الطريقة التي يُعيد فيها الذّكاء الاصطناعيّ تشكيل الحياة اليوميّة للبنانيين هي ظاهرةٌ متناقضةٌ، فهو يمثّل من جهةٍ قوّةٌ دافعةٌ للابتكار الاقتصاديّ الموجّه نحو التّصدير والنّجاح الفرديّ، ومن جهةٍ أخرى، يضاعف من الفجوات الاجتماعيّة والتّعليميّة، ويعزّز الاستقطاب السّياسيّ، ويخلق مخاطر أخلاقيّة وقانونيّة جسيمة في ظل غياب أطر الحوكمة الرّشيدة.
يطمح لبنان لمواكبة التّحوّل الرقميّ في جميع القطاعات، بما في ذلك الحكومية. هذا النّصّ يحلّل كيف أنّ استخدام هذه التّقنيات المتقدّمة يتمّ “بشكلٍ متحايلٍ” على القيود الوطنيّة، مما يفرض نموذجاً خاصّاً ومجزّأً من الحياة الرّقميّة على المواطن اللبنانيّ.
إنّ الأساس الذي تُبْنَى عليه تطبيقات البيانات الضّخمة والذّكاء الاصطناعيّ هو البنية التّحتيّة الرّقميّة، التي لا تزال تعاني من الوهن في لبنان. ففي منتصف عام 2018، أُطْلِقَت خطةٌ وطنيّةٌ لتمكين الأسر والمكاتب من خدمات الإنترنت فائقة السّرعة عبر شبكات الألياف البصريّة (فايبر أوبتيك)، ولكن لم يُنْجَز من هذا المشروع سوى حوالي 35% بحلول نهاية عام 2019. أدّى الانخفاض السّريع في قيمة العملة المحلّيّة منذ ذلك الحين إلى عرقلة استكمال المشروع، مما حوّل الأزمة النّقدية إلى عائقٍ بنيويٍّ أمام استدامة التّحوّل الرّقميّ.
يُشير تحليل مؤشّرات الأداء الرّقميّ للعام 2024 إلى أنّ متوسّط سرعة الإنترنت الثّابت ما يزال منخفضاً، حيث يبلغ 9.39 ميغابت في الثّانية، ممّا يعرقل فعاليّة الخدمات المُعْتَمِدَةِ على البيانات الضّخمة المعقّدة. في المقابل، يبلغ متوسط سرعة الإنترنت عبر الهاتف المحمول 31.06 ميغابت في الثّانية، ما يدلّ على أنّ التّجربة اليوميّة للمواطن اللبناني الرّقميّ تعتمد بشكلٍ كبيرٍ على قنواتٍ متنقّلةٍ أقلّ استقراراً للاستخدامات المعقّدة.
الاستقطاب الاقتصادي
فاقمت الأزمة الاقتصاديّة من حدّة التّحدّيات الرّقميّة، حيث أدّت إلى هجرة “العقول البشريّة المعلوماتيّة”. على الرّغم من أنّ لبنان يمتلك الكفاءات اللّازمة ليكون لاعباً فاعلاً في الثّورة الرّقميّة، إلا أنّ هذه الكفاءات والشّركات النّاشئة غالباً ما تخدم أسواقاً خارجيّة لتحقيق الاستقرار الماليّ. هذا يمثّل “تأثير الطّرد المركزيّ” للكفاءات، حيث يتحوّل لبنان إلى بيئة تدريبٍ يتمّ “تصدير” كوادرها الرّقميّة لاحقاً، مما يحرم الاقتصاد المحلّيّ من القوّة الدّافعة للابتكار.
علاوةً على ذلك، أدّى تدهور الأوضاع المعيشيّة إلى تفاقم الفجوة الرّقميّة، إذ أصبح تحمّل تكاليف الأجهزة الحديثة والاشتراكات الشّهرية للإنترنت أمراً صعباً على الطّبقات ذات الدّخل المنخفض. هذا التّباين الاقتصاديّ والاجتماعيّ مؤدّاه أنّ فوائد التّكنولوجيا المتقدّمة، مثل الذّكاء الاصطناعيّ، لن تُوَزَّع بشكلٍ عادلٍ، مما يُسَرِّعُ من الاستقطاب الاقتصاديّ والاجتماعيّ.
وعلى الرّغم من القيود البنيويّة، يُظْهِرُ قطاع التّكنولوجيا الخاصّ مرونةً ملحوظةً. تعمل شركاتٌ ناشئةٌ لبنانيّةٌ، مثل نوتش Notch وكود نينجا CodeNinja وانتشار دوت كوم، على تطوير حلولٍ قائمةٍ على الذّكاء الاصطناعيّ تشمل الأتمتة، واستشارات الذّكاء الاصطناعيّ. تُقدّم هذه الشّركات خدماتٍ تخصصيةً لأسواقٍ دوليّةٍ، حيث تتراوح تكلفة المشروع النّموذجيّ بين عشرة آلافٍ وتسعةٍ وأربعين ألف دولار.
هذا الازدهار المحدود يعكس ظهور “اقتصاد الفقّاعة الرّقميّة”. تُحَقِّقُ هذه الشركات نموّاً كبيراً في الإنتاجيّة والإيرادات، ولكنها تعمل بمعزلٍ عن الاقتصاد النّقديّ المحلّيّ المنهار. هذا النموذج يؤدّي إلى إعادة تشكيل الحياة اليوميّة للمواطنين عبر خلق تفاوتٍ صارخٍ في الوصول إلى الثّروة والفرص.
طَفْرَةُ التّجارة الإلكترونيّة
شهد لبنان طفرةً في التّجارة الإلكترونيّة، مدفوعةً بالحاجة إلى حلولٍ بديلةٍ في ظلّ الانهيار اللّوجستيّ والاقتصاديّ التّقليديّ. يُعَدّ تبنّي تحليلات البيانات والذّكاء الاصطناعيّ أمراً بالغ الأهمية للشّركات لاكتساب ميزةٍ تنافسيّةٍ.
تعتبر منصّات التّواصل الاجتماعيّ، التي يستخدمها 3.15 مليون مستخدمٍ لفيسبوك في أوائل عام 2024، أدواتٍ مهمّةً لتعزيز التّجارة الإلكترونيّة. ففي ظلّ تدهور المتاجر التّقليديّة، تتحوّل التّجارة بشكلٍ متزايدٍ إلى هذه المنصّات التي تعتمد على الخوارزميّات لتوجيه المنتجات للمستهلكين. وعليه، فإنّ الخوارزميّة أصبحت وسيطاً يوميّاً لتوزيع الموارد والفرص الشّرائية، مما يثير تساؤلاتٍ جدّية حول شفافية التّسعير وحياديّة الوصول إلى المنتجات.
وأكّدت الدّراسات العالميّة أنّ الذّكاء الاصطناعيّ يمتلك القدرة على مضاعفة نموّ الإنتاجيّة أربع مرات في القطاعات الأكثر استعداداً لتبنّيه. في لبنان، أدّى اعتماد الذّكاء الاصطناعيّ في قطاعاتٍ مثل الخدمات الماليّة وتطوير البرمجيّات إلى نموٍّ كبيرٍ في الإنتاجيّة. في حين أنّ الوظائف تصنّف إلى فئتين رئيسيتين، وظائف “قابلةٌ للأتمتة” ووظائف “قابلةٌ للتّعزيز”. يتطلّب النّموّ في الوظائف القابلة للتّعزيز مستوًى عالياً من المهارات الرّقمية المفقودة لدى شريحةٍ واسعةٍ من اللّبنانيين، وهو ما أدّى إلى الحاجة لـمبادرات تدريبٍ دوليّة. وبدلاً من أن يكون الذّكاء الاصطناعيّ عاملاً لرفع المستوى المعيشيّ العام، فإنه يعمل كمسرّعٍ للتّفرقة بين العمالة ذات الكفاءة الرقميّة والعمالة التّقليديّة، مما يغيّر طبيعة التّنافس اليوميّ في سوق العمل اللبنانيّ.
تأثير النّخب
يُعَدُّ المشهد السّياسيّ والاجتماعيّ في لبنان من أكثر القطاعات تأثراً بالخوارزميّات والبيانات الضّخمة. تشير الأبحاث إلى أنّ 93.6% من المشاركين يرون أنّ للنخب الرّقميّة تأثيراً كبيراً أو ملحوظاً على توجّه الرّأي العامّ اللبناني. تعتمد هذه النّخب على آلياتٍ نفسيّةٍ واجتماعيّةٍ، مثل استخدام الخطاب العاطفيّ وإعادة تأطير القضايا، لتوجيه المواقف والسّلوكيات الجماعيّة، مستندةً إلى الإطار المفاهيميّ للذّكاء الاصطناعيّ في الخطاب السياسيّ اللبناني.
إنّ الخوارزميّة في هذا السّياق لا تقتصر على فلترة المحتوى؛ بل تعمل كبنيةٍ موازيةٍ للسّلطة السّياسيّة، حيث تضخّم الأصوات المستقطبة وتحدّد ما يراه المواطنون. هذا يعزّز الانقسام السّياسي ويؤثّر سلباً على إمكانيّة إيجاد حلولٍ توافقيّةٍ للأزمات الوطنيّة.
كما أظهرت نماذج الذّكاء الاصطناعي التّوليديّ، مثل Chat GPT، قدرةً تحليليّةً فائقةً على تفكيك الأزمات اللّبنانيّة المعقّدة واقتراح حلول. يتمثّل تأثير الذّكاء الاصطناعي على الحياة اليوميّة في هذا المجال في أنّه يكشف بوضوحٍ حجم الفشل السّياسيّ والإداريّ، حيث يرى المواطن أنّ آلةً قادرةً على تقديم خريطة طريقٍ واضحةٍ وقابلةٍ للتّطبيق، بينما تستمر الطّبقة السّياسيّة في الفشل، مما يزيد الإحباط وفقدان الثّقة.
الآمال.. والوقائع!
ويُظْهِرُ الذّكاء الاصطناعيّ إمكانيّاتٍ كبيرةٍ لتحسين الخدمات الأساسيّة، حيث يساهم في تحسين التّشخيص الطبيّ المبكّر وتسهيل التّعليم. كما ظهر دور التّكنولوجيا كأداةٍ أساسيّةٍ لإدارة الأزمات الإنسانيّة، ومن أمثلتها توظيف الذّكاء الاصطناعيّ لتمكين المجتمعات النّازحة بالمعلومات الصحّيّة” (HIBA). ومع ذلك، فإنّ هذه المبادرات تجمع بياناتٍ حسّاسةً في سياقٍ يفتقر إلى قوانين صارمة لحماية البيانات. وهذا يثير مخاوف جدّيّة، حيث إنّ الاستخدام اليوميّ لخدمات الذكاء الاصطناعيّ الصحّيّة يعرّض حياة النازحين واللّبنانيين الضّعفاء لخطر إساءة استخدام بياناتهم الضخمة بسبب الفراغ التّشريعيّ.
كما يشكّل دمج الذّكاء الاصطناعي في التّعليم تحدّياً كبيراً نظراً للقيود المزدوجة المتمثّلة في البنية التّحتيّة الهشّة ونقص المهارات. يشدّد الخبراء على ضرورة الانتقال في التقييم إلى قياس المهارات والكفايات، مثل التّحليل النّقديّ وحلّ المشكلات، بدلاً من النّظام التّقليديّ القائم على الحفظ والتّكرار.
غير أنّ هذه الطموحات تصطدم بواقعٍ صعبٍ؛ فضعف الإنترنت ونقص الأجهزة يعرقلان إدماج الذّكاء الاصطناعيّ بشكلٍ فعّالٍ، ممّا يؤدّي إلى إعادة إنتاج التّفاوت الاجتماعيّ والتّعليمي. لقد بدأت الجامعات في لبنان ببرامج لتدريب الأساتذة على دمج الذّكاء الاصطناعي بشكلّ عمليٍّ وأخلاقيٍّ في العمليّة التّعليميّة. ومع ذلك، فإنّ الذّكاء الاصطناعيّ يكرّس التّفاوت التّعليميّ، حيث أنّ التّفاوتات في الوصول والبنية التّحتيّة تعني أنّ المدارس والطلاب الأكثر ثراءً هم فقط القادرون على الاستفادة الكاملة من الذّكاء الاصطناعيّ، مما يزيد الفجوة الاجتماعيّة بدلاً من تقليصها.
الفجوة الرقمية
وتتجلّى الفجوة الرّقميّة في لبنان نتيجة تقاطع الفشل البنيويّ والاقتصاديّ على مستوياتٍ متعدّدةٍ، الفجوة الجغرافيّة بين المناطق الريفيّة والمدنيّة، والفجوة الاقتصاديّة والاجتماعيّة بسبب عدم قدرة الفئات ذات الدّخل المنخفض على تحمّل تكاليف الأجهزة والاشتراكات الشّهريّة للإنترنت، بالإضافة إلى فجوة المهارات بين الأجيال. إن الافتقار إلى الوصول الكفء يعرقل قدرة الشّركات الصّغيرة والمتوسطة على المنافسة أو الدّخول إلى السّوق العالميّة.
لمواجهة هذا العجز، تمّ إطلاق مبادرة “تعزيز المهارات في لبنان” (Skilling Up Lebanon) عام 2022، بتمويلٍ من البنك الدّوليّ وجهاتٍ دوليّةٍ مانحةٍ. يعكس الاعتماد على التّمويل الدّوليّ لسدّ الفجوة في المهارات و”تدويل تأهيل القوّة العاملة”، ممّا يؤكّد فشل الدّولة في وضع خطط تنميةٍ مستدامةٍ للكفاءات.
ويواجه المواطن اللبنانيّ تهديداتٍ جسيمةً بسبب غياب الأطر الأخلاقيّة والقانونيّة الشّاملة لتنظيم مجال الذّكاء الاصطناعيّ. يشير الخبراء إلى أنّ لبنان ما يزال بعيداً عن وضع إطارٍ قانونيٍّ متكاملٍ لتنظيم هذا المجال. هذا الفراغ التّشريعيّ يمثّل ميزةً تنافسيّةً ضارّةً لبعض الجهات، حيث يسمح للشّركات أو الجهات السّياسيّة باستخدام البيانات الضّخمة والخوارزميّات دون قيودٍ على الخصوصيّة أو المساءلة.
تظهر المخاطر المباشرة على الحياة اليوميّة للأفراد في تزايد انتشار الأخبار الكاذبة، وسرقة الهويّات، والتّأثير السّلبيّ على الأطفال في ظل غياب الضّوابط الصّارمة. لهذا، يشدّد الخبراء على ضرورة توجيه الذّكاء الاصطناعيّ نحو قيمٍ أخلاقيّةٍ صارمةٍ، وأن تكون المسؤوليّة والمساءلة وشفافيّة الخوارزميّات محور تطويره واستخدامه.
المستقبل الرقمي
لقد أعادت البيانات الضّخمة والخوارزميّات والذّكاء الاصطناعيّ تشكيل الحياة اليوميّة للبنانيين بشكلٍ عميقٍ ومزدوج التّأثير. فالذكاء الاصطناعيّ هو قوةٌ دافعةٌ للابتكار والإنتاجيّة في القطاع الخاص الموجّه للتّصدير، لكنّه يفاقم الفجوة الاجتماعيّة. والخلاصة هي أنّ الحياة الرقمية في لبنان تنقسم إلى واقعين: واقعٍ رقميٍّ غنيٍّ ومزدهرٍ وواقعٍ رقميّ محلّيٍّ هشٍّ وغير عادلٍ ومحفوفٍ بالمخاطر.
بناءً على هذا التّحليل، يمكن تقديم التّوصيات الاستراتيجيّة التّالية:
- الاستثمار اللامركزيّ في البنية التّحتيّة: إعطاء الأولويّة القصوى لاستكمال البنية التّحتيّة الثّابتة للألياف البصريّة، والعمل على نموذج شراكةٍ بين القطاعين العامّ والخاصّ لضمان التّمويل المستدام بعيداً عن تقلّبات العملة، مع التّركيز على المناطق الرّيفيّة.
- التّأهيل الرّقميّ الشّامل والعدالة التّعليميّة: إصلاحٌ جذريٌّ للنّظام التّعليمي لتبنّي كفايات الذّكاء الاصطناعيّ والتّحليل النّقديّ في المناهج، وضمان العدالة في الوصول إلى الأجهزة والإنترنت في جميع المدارس.
- الحوكمة الرّقميّة العاجلة وحماية البيانات: إنشاء هيئةٍ وطنيّةٍ مستقلّةٍ للذّكاء الاصطناعيّ والأخلاق الرّقميّة، ووضع تشريعٍ شاملٍ لخصوصيّة البيانات، وتحديد المسؤوليّة القانونيّة عن مخرجات الخوارزميّات وتطبيق بروتوكولات أمانٍ صارمةٍ.
