الجزائريّين بشكل خاصّ، على الأرجح بسبب الآثار المترتّبة على الثّورة الجزائريّة العظمى، هذه الثّورة المباركة على الاستعمار ومفاهيمه وأدواته وجيوشه.. وشياطينه أجمَعين.

نادراً ما التقيتُ بجزائريّين.. من دون أن أشعر بأخوّة إسلاميّة وعربيّة متجذّرة وعميقة. هي مشتركة مع جميع المغاربة واقعاً، ولكنّها تأتي عند الإخوان الجزائريّين مع طابعٍ ثوريّ بركانيّ متميّز ومميّز، ومع نخوةٍ عربيّة-أمازيغيّة لا مثيل لها في اعتقادي.

كيف أصف لك هذا الشّعور عن قرب، عزيزي القارئ؟

لا أعرف، في هذا المقام، خيراً من تذكّر واستذكار قصيدة وأنشودة “شعبُ الجزائرِ مسلمٌ، وإلى العروبةِ ينتسبْ”، بكلماتها وبألحانها. حقّاً وواقعاً، لا أعرف قصيدةً تختصر ظاهرة وَطنيّة وقِيَميّة وشَعبيّة وعَاطفيّة (واسلاميّة) معاً.. بل وتختصر قصّة شعبٍ بأسره ربّما، مثل هذه القصيدة.

فأمّا صاحبها فهو الشّيخ المصلح الاسلاميّ الرّئيس، الجزائريّ المجاهد عبد الحميد ابن باديس (ت. ١٩٤٠ م). وأمّا ملحنّها فهو الفنّان والمناضل والكادر الجزائريّ، الأمين بشيشيّ (ت. ٢٠٢٠ م)[1].

كم أحبّ الاستماع إلى هذه الأنشودة متى استطعت وأينما استطعت، وكم كنت أستمع اليها عندما كان يغمرني هذا الشّعور الذي تحدّثت لك عنه في ما سبق حول الاخوة المغاربة والجزائريّين، وحول الجهد الدّعويّ الاسلاميّ بشكل عامّ من دون اغفال النّضال القوميّ العربيّ والعروبيّ – بمختلف أشكاله – أيضاً. قد تُمثّل هذه الأنشودة بصدق، كلماتٍ ولحناً: جزءاً كبيراً – وربّما أساسيّاً – ممّا نَشَأتْ نفسي عليه من قيم اسلاميّة وعربيّة وثوريّة وتحرّريّة، وممّا أعتقد أنّي ربّيت نفسي عليه لاحقاً.. من مفاهيم ومبادئ إسلاميّة وحركيّة وعروبيّة ومُقاوِمة.

الواقع أنّني، مع ذلك، أشدّ ميلاً وجدانيّاً وربّما فكريّاً إلى مناضل جزائريّ تاريخيّ آخر، لأنّه بالفعل أشدّ قرباً إلى النّزعة الصّوفيّة الإسلاميّة والعالميّة. ولأنّه أحد تلامذة الشّيخ الصّوفيّ الأكبر، وكبريت المعرفة الالهيّة الأحمر، محيي الدّين ابن عربي الطّائيّ الأندلسيّ (تلامذته غير المباشرين طبعاً).

أقصد هنا بالتّأكيد: شيخَ السّالكين، وإمامَ المجاهدين، ومنارَ المقاومين، وشعلةَ الثّائرين.. الأمير عبد القادر الجزائريّ الحَسَنيّ الهَاشِميّ (ت. ١٨٨٣ م).. حبيب الأحرار والمؤمنين.

ولكنّ قصيدة الشّيخ ابن باديس تمسّ صميم الرّباعيّة التي أنتمي إليها أيضاً، ولو على مستوىً وجوديّ ومعرفيّ مختلف، أي رباعيّة: العمل الحركيّ الاسلاميّ؛ العمل الاصلاحيّ داخل الفكر الاسلاميّ؛ النّضال الوحدويّ العروبيّ الطّابع؛ والجهد المقاوِم ضدّ الاستعمار وأدواته وعملائه.

هكذا بدأ القصيدةَ الأسطوريّةَ الشّيخُ الرّئيس، عبد الحميد ابن باديس.. فأنشد كأنّه يتوجّه إلى التّاريخ وإلى الأبديّة معاً:

شَـعْـبُ الْجَـزَائِـرِ مُـسْلِـمٌ / وَإِلى الْـعُرُوبَةِ يَـنْتَـسِبْ

فكأنّما أراد الشّيخُ الرّمزُ القولَ إنّ اسلام الشّعب الجزائريّ فطريٌّ، وأنّ هذا الأخير ونخبَه إنّما قرّروا الانتساب إلى “العروبة”، أي بقرار منهم، مع اعترافهم بالخلفيّات الاثنيّة الأخرى لأناسهم ولتاريخهم لا سيّما الخلفيّة الأمازيغيّة المحترمة والأصيلة. مع التّبسيط: الإسلام فطرة إذن، والعروبة قضيّة انتساب. حقّاً، كم أصاب ويصيب هذا القول حال شعبنا الجزائريّ الحبيب:

مَنْ قَــالَ حَـادَ عَـنْ أَصْـلِـهِ / أَوْ قَــالَ مَـاتَ فَـقَـدْ كَـذَبْ

حاد عن أصله؟ مات؟ من يعرف شعبنا الجزائريّ والمغاربيّ، لا يُمكن إلّا أن يُعقّب في قلبه، بعد الاستماع إلى هذا البيت: واللهِ، لقد كذب!

أَوْ رَامَ إِدْمَـاجًـا لَـهُ / رَامَ الْـمُحَـالَ مِنَ الطَّـلَـبْ

إدماجٌ لشعبٍ مثل هذا الشّعب، من خلال إخراجه عن هويّاته الرّوحيّة والدّينيّة والقوميّة والوطنيّة، كما أراد الاستعمار، فهذا هو المُحال: ألا إنّ هذا هو المُحالُ من الطَّلَب!

تذكّرْ عزيزي القارئ أنّ ابن باديس قد نظم هذه الأبيات قبل اندلاع الثّورة الجزائريّة الكبرى بسنوات.

إقرأ على موقع 180  يوسي بيلين و"الكرَم الملكي" في المغرب!

يَـا نَـشْءُ أَنْــتَ رَجَــاؤُنَـا / وَبِـكَ الصَّبَـاحُ قَـدِ اقْـتَرَبْ

خُـذْ لِلْـحَـيَــاةِ سِـلاَحَهَـا / وَخُـضِ الْخُطُوبَ وَلاَ تَهَبْ!

المقاوم المؤمن، ذو الثّقة بالله وذو التّوكّل والتّسليم، لا يرى أمامه، في حقيقة الأمور، إلّا صباحاً يقترب.. مهما كثر الضّجيج ومهما كثرت الضّربات الجزئيّة هنا وهناك، ومهما تراكمت التّضحيات: يُعِدُّ لمختلف تحدّيات الحياة سلاحَها المناسب، ويخوض الخطوب والمعاناة ولا يخافُ المستعمرين وتفوّقّهم المادّيّ المؤقّت، ولا يخافُ أقوال المُرجِفين والمستسلمين والرّاكعين والمهوّلين والمشوّشين من أهل وطنه ومن العرب ومن العجم أجمعين. لذلك يقول شيخ المقاومين المجاهدين الاصلاحيّين، والمتأثّر بصاحبَي مشروع “العروة الوثقى”، أي السّيّد جمال الدّين الأفغانيّ والشّيخ محمّد عبدو ومختلف تلامذتهم:

وَارْفَـعْ مَـنَـارَ الْــعَـدْلِ / وَالإِحْسَانِ وَاصْدُمْ مَنْ غَصَبْ

وَاقْـلَعْ جُـذُورَ الْـخَـائِـنِـيـنَ / فَـمِـنْـهُـمُ كُـلُّ الْــعَـطَـبْ!

ويُكمل هذا النّشيدُ الثّوريُّ الأسطوريُّ ثورَتَه، فيصيح:

وَأَذِقْ نُـفُوسَ الـظَّـالِـمِـينَ / سُـمًّـا يُـمْـزَجُ بِالرَّهَـبْ

وَاهْـزُزْ نُـفُـوسَ الْجَـامِدِينَ / فَرُبَّـمَـا حَـيَّ الْـخَـشَبْ!

هل سيحيى في بلادِنا هذا الخَشَب، وهل سيتحرّك يوماً أهلُ هذا الخَشَب؟ أأرضٌ تُحتلّ، وبلادٌ تُقسّم، وثقافاتٌ تُحارب، وهويّاتٌ تُغتصب، ودُولٌ وجيوشٌ تُستعمر.. ويَظلُّ يَحكم ويُنظّر بيننا أهلُ هذا الخَشَب وأهل هذا العقل أخي العَطَب؟

مَنْ كَـانَ يَبْغِـي ودَّنَـا / فَعَلَى الْكَـرَامَــةِ وَالـرَّحَبْ

أوْ كَـــانَ يَبْغِـي ذُلَّـنـَا / فَلَهُ الْـمـَهَـانَـةُ وَالْـحَـرَبْ!

إنّما هذه لازمةٌ قائمةٌ دائمةٌ عند أغلبيّة أهلنا الجزائريّين السّاحقة: فما أعظم كرمهم ومحبّتهم وترحيبهم مع من كان يبغي ودّهم.. والويل كلّ الويل، لمن يُفكّر في مجرّد محاولة اذلالهم!

ثمّ إنّ لسان حال المقاومين والثّائرين واحد في الجزائر وفي جميع بلادنا إلى اليوم: أيّها المستعمرون، أيّها المحتلّون، أيّها المستكبرون؛ ويا أيّها المتخاذلون والمتآمرون من بلادنا أيضاً: لا والله لن نُعطيَكم بيدنا اعطاءَ الذّليل، ولن نُقرَّ لكم اقرارَ العَبيد!

هَـذَا نِـظَـامُ حَـيَـاتِـنَـا / بِالـنُّـورِ خُـطَّ وَبِاللَّـهَـبْ

حَتَّى يَعُودَ لِـقَوْمِـنَـا / مِنْ مَجْــدِهِمْ مَــا قَدْ ذَهَبْ

إنّه نداء النّهضة والإصلاح والمقاومة والتّحرير، لنخطّ جميعاً نظامَ حياةٍ ومنهاجَ عملٍ.. بنور العقل والعلم، وبنار السّلاح أبي الرّصاص واللّهب.

ثمّ يختمُ الشّيخُ الثّائرُ الرّئيسُ بوصيّته التّاريخيّة وشبه الأسطوريّة:

هَــذَا لَكُمْ عَـهْــدِي بِـهِ / حَتَّى أُوَسَّــدَ فِي الـتُّـرَبْ

فَــإِذَا هَلَكْتُ، فَصَيْـحَـتِـي / تَحْيـَا الْجَـزَائِـرُ وَالْـعَـرَبْ!

هذا ما وصّى به الشيّخُ العالمُ المجاهدُ ابنُ باديس أبناءه من الشّعب الجزائريّ العظيم، ومن خلالهم أبناءه من الشّعوب العربيّة والاسلاميّة.

وهذا ما أوصّانا به أهلنا، وهذا ما سنوصي به أنفسَنا وأبناءَنا، ولو كرهَ المستسلمون والمتخاذلون والمُرجِفون والنّائمون.. ولو كره المُشوّشون:

تَحيا الجزائر، تَحيا الجزائر

تَحيا الجزائرُ،

وكلُّ المغاربِ..

وفلسطينُ والعَرَبْ!

[1] مقطع تاريخيّ جميل، يظهر فيه الشّيخ ابن باديس نفسه:

https://www.youtube.com/watch?v=xDXsVcgBLbE

 

 

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  أفغانستان بين بلاء الجغرافيا.. وبهاء التاريخ