كل ما نعرفه أن شابا، في الخامسة والثلاثين سقط على منكبيه ما لا طاقة لرجل عادي أن يحمله: جريمة اغتيال هائلة، صنعت هزة أرضية، حرفيا، في بيروت، وهزّت كل ما كنا نظنه ثابتا لا يتغير. السيطرة السورية. حزب الله. إميل لحود. رستم غزالي. نظام أمني لبناني متماسك يُرمى بأركانه، لاحقا، دفعة واحدة في السجن. حالة عالمية من الاهتمام والضغط.. ٨ آذار. ١٤ آذار. إلخ.
الشاب الذي لم نعرف عنه شيئاً قبل الاغتيال، وإلى ما بعد الدفن، وصوت بهاء الآتي من زمن قريش، “يا قوم.. يا قوم” كان مجهولا تماما. لا أحد سيذكر الآن متى حكى سعد الحريري للمرة الأولى، لكن الأثر الباقي منه هو لهجته الهجينة بين صيداوية عتيقة، وبين خليجية، وضمنهما الكثير من التلعثم والخجل، لشخص نام إبن رفيق الحريري، بكل ما حمل هذا الأسم، من حجم ومن تاريخ، مذ تسلم رئاسة الحكومة للمرة الأولى، واستفاق على دم الشخص نفسه، وعلى القنبلة شبه النووية التي رميت على الأب والشخصية الكبيرة في آن واحد عند كورنيش بيروت البحري، وعلى أسماء تطايرت في مخيلته: بشار الأسد، حسن نصر الله، نبيه بري، وليد جنبلاط، البطريرك صفير، ميشال عون، سمير جعجع، إميل لحود، الخامنئي، الملك عبد الله بن عبد العزيز، جورج بوش، جاك شيراك..
كان يحتاج إلى صف جامعي في مقدمة للسياسة اللبنانية، بديهياتها، ألف باء قذارتها وقسوتها اللتين لا توصفان. لكنه لم يمتلك مثل هذا الترف. رُمي في الواجهة. وعلى الرغم من كثرة الأباء والأمهات الذين أحاطوا به من اللحظة الأولى، كان عليه، وحده أن يتخذ القرار في نهاية المطاف. هذا كله يقع ليس في خانة الإرث، بل في خانة الحظ السيء.
كل هذا الإرث كان شديد الثقل عليه. بدءا من البدلة العملاقة التي كان يرتديها الأب نفسه، بعلاقاته اللبنانية والسورية والعربية والعالمية، وبما حاكه من نسيج سياسي اقتصادي لطموحه ولما يريده لبلده لبنان.
لكن أثقل ما ورثه عن أبيه، هو ما لم يحققه الأب في حياته، توحد السنة خلفه
رفيق الحريري، كحالة، كان على درجة هائلة من التعقيد، وإرثه، مضافا إليه إغتياله، كان أشد تعقيدا بمراحل. كل هذا رُمي فجأة في حضن شاب غير مجرب. لم يتح له الوقت لأن يتدرج في هذه اللعبة، التي تكاد تكون الأصعب، حيث ممارسة السياسة قد تنتهي بقتل السياسي نفسه. المعجم لا يقرأ دفعة واحدة، لكن هذا ما كان مطلوبا من سعد الحريري. أن يفهم الحلفاء والخصوم والأعداء والمحيطين بوالده، صحافيين ومفكرين واقتصاديين وفيهم الكثير من المنتفعين والانتهازيين، وأن تكون حصته من الورثة، مؤسسات لم تكن تدر ربحاً، بل على العكس، مجرد أورام تستنزف الثروة في سبيل السياسة. أورام، كانت السعودية السابقة، دائما مستعدة لتحمل أعبائها، لكن أي سعودية بعدها لم تعد مهتمة بها. لكن أثقل ما ورثه عن أبيه، هو ما لم يحققه الأب في حياته، توحد السنة خلفه، الطائفة الأكبر، والتي لم تكن قد توّحدت حول أحد غير سعد الحريري في تاريخها اللبناني قبل اغتيال الحريري، وكيانية لبنانية لا مثيل لها في تاريخ هذا الجمهور.
بكل هذه الأحمال، دخل سعد الحريري إلى السياسة. غير المجَرِّب، اضطر إلى أن يخوض حربه، بالتجريب الذي يحتمل الكثير من الخطأ. تلعثم مرارا، وعلى الأرجح أنه، حين جلس، بعد شهور قليلة، إلى طاولة الحوار الشهيرة بينهم، لم يكن يعرف عن لعبة البوكر شيئا. أتى بنوايا حسنة، بعبارات الأب المثالية، وشعاراته الشعبية. كرر، صادقا ومؤمنا، ما كان الأب يقوله. الفارق هو أن الأب كان يجيد اللعب، الإبن لم يكن حتى مهتما بالتفرج على المباراة. لكن سعد الحريري، بعد ١٤ سنة، تعلم كثيراً.
تعلم، أول ما تعلم، أن يتواضع. عرف أن لبنان لم ولن ينتج زعيماً أوحد للبلد كله. هذه استحالة قد تكون من سوء حظ البلد البائس بطوائفه، كما أنها قد تكون، بالنسبة نفسها، من حسن حظه. أثقل ما أورثه رفيق الحريري كانت هذه الفكرة الطموحة عن زعامة عابرة للطوائف. قناعة سعد الحريري بالاستحالة خففت عنه أول وأصعب ثقل. إعمار لبنان، وضعه اقتصاديا في مصاف دولة مثل الإمارات، تحييده عن صراعات الشرق الأوسط الأبدية، صنع صورته كبلد شبه غربي في الشرق، كل هذه الأوهام التي عجز رفيق الحريري عن تحقيقها، تحرر منها سعد الحريري تباعاً.
استبدل سعد الحريري، ببطء لكن بثبات، المثالية بالواقعية. لا أحد في لبنان يُلغي أحدا، ولا سقف للزعامة إلا سقف الطائفة أو جزء منها فقط، والسياسة اللبنانية سوقٌ، من حضرها باع واشترى. ليس عليه أن يحل مشاكل لبنان العالقة منذ الأزل، أو على الأقل منذ نهاية الحرب. القطاع العام ليس مشكلته. التعليم. الاستشفاء. المواصلات. مياه الشفة. الطاقة. اليد العاملة. حقوق النساء. قانون الأحوال الشخصية. البديهيات. أقل البديهيات. لماذا يتحمل كل هذا؟ يكفيه فخرا أن الطائفة التي انفضت من حوله، لم تتطرف ولم تتسلح ولم تعلن الحرب على الآخرين. يكفيه فخرا أنه واحد من رؤساء الحكومات، الذين مثلهم مثل رؤساء الجمهورية، لم يصنعوا فارقاً يذكر.
سعد الحريري، بعد سنوات من الإنكار ومن النوايا الحسنة، تواضع وجلس إلى الطاولة، واتقن، كغيره، مهارات اللاعب المحترف في تجميد ملامحه للحفاظ على وجه البوكر. تخفف من كل ذاك الإرث الثقيل. صار سياسيا تقليديا كما البقية. انضم إلى النادي. إبتسم، إذ اكتشف أنه في لبنان.