المَفرقُ اسمُ مكان من الفعل فَرَق وجَمعه مَفارِق، وهو مَحلٌّ تتباعد فيه المُتلازِمات، ومَوضِع تتشعَّب لديه الطُرق. الفاعلُ فارقٌ بكسرِ الرَّاء والمَفعول به مَفروقٌ بفتحها، والمَصدَر فَرْقٌ بتسكين حرفِ الراء، أما الفعل “فارَق” فيأتي في المعاجم بمعنى ترَك وغادَر.
***
ظهور الشُّعيراتِ البيضاءِ في مَفرِق الشَّعر بالرأس علامة بارزة؛ تعلن انقضاءَ فترةٍ مُثمَّنة من العمر. الأبيضُ عند غالبية النساءِ فاجعة تستوجِب الهُروب بأي وسيلة؛ لكنه مجرد لون لا يأبه له كثير الرجال، بل وقد يَبعَث فيهم وَقارًا وهَيبة، وفي فيلم “العذراء والشَّعر الأبيض” المأخوذ عن قصة إحسان عبد القدوس؛ تلعبُ الخصلاتُ البيضاء في شَعر البَطل محمود عبد العزيز دورًا محوريًا؛ إذ تبدو عاملَ جَذْب لا يُقاوَم لدى مَجموعة مِن المُراهقات. الفيلم من إنتاج الثمانينيات ومن إخراج حسين كمال.
***
تتعدَّد تصفيفاتُ الشَّعر عند النساء والرجال على حد سَواء؛ قِصَر وطول، فردٌ وتجَعيد، عقصٌ وتَحرير، أصنافٌ وأشكال لا حصر لها. من الفنانين الذين جذبوا الأنظار بمظهر شعرهم؛ عماد حمدي، نجم الشاشة في وقته وصاحب مَفرِق الشَّعر الشهير الذي تحوَّل مقرونًا بنداء: “يا نينا” إلى لازمة يتذكرها الجمهور إلى يومنا هذا.
***
مُفارقة الأحباء ذات وقع أليم على النفس؛ سواء كان رحيلهم أبديًا أو حتى وَقتي، وفي وَصف الإحساس بوطأة الفُراق أنشد كثير الشعراءٌ قصائدهم ومن بينهم أبو الطيب المُتنبي: إني لأجبن عن فراقِ أحبَّتي.. وتحسًّ نفسي بالحمام فأشجع، والجَّواهري: وإني والشجاعةُ في طَبع.. جبانٌ في مُنازَلة الفِراق، وكذلك أبو الفوارس: أقاتل كلَّ جبَّارٍ عَنيد.. ويقتلني الفراقُ بلا قتال، والمعنى عند معظمهم واحد؛ إذ الفراقَ خطبٌ عظيم يَستعصي احتماله.
***
يقول المأثور الشعبيُّ الطريف: “خالتي وخالتك واتفرَّقوا الخالات”؛ والمناسبة مَوقف يختلف فيه اثنان ويستحيل معه المُضيّ قدمًا في سَبيلٍ واحد. القولةُ إشارةٌ لانتهاء الصلة التي جمعتهما؛ والمعنى ينطبق على دول وبلدان مثلما ينطبق على البشر، فكم من تحالفاتٍ انفصمَ عراها مع انقضاء المصلحة المشتركة، وكم من علاقاتٍ تفكّكت مع غياب حماتها وانهارت.
***
غنَّت ماجدة الرومي في فيلم “عودة الابن الضال”: “إيه العمل في الوقت دا يا صديق.. غير وإننا عند افتراق الطريق.. نبُص قدامنا..” إلى آخر الأغنية شديدة التميز. الفيلم ليوسف شاهين الذي شارك صلاح جاهين الكتابة، وبطولة سهير المرشدي وشكري سرحان، ومحمود المليجي، وقد أنتج في منتصف السبعينيات، ومثله مثل أغلب أعمال شاهين؛ نال وفرة من الإشادة والانتقادات على حد سواء؛ فالإغراق في استخدام الرمز يزعج قسمًا من الجمهور؛ لكنه أيضًا يثير خيال قسم آخر، يجد في محاولات الفهم والتأويل ما يُرضي نوازعه.
***
يفارق الواحد مرحلة الطفولة والمراهقة إلى مرحلة الشباب؛ لكن هذا الانتقال قد يبقى ظاهريًا، لا يوازيه تغير سلوكي ملائم. يبقى الشاب مُعتمدًا على ذويه، لا يتمكن من بناء حياة خاصة ولا من مُفارقة عائلته ماديًا، وتبقى المسئولية حكرًا على أبويه. الأزمة لا تتعلق بأسلوب التربية وحده ولا بسمات الشخصية، إنما بمجتمع يرحب ببقاء الولد في كنف الأسرة، ولا يرى في الأمر عيبًا أو نقيصة.
***
يقول الحسَين بن علي في خطبته الشهيرة: “الكلمةُ فرقانٌ ما بين نبيّ وبغيّ”، والقصد التنبيه إلى قيمة الكلام، فالقولة التي يتفوه بها المرءُ تكشف جوهره وتضع خطًا فاصلًا ما بين الصالح والطالح، ترفع النبيلَ العادِلَ وتفضح الطاغية المُتجبر.
***
إذ طال المقامُ بشخصٍ سَخيف لا تُحتَمل صحبته؛ قال الناس: فارقنا يا أخي؛ والعبارة تعكس ما انتابهم من زهق في وجوده وتفصح عن رغبتهم في الاستراحة من حضوره الثقيل. غادر مسؤولون كثر تلك القاعة الرحبة التي زارها رئيس الوزراء الإسرائيلي، معلنين نفورهم منه، وتفضيلهم مفارقة المكان عن الاستماع لخطابه الكاذب الممجوج. للاحتجاج وسائل متعددة؛ الانسحاب أكثرها تحقيرًا، بينما السُّخرية أعظمها إشفاءً للغليل ولنا فيها كمصريين باع طويل.
***
بعضُ القرارات فارقة؛ يتخذها المرءُ فتغير وجه حياته وتنقله إلى مساحة أرحب وأكثر سعادة، أو تتسبب له في خسارة فادحة، بعض العلامات أيضًا فارقة؛ يمكنها أن تحسمَ أمرًا غائمًا ما ظهرت، فإن غابت ظل مُضببًا، وفي الفلك أمثلة كثيرة وفي عالم الأمراض أيضًا أمثلة مشهودة.
***
حفظنا في سنوات الدراسة أجزاءً من معلقة عمرو بن كلثوم، ولم يزل بعضها عالقًا بالذاكرة حتى اليوم، وعلى رأسها تلك الأبيات التي تقول: “قِفي قبل التفرُّق يا ظعينة.. نُخبرك اليقينَ وتخبرينا.. قِفي نسألكِ هل أحدثت صَرمًا.. لوَشك البَين أم خُنت الأمينا”. الأبيات من بَحر الوافِر، وقيلت في غرَض المُصالحة بين قبيلتيّ تَغلب وبكر؛ لكنها لم تلق قبول عمرو بن هند، ملك الحيرة حينذاك؛ إذ لم توفِه ما أراد من مديح وثناءِ، والحق أن مدح الملوك وأصحاب السُّلطة والتزلف إليهم أمر لم يخلُ منه عصرٌ، ولا برأت منه حقبةٌ على مرّ الزمان، وكفى بالتمثال الذهبيّ – الذي تداولت صوره وسائل الإعلام في الآونة الأخيرة- نموذجًا دالًا على استمرار العادة القبيحة.
***
بعضُ المرَّات يُخيَّر الواحدُ ما بين أمرين؛ فإن استويا قال: “مش فارقة”، ربما عن عدم اكتراث حقيقيّ، أو عن غضبٍ وسُخط ما استوت الخيارات الطروحة على درجة واحدة من السوء. يستمع الناس لخطابات وردية وتصريحات واعدة ولا يكون رد الفعل سوى: مش فارقة. غياب الفارق هنا مبعثه كثرة ما سمعوا بلا طائل وما وعدوا به دون فائدة، ولا شكًّ أن الحديث المفارق للفعل لا قيمة له، وأن الوعود الطائرة في الهواء لا تبني ثقة ولا تقيم حكمًا مستقرًا.
(*) بالتزامن مع “الشروق“
