أثبت الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أنه لا يتوانى عن استخدام القوة العسكرية للولايات المتحدة لتنفيذ سياسته الخارجية، ولو أطلق على نفسه “رئيس السلام”، وانتقد أسلافه الذين ورطوا أميركا في “حروب أبدية” في الخارج. ومنذ أسابيع تستهدف المقاتلات والمسيّرات الأميركية، قوارب قبالة السواحل الفنزويلية في الكاريبي، بزعم انتمائهم إلى شبكة “ترين دي أراغوا”، التي تتهمها واشنطن بتهريب المخدرات، والمصنفة على لوائح الإرهاب.
وتثير هذه العمليات التي أسفرت حتى الخميس الماضي عن مقتل أكثر من 60 شخصاً، انتقادات من دول في الكاريبي ومن قبل خبراء الأمم المتحدة، مما يفقدها الشرعية القانونية. الضربات الأميركية امتدت الأسبوع الماضي إلى شرق المحيط الهادىء، مع تصاعد التوتر بين ترامب وكولومبيا، التي ينتقد رئيسها غوستافو بيترو سياسات البيت الأبيض في أميركا اللاتنية ومناطق أخرى من العالم.
وحتى أوائل تشرين الأول/أكتوبر الماضي، كان تحت تصرف القيادة الجنوبية الأميركية التي تشرف على العمليات في أميركا الوسطى والجنوبية، أكثر من 10 في المئة من أصول البحرية الأميركية. وسيعزز هذا الحشد بالحاملة “جيرالد فورد” ومجموعة السفن القتالية التابعة لها التي تضم 5 آلاف جندي، وبمقاتلات “إف-18 سوبر هورنت”، وصواريخ “توماهوك”. سيضاف هؤلاء إلى حشد حالي يضم عشرة آلاف جندي من “المارينز” على متن السفن المنتشرة حالياً قبالة السواحل الفنزويلية وفي بورتوريكو، أقدم محمية أميركية في الكاريبي، التي لطالما استخدمتها القوات الأميركية في شن الغزوات ضد دول في أميركا اللاتينية، بينما يجري جنود أميركيون مناورات في جزيرة ترينداد وتوباغو المحاذية لفنزويلا. ولاحظت مجلة “الأتلانتيك” الأميركية، أن هذا أكبر حشد للسفن الأميركية في الكاريبي منذ أزمة الصواريخ الكوبية في ستينيات القرن الماضي.
واسترعى الانتباه، انتشار القوات الخاصة الأميركية وفوج العمليات الجوية السرية، وهي القوات التي شكّلت رأس الحربة في الغزو الأميركي لبناما عام 1989 إبّان رئاسة جورج بوش الأب، وانتهت باعتقال الرئيس مانويل نورييغا، بتهمة الاتجار بالمخدرات. وتحلق قاذفات استراتيجية من طراز “بي-1″ و”بي-52” بمحاذاة الأجواء الفنزويلية. وذهب ترامب خطوة أبعد بتفويضه وكالة الاستخبارات المركزية “سي آي إي” شن عمليات داخل البر الفنزويلي.
الحشودات الأميركية عززت التوقعات بأن ترامب يعتزم اسقاط نظام مادورو بالقوة، أو حمله على التنازل عن السلطة، في وقت تزداد الأزمة الاقتصادية سوءاً، مع توقعات ببلوغ التضخم 270 في المئة بحلول نهاية السنة الجارية، وفق تقديرات صندوق النقد الدولي.
عملية برية أم جوية؟
ويميل الكثير من المحللين، إلى الاعتقاد بأن ترامب يتجه إلى استخدام القوة ضد النظام في فنزويلا، وليس الاكتفاء بممارسة الضغط على مادورو للدخول في مفاوضات مع واشنطن. وسبق أن رفضت واشنطن عرضاً سخياً من كراكاس بتسليم الولايات المتحدة جزءاً من صناعة النفط الفنزويلية. ويصف ترامب مادورو بأنه “تاجر مخدرات” وبأنه يرعى تهريب الفنتانيل إلى أميركا، علماً أن هذه المادة كما يعلم الجميع مصدرها المكسيك، وليس فنزويلا، ورصدت السلطات الأميركية جائزة بقيمة 50 مليون دولار لمن يدلي بمعلومات تقود إلى اعتقال مادورو.
قد يكون روبيو، وهو ابن مهاجرين كوبيين إلى الولايات المتحدة، مدفوعاً بمزيج من الإيديولوجيا والطموح السياسي. ويعرف عنه منذ سنوات موقفه المعارض لمادورو ولسلفه هوغو تشافيز، بسبب الدعم المالي والنفطي الذي قدمته كراكاس لهافانا. ومن المرجح أن تكون شهية روبيو مفتوحة للترشح للرئاسة في العام 2028 لأن الدستور يحظر ترشح ترامب لولاية ثالثة، وهو يعتقد أن سلوك سياسة متشددة في فنزويلا، سيوفر له الدعم من الإتنية الكوبية في الانتخابات التمهيدية داخل الحزب الجمهوري
ومع ذلك، لن يكون تغيير النظام عملية بالسهولة المتصورة. وتشير تقديرات إلى أن أميركا ستكون في حاجة إلى نشر 50 ألف جندي، بينما يُقدّر آخرون بأن الغزو الناجح يحتاج إلى 200 ألف جندي.
ويستبعد معظم المحللين لجوء ترامب إلى المناورة البرية، ويرجحون عملية مختلفة عن غزو بوش لبناما أو غزو رونالد ريغان لجزيرة غرينادا عام 1983. وترجح رئيسة مركز الحوار بين الدول الأميركية ريبكا تشافيز، بأن “لا تكون العملية سريعة وسهلة. بل ستكون طويلة.. ولا توجد شهية في الولايات المتحدة لإراقة دماء جنود أميركيين على الأراضي الفنزويلية”.
وأشاد وزير الحرب الأميركي بيت هيغسيث، خلال محاضرة أمام الضباط الأميركيين في أيلول/سبتمبر الماضي، بحرب الخليج الثانية عام 1991 كنموذج “لمهمة محدودة بقوات هائلة ونتيجة واضحة ونهائية”، وانتقد النموذج الفيتنامي.
لذا، يعتقد محللون اللجوء إلى سيناريو الضربات الجوية أكثر من الغزو البري. وستستهدف هذه الضربات مراكز القيادة والسيطرة الأميركية، وشل القواعد الجوية الرئيسية في البلاد.
وقد يكون الغرض من الضربات الجوية، تشجيع قيام انقلاب ضد النظام من قبل ضباط يريدون تفادي تدخل عسكري أميركي واسع. ومع ذلك، يبقى دون ذلك الكثير من العقبات، بسبب الامتيازات المادية التي حصل عليها كبار الضباط من مادورو في السنوات الأخيرة، وخصوصاً تمكينهم من السيطرة على المرافق الاقتصادية. ومن المهم الإشارة هنا إلى أن “مجموعة الأزمات الدولية” (كرايزس غروب) توصلت إلى استنتاج مفاده “أن الكثير من الضباط الكبار، قد يعارضون تغيير النظام”.
ويُحذر المحلل في معهد الأولويات الدفاعية بواشنطن بن فريدمان، من تكرار “النموذج الليبي”، في حال اعتقدت أميركا أن في امكانها تمكين المعارضة الفنزويلية من السيطرة على السلطة، بواسطة موجات من القصف الجوي. ويرى بأن الفوضى في فنزويلا، ستسرع تدفق اللاجئين إلى الدول المجاورة.
وبحسب المحلل السابق في “السي آي إي” فولتون أرمسترونغ، فإنه “بوجود التكنولوجيا، لست في حاجة إلى شن مزيد من الغزوات البرية.. أعتقد أن الهدف هو حمل الفنزويليين على خلع مادورو”.
نفوذ روبيو يتصاعد
وتحظى السياسة الأميركية الحالية إزاء فنزويلا، بدفع من وزير الخارجية ماركو روبيو الذي يتولى منصب مستشار الأمن القومي أيضاً، بينما جرى تهميش مبعوث ترامب إلى فنزويلا ريتشارد غرينيل، الذي كان من أصحاب انتهاج سياسة واقعية تؤدي إلى إبرام صفقات نفطية. كذلك، ابتعد عن المشهد قائد القيادة الجنوبية الأدميرال ألفين هولسي، الذي أعلن اعتزامه التقاعد المبكر بحلول نهاية العام، بسبب اعتراضه على الخيار العسكري.
وقد يكون روبيو، وهو ابن مهاجرين كوبيين إلى الولايات المتحدة، مدفوعاً بمزيج من الإيديولوجيا والطموح السياسي. ويعرف عنه منذ سنوات موقفه المعارض لمادورو ولسلفه هوغو تشافيز، بسبب الدعم المالي والنفطي الذي قدمته كراكاس لهافانا. ومن المرجح أن تكون شهية روبيو مفتوحة للترشح للرئاسة في العام 2028 لأن الدستور يحظر ترشح ترامب لولاية ثالثة، وهو يعتقد أن سلوك سياسة متشددة في فنزويلا، سيوفر له الدعم من الإتنية الكوبية في الانتخابات التمهيدية داخل الحزب الجمهوري.
وتنقل صحيفة “الغارديان” البريطانية عن رجل أعمال معروف بعلاقاته القديمة مع فنزويلا وعلى اطلاع على ما يجري في البيت الأبيض، أن ترامب أكد في نقاشات عديدة أنه لا يكترث في فنزويلا إلا للنفط، لكن روبيو هو الذي دفعه إلى اللجوء إلى تكتيك “محاربة تجار المخدرات”، في تغيير محوري لتفكير الرئيس الأميركي و”هذا ما يدل على النفوذ المتصاعد لروبيو داخل الإدارة” الأميركية.
ويتعين أن لا يغيب عن البال، أن ترامب الذي يعتبر مادورو رئيساً غير شرعي ويؤيد زعيمة المعارضة ماريا ماتشادو، على رغم حصولها على جائزة نوبل عوضاً عنه لهذا العام، يطمح إلى تأسيس أنظمة موالية له في النصف الغربي من الكرة الأرضية، على غرار نظام نجيب بوكيلي في السلفادور وخافيير ميلي في الأرجنتين ودانيال نوبوا في الإكوادور. وهذا أحد الأسباب التي تحرك عدائية الرئيس الأميركي، نحو فنزويلا وكولومبيا والبرازيل.
ولذلك، يرى أستاذ الدراسات الأميركية اللاتينية في جامعة جورجتاون، أن إدارة ترامب تعيد بعث “مبدأ مونرو” (نسبة إلى الرئيس الأميركي جيمس مونرو في القرن التاسع عشر)، القائم على أن أميركا اللاتينية يجب أن تكون حكراً على نفوذ الولايات المتحدة.
