الأرجح أننا قد دخلنا بالفعل الحرب العالمية الثالثة، مع تصاعدٍ مضطرد في مخاطر الصدام المباشر بين قوىً نووية كبرى، وبالتالي احتمال فناء البشرية (قد يضيف البعض، “غير مأسوفٍ عليها”).
إقليمياً، في مشرقنا العربي، تمضي البلقنة قُدُماً، مهدّدةً حتى أصغر الكيانات السياسية بالتفتيت، مدفوعةً بالغزوات “الداعشية” (صارت الأخيرة بمثابة علامةٍ تجارية) المُدارة من أجهزة استخباراتٍ “أطلسية”- الصهيونية ضمناً- وبعض العربية. وعليه، قد يستغرب البعض خوضنا راهناً في مسألة “الكرامة” وماهيتها وأبعادها، أو قل عناصرها الواقعية-المادية، لا المجرّدة. غير أن ما يجري يتعدّى تدمير دولنا، بهياكلها المؤسَّسية وجيوشها وعمرانها (اقتصاداتها)، إلى التدمير الممنهج لمجتمعاتنا، والقضاء أساساً على الفرد-المواطن، وتحويله إلى فردٍ في جماعةٍ إثنيةٍ أو مذهبيةٍ أو قبلية، في جغرافيا غير مُعَرَّفةٍ وطنياً أو قومياً، مبلقنةٍ أو محكومةٍ بـ”دولٍ رخوةٍ” فاقدةٍ للقرار والدور والمشروع؛ فردٍ بائسٍ ضعيفٍ ليس فقط أمام الإمبراطورية المتداعية والمستشرسة في محاولاتها للحفاظ على هيمنتها، وأمام رأس حربتها في المشرق- الكيان الصهيوني- بل أساساً أمام متزعّميه المحليين ورعاتهم الدوليين: قاهريه ومستغِلّيه. وهنا، في زمننا الراهن، وعند أبرز القوى المقاوِمة للإمبراطورية وقاعدتها المتقدمة في بلادنا، ما زلنا نسمع مَن يتحدَّث عن “الكرامة” كمفهومٍ مجرّد، مُتَعالٍ أو “منزّهٍ” عن أسباب العيش الكريم أو شُحِّها، وما تفرضه في الغالب من خضوع لشتى صنوف الابتزاز أو حتى الارتهان الكامل؛ مفهومٌ متعالٍ على ما في نمط الحياة اليومي لعموم الناس من استنزافٍ وهشاشة، ومفهوم متجاهلٍ لظاهرة الهجرة الضخمة الكارثية التي تفاقمها بشكلٍ غير مسبوقٍ مجمل العوامل آنفة الذِكر، وما تخلّفه هذه الهجرة من ضعفٍ وتشوّهٍ مجتمعيٍّ بالمطلق وبالنسبة، إزاء الأعداء المتربّصين بالمياه والثروات والأرض التي يريدونها “مُطَهَّرةً” من ساكنيها.
“تحرير الأرض والإنسان”
مناسبة الكلام أنه سرّني سماع ما قاله الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم في افتتاح “سوق أرضي” قبل أيام حول دعم ثبات الناس في أرضهم عبر دعم مشاريعهم الإنتاجية، ولو الصغيرة-الحِرَفية، وتناوله موازنتَي الزراعة والصناعة اللتين يقلّ مجموعهما عن 2% من مجمل الموازنة العامة في لبنان. برغم أن حزب الله لم يخض يوماً المعارك حول السياسات العامة الاجتماعية-الاقتصادية وبُنى الإدارات والمؤسّسات العامة وطريقة اشتغالها أو عدمه، لكني رأيت في كلام الشيخ قاسم دلالةً لافتة للانتباه، أو ربما “بُشرى” آمل ألا تكون من قبيل “أرى ما أريد”، نظراً لأن الحزب قد خرج لتوّه من أقسى المعارك مع العدو (وما تزال الحرب مفتوحة)، دفع فيها أثماناً باهظةً من مقاتليه وكوادره وقادته وبُناه التحتية وعتاده، فضلاً عن الأثمان الكبيرة التي دفعتها حاضنته الشعبية؛ وها نحن اليوم نسمع أمينه العام يتحدّث عن البُعد الاجتماعي-الاقتصادي للصراع الذي هو كُلٌّ واحدٌ بطبيعته، بجميع أبعاده، العسكرية-الأمنية والاقتصادية-الاجتماعية والسياسية والثقافية. فلِمَ المقاومة والسعي والكفاح من أصله، إن لم يكن بغية “تحرير الأرض والإنسان”، كما عبّرت أدبيات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين منذ ستينيات القرن الماضي؟
الكرامة تُصان فعلاً حين يعيش المواطنون في دولةٍ فيها الحد الأدنى من “الانتظام العام”، حيث تعمل الإدارات والمؤسّسات العامة لخدمة الصالح العام إجمالاً، فتقيم الضوابط القانونية التي تحمي من التجاوز الجسيم، وتوفّر الشروط للنشاط الاقتصادي المنتج، وتؤمّن الحد الأدنى من التأمينات والخدمات العامة، وتعمل على بلورة هويةٍ جامعة، وإن مركّبة، لا تلغي بالضرورة الهويات الأولية، بل تمثّل هويةً أعلى وولاءً أعلى يوحّد تطلّعات عموم المواطنين وجهودهم بما يصبّ في الصالح العام
قد يرى البعض في ما تقدَّم “طوباويةً” ترفضها المدارس الفلسفية “الواقعية” و”الكلبيّة”- بنسختيها اليونانية الأصلية والمعاصرة- وأيضاً “الليبرالية” على أنواعها، غير أن هذه الغاية النبيلة التي يختصرها شعار “تحرير الأرض والإنسان” يمكن، إزاء تشكيك البعض ورفض البعض الآخر، أن نقاربها من أضيق زاويةٍ واقعيةٍ عملانيةٍ حتى: ألم نُنكَب في المعركة الأخيرة بالعدد الكبير من العملاء “الصغار” (وكُلُّ العملاء صغار بنفوسهم، ولو تقاضوا ثرواتٍ طائلة وأُهدِيت لهم السلطة) الذي جُنِّدوا بأبخس الأثمان الدولارية (بضع عشرات أو مئات)؟ ألم يُحيَّد كُثُر عن الصراع لأنهم أُجبروا على الهجرة، أو استُتبعوا وارتُهِنوا، من أجل تأمين الحد الأدنى من متطلبات العيش الكريم؟ كُثُر مستعدّون كل الاستعداد للتضحية بنفوسهم في الصراع من أجل التحرّر، ولكن، أولاً، الصراع هذا ليس حَدَثاً سريعاً يمكن “الصيام” خلاله عن أسباب العيش، بل هو عمليةٌ تاريخيةٌ تمتد لسنين وعقود؛ وثانياً، كثيراً ما يُجبر أناسٌ على القبول بما لا يُطاق أو فعل ما لا يرضون به بدافع تأمين عوائلهم وأحبّتهم. وكم من قُرانا وبلداتنا باتت شبه فارغة من أهلها بسبب الظروف الاجتماعية-الاقتصادية التي نعيشها، قبل فقدان الأمان وسيادة اللايقين والتحلّل والفوضى؟ أليست هذه دعوةً مفتوحةً للغُزاة أصحاب نظرية “ملء الفراغ”؟
البناء الروحي والمادي للأمة
“المحلِّلون والخبراء الاستراتيجيون” يتكاثرون كالفطر على شاشات بلادنا: ألا يفيد جهابذة “الجيوبوليتيك” بأن الضعف الاقتصادي والديموغرافي، وبخاصة المزمن والمتفاقم، يعني رجحان كفة الهزيمة في الحرب مع الأعداء؟ ألا يفيد هؤلاء بأن الأمن المائي والغذائي والطاقوي، والأمن الاقتصادي عموماً، والأمن الاجتماعي بالمعنى الأوسع، وأساسه تماسك النسيج الاجتماعي، هي جميعاً من المحدِّدات الأساسية لمفهوم “الأمن القومي” أو “الأمن الوطني” ولقدرة أي بلدٍ أو مجتمعٍ على خوض الحرب (وليس المعركة فقط) والانتصار فيها؟
فلنَعي جميعاً أن المحدِّدات آنفة الذِكر هي نفسها أبرز المقوّمات الواقعية- لا الطوباوية والخطابية المكابِرة، بائعة الأوهام الخطيرة- للدولة التي تضمن لمواطنيها، لا رعايا جماعاتها الأولية، كرامةً حقيقية.
الكرامة تُصان فعلاً حين يعيش المواطنون في دولةٍ فيها الحد الأدنى من “الانتظام العام”، حيث تعمل الإدارات والمؤسّسات العامة لخدمة الصالح العام إجمالاً، فتقيم الضوابط القانونية التي تحمي من التجاوز الجسيم، وتوفّر الشروط للنشاط الاقتصادي المنتج، وتؤمّن الحد الأدنى من التأمينات والخدمات العامة، وتعمل على بلورة هويةٍ جامعة، وإن مركّبة، لا تلغي بالضرورة الهويات الأولية، بل تمثّل هويةً أعلى وولاءً أعلى يوحّد تطلّعات عموم المواطنين وجهودهم بما يصبّ في الصالح العام.
مرّة أخرى: لا بد من العمل، بالتوازي والتآزر، على الدفاع عن الوطن وعلى البناء المادي والروحي للأمة؛ فعمل الجماعات الفرعية كافة المؤلِّفة للأمة على هذَين المحورَين معاً يبني وحدة الأمة ويُمكّنها من تعبئة مواردها البشرية والمادية كافة في صراعها المصيري مع عدوّها الوجودي وداعميه من قوى الهيمنة العالمية.
ومرّة أخرى أيضاً: نريد أن نحرّر أرضنا لنحيا فيها- لا مشتّتين في رياح الأرض الأربع- مواطنين أحراراً في مجتمعٍ مزدهرٍ ينعم بالرفاه، لا أن نعيش عبيداً، رعايا في كانتوناتٍ مذهبيةٍ متصارعة، مُفقَرةٍ وتابعة.
