فنزويلا.. حربُ مخدرات أم تغيير نظام؟

تتسارع التطورات العسكرية في الكاريبي والهادئ حيث تقوم الولايات المتحدة بتعزيز تواجدها العسكري قبالة سواحل فنزويلا، وتستهدف أحياناً قوارب تقول إنها تحوي على شحنات مخدرات متجهة الى أراضيها.

لا اثباتات حتى الآن على حقيقة ما يُردّده الأميركيون، ولكن حتى لو كانت هذه القوارب تابعة لكارتيلات المخدرات، فإن العديد من المشرعين الأميركيين ومنظمات حقوق الإنسان والحقوقيين والقانونيين في العالم قالوا إن هذه الاجراءات غير قانونية لأنها بمثابة اعدامات ميدانية من دون أي محاكمات أو حقوق للمتهمين. هناك شكوك أيضاً بالرواية الأميركية وبقدرة هذه القوارب الصغيرة نسبياً على الوصول إلى المياه الاقليمية الأميركية.

هل هي قصة ممنوعات ومخدرات؟

تتفق دول العالم على محاربة آفة المخدرات وتجارتها وكارتيلاتها وأن تكون بعيدة عن شوارع مدنها وعن شبابها ومجتمعاتها. لكن الموضوع يتخذ هنا طابعاً سياسياً، إذ تستغله دول معينة لتبرير اجراءات معينة ضد دول أُخرى. مثلاً ما حصل في منطقتنا في العقد الأخير من كلام كبير عن موضوع تجارة الكبتاغون والمخدرات وبأن صناعته ترتبط حصراً بأطراف سياسية وأنظمة معينة ثَبُت أنه غير دقيق لأن هذا الموضوع استمر برغم تغيّر هذه الأنظمة وتراجع هذه المحاور. ما يعني أنه كان (وما يزال) على الأرجح مرتبطاً بوضع اقتصادي ومعيشي معيّن شجع بعض الناس (والمافيات) على السير بهذه التجارة المربحة وغير القانونية، أي أن القضية غير مرتبطة حصراً بأطراف سياسية محددة (مع أن هذه الأطراف قد تكون شاركت أيضاً بهذه التجارة عبر مجموعات قريبة منها).

ثم إذا كان هناك تجار يصنعون ويصدرون هذه الممنوعات إلى دول معينة، ألا يوجد أيضاً داخل كل بلد تجار ومافيات تشتري وتستورد من المصدر وتبيع للناس؟ لماذا لا يتم التشدد مع هؤلاء أيضاً بقدر التشدد مع الدول أو المجموعات المُصدّرة؟ مثلاً الولايات المتحدة نفسها التي تُعد من أكبر “الأسواق” العالمية للممنوعات لماذا لا تتشدد في التعامل مع مافيات وكارتيلات الداخل التي “تحكم” أحياناً أجزاء من المدن الأساسية وتؤثر حتى على الشرطة والقضاء، كما نرى في أفلام ومسلسلات هوليوود المستوحاة من قصص حقيقية منذ عقود من الزمن؟ أيضاً دول العالم الغنية لماذا لا تتعامل بالشدة نفسها مع الأغنياء وأصحاب الملايين والمشاهير والنافذين الذين يُقال بأنهم من أكثر وأكبر مستهلكي هذه المواد، لا بل إنهم يتحولون أحياناً إلى تجار لها في سهراتهم وتعاملاتهم الخاصة؟

ثم سياسياً، ألم تستخدم الولايات المتحدة في وقت من الأوقات بعض هذه الكارتيلات في مهمات سرية كما أُشيع في فضيحة مقاتلي “الكونترا” ودعمهم من قبل وكالة الاستخبارات الأميركية (سي آي إيه)؟

إن كان هناك من يريد معالجة موضوع المخدرات عالمياً فإن الأمر يحتاج الى مقاربات علمية وليس سياسية. أسبابه، خلفياته الاجتماعية والمعيشية والاقتصادية، كيفية المعالجة والتوعية، محاربة الكارتيلات العالمية مهما كانت توجهاتها أو تغطيتها السياسية (يمينية أو يسارية أو وسطية) ومهما كانت جنسياتها ودياناتها، لكن أيضاً محاربة التجار الداخليين في كل بلد حتى لو كانوا من الأغنياء والنافذين أو من المقربين من الحُكاّم وعائلاتهم. كل ذلك يأتي بالتوازي مع خلق مشاريع (اقتصادية) بديلة خاصة في دول الجنوب والعالم الثالث والتخفيف من العقوبات الأميركية لكي تتحرك عجلة العمل والسوق والاستثمار والاقتصاد الشرعي.

مخدرات أم اسقاط أنظمة؟

إذا عدنا إلى موضوعنا الأساسي، نجد أن عنوان المخدرات حجةٌ ترامبية للضغط على فنزويلا (وكولومبيا) وصولاً الى اسقاط نظام الجمهورية البوليفارية الذي أسّسه هوغو تشافيز. وهناك أعضاء من الكونغرس في واشنطن يقولون ذلك صراحةً، بأن الهدف النهائي هو اسقاط مادورو.

في موازاة ذلك، ينبري معارضون فنزويليون حاملين شعار اسقاط النظام البوليفاري، ومنهم المعارِضة ماريا ماتشادو الذي كان لافتاً للانتباه ومفاجئاً فوزها بنوبل للسلام برغم دعمها لحرب “اسرائيل” على غزة واشادتها المستمرة ببنيامين نتنياهو! هو اذن مسار عملَ عليه صقور الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ بداية الألفية تماماً كما فعلوا في حالات العراق، ليبيا وسوريا وكما يعملون اليوم في حالة إيران. اسقاط الأنظمة المناوئة للسياسات الغربية تحت حجج وتبريرات متعددة ومتنوعة من أسلحة الدمار الشامل إلى الديموقراطية والحرية وصولاً الى مكافحة المخدرات.

يقود ذلك للاستنتاج هنا أن ترامب يبتعد أكثر فأكثر عن قاعدته “الماغا” وأفكارها الرافضة لحروب واشنطن الخارجية ولاسقاط الأنظمة، وبالتالي صار يميل تدريجياً نحو الجناح الجمهوري (والديموقراطي) التقليدي، أي إلى الدولة العميقة في مواضيع السياسة الخارجية وحروبها التي لا تنتهي وانتاجها وبيعها للأسلحة الذي لا يتوقف. وهذه السياسة يمثلها حالياً ثعلب الادارة الأميركية وزير الخارجية ماركو روبيو الذي بدأ يتحول الى “كيسنجر جديد” على صعيد السياسات الأميركية الخارجية. روبيو، الكوبي الأصل، معروف (كما معظم مهاجري الولايات المتحدة من أصول لاتينية) بكرهه للأنظمة اليسارية في أميركا الجنوبية التي يتم ربطها جميعها بفيديل كاسترو وتشي غيفارا وبالأفكار التي ولّدتها ثورات أميركا اللاتينية ولا سيما الثورة الكوبية، حيث أن معظم مهاجري الولايات المتحدة من اللاتينيين هم أبناء وأحفاد مهاجرين “هربوا” من الأنظمة اليسارية التي تأثرت بكوبا في القرن الماضي.

إقرأ على موقع 180  معارك حلب والأمن الغذائي: هل يعود "الموطن الأصلي للقمح" إلى الحياة؟

لا ننسى أيضاً أهمية فنزويلا الغنية بالموارد الطبيعية، وأبرزها أكبر احتياطي نفطي في العالم، الأمر الذي يسيل له لُعاب الشركات الأميركية الباحثة عن أسواق جديدة للعمل فيها في العقود المقبلة بعد تراجع النفوذ في أفريقيا وزيادة حجم المخاطر في الشرق الأوسط. كما أن السوق الفنزويلية قريبةٌ جغرافياً، مما يُقلّل من كلفة انتقال العمال والتجهيزات.

أما كولومبيا فهي كانت شريك تاريخي للولايات المتحدة وقريبة سياسياً من واشنطن، حيث شكّل فوز غوستافو بيترو بالرئاسة منذ أعوام مفاجأة كبيرة وأول انتصار يساري في تاريخها الحديث. وقد تميز بيترو بخطابه الحاد ضد سياسات الولايات المتحدة والأطلسي وإسرائيل وبتأييد غير مسبوق في تاريخ حُكّام بلاده للفلسطينيين مع خطوات عملية بلغت حد قطع العلاقات مع إسرائيل في العام الماضي. هذا ما يُفسر حجم النقمة الأميركية على بيترو، وهو مسار تفاقمت فصوله بعد زيارته الأخيرة إلى نيويورك والقائه خطاباً “ثورياً” في الشارع أمام جمهور أميركي مؤيد للقضية الفلسطينية.

في الخلاصة، فتحت الولايات المتحدة جبهة خارجية جديدة في أميركا الجنوبية لا تقتصر مواجهتها على دولة أو إثنتين، فها هو الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا يُعلن رفضه للضغوط الأميركية حيث تشكل البرازيل الدولة الأبرز والأقوى في هذا الإقليم، إضافة إلى تضامن دول أخرى مع فنزويلا وكولومبيا. لكن وجود الأرجنتين حالياً في ظل حكم يميني (متطرف) وفوز الوسط في بوليفيا، بعد عقود من حكم اليسار، يُضعفان وحدة القارة في مواجهة الضغوط الأميركية المتصاعدة.. وحتماً يمتد التضامن ليشمل قارات ودول أخرى، لكن السؤال الكبير ما هو موقف روسيا والصين في حال تم الهجوم على الحليفة الفنزويلية؟

Print Friendly, PDF & Email
بلال الخوري

كاتب سياسي، لبنان

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  من القاهرة.. هنا غزة!