“بريطانيا مَدينة لفلسطين”.. مواجهة قانونية مع المستعمر

قدّمت مجموعة من الفلسطينيين التماسًا قانونيًا تطلب فيه من بريطانيا تحمل المسؤولية عما أسموها "انتهاكاتها المتكررة للقانون الدولي"، بما في ذلك جرائم الحرب التي ارتكبت خلال الاحتلال البريطاني لفلسطين (1917-1948) والتي ما تزال عواقبها تتردد حتى اليوم، حسب المجموعة إياها.

يُشكل تقديم هذا الالتماس بداية حملة بعنوان “بريطانيا مدينة لفلسطين” Britain Owes Palestine، تضغط لأجل اعتراف بريطانيا رسمياً بارتكابها أخطاء، وتقديم اعتذار وتعويضات عما تسميه “قرنٌ من القمع”. فما هو هذا الالتماس، ما هو بُعده السياسي، وكيف ينبغي أن ننظر إلي جهود من هذا النوع؟

الالتماس القانوني هو طلب رسمي موجه إلى الحكومة لاتخاذ إجراء بناءً على أدلة، وغالباً ما يستخدمه ضحايا الأفعال الاستعمارية. إذا لم تستجب الحكومة، قد يؤدي ذلك إلى إجراءات مراجعة قضائية في المحكمة العليا في لندن. وقد تمت صياغة الوثيقة التي تزيد عن 400 صفحة من قبل محامين متخصصين في حقوق الإنسان على مدى سنوات. تورد الوثيقة بالتفصيل “أدلة دامغة” على إرث المملكة المتحدة العنيف. ويشمل ذلك إعلان بلفور لعام 1917، والعمل كقوة احتلال خلال فترة الانتداب (وهي سلطة لحكم الإقليم الذي تقول إنه لا أساس قانونياً له) وما تلا ذلك من “انتهاكات منهجية” للشعب الفلسطيني. ويقول الالتماس إن الشعب الفلسطيني يواجه أخطر أزمة له منذ عام 1948، والتي تتحمل بريطانيا مسؤولية واضحة عنها، وبالتالي فهي مدينة له.

وتُفصّل العريضة كيف قمعت بريطانيا بشكل غير قانوني سكان فلسطين، لا سيما خلال قمع الثورة العربية من عام 1936 إلى عام 1939، من خلال اعتماد شكل من أشكال الأحكام العرفية القانونية التي أخضعت الفلسطينيين لنمط من القتل والتعذيب والاضطهاد والاعتقال التعسفي وغير ذلك من الأفعال اللاإنسانية، وارتكبت جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

والملاحظ أن جميع مقدمي الالتماس البالغ عددهم 14 شخصاً تأثروا مباشرةً بالانتهاكات التي ارتكبتها بريطانيا. ومن بينهم منيب المصري البالغ (91 عاماً)، وهو رجل أعمال من مواليد نابلس، وكان صديقًا مقربًا للقائد الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، والذي أطلق عليه جنود بريطانيون النار في ساقه عندما كان في الثالثة عشرة من عمره. وقد ذكر أن “الأزمة الحالية في فلسطين هي من صنع بريطانيا من خلال سلسلة من الإهمال والإساءة للشعب الفلسطيني. لقد عانينا معًا أكثر من قرن من القمع. لا يمكن لبريطانيا أن تلعب دورها في بناء سلام عادل في المنطقة اليوم إلا إذا اعترفت بدورها الحاسم في فظائع الماضي. الاعتذار سيكون بداية عادلة لما يتوقعه الفلسطينيون من الحكومة البريطانية”. كما يذكر بيانه المكتوب، المرفق بالالتماس، أن القوات البريطانية قامت باعتقال أعداد كبيرة من الرجال، واقتادتهم عبر المدن وأيديهم وأرجلهم مقيدة بالحبال، ثم احتجزتهم في أقفاص قبل إعدامهم.

ومع ذلك، فإن الالتماس لا يتعلق فقط بالجرائم بل أنه سياسي في المقام الأول. فيذكر أن بريطانيا “لم تعترف بالأمة العربية في فلسطين” على الرغم من أنها تعهدت بذلك في مراسلات ماكماهون-حسين، وهي سلسلة من الرسائل المتبادلة خلال الحرب العالمية الأولى. ويذكر أن بريطانيا تتحمل المسؤولية عن تدمير الأراضي الفلسطينية الموحدة وعن عدم حماية وتعزيز حقوق الشعب العربي الفلسطيني الأصلي عند انسحابها. ومع أنه لا يناقش مسألة الاعتراف بإسرائيل بعد النكبة، يسعى إلى المساءلة على أساس معايير القانون “الدولي” التي كانت سارية في وقت الاحتلال البريطاني، بما في ذلك إعلان بلفور الذي تعهدت فيه الحكومة البريطانية بإنشاء وطن يهودي في فلسطين.

وقال بن إيميرسون، المقرر الخاص السابق للأمم المتحدة المعني بحقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب، والذي يعمل على القضية: “تُظهر هذه العريضة، بالرجوع إلى تحليل شامل للأدلة المعاصرة، مدى مسؤولية بريطانيا عن المعاناة الرهيبة في فلسطين، والتي يمكن إرجاعها إلى انتهاكات بريطانيا للقانون الدولي خلال احتلالها وانسحابها اللاحق. تستمر هذه المظالم التاريخية في تشكيل الواقع على الأرض اليوم. بريطانيا مدينة للشعب الفلسطيني. تستند عريضة اليوم إلى الالتزامات الدولية للمملكة المتحدة بالتعويض”.

كيف ينبغي أن ننظر إلى مثل هذه الجهود التي تستند إلى قوانين الدول أو المؤسسات الاستعمارية؟

من ناحية، هناك سابقة لتنازلات الحكومة البريطانية من النوع الذي تطالب به العريضة. في وقت سابق من هذا العام، اعتذرت عن مذبحة باتانغ كالي في مالايا الاستعمارية عام 1948، والتي كانت الأحدث من بين خمسة اعتذارات من هذا النوع. وحقيقة أن المحامين الفلسطينيين أخذوا زمام المبادرة، بدلاً من انتظار جنوب أفريقيا أو غيرها كما هو الحال غالباً، وهو تطور ممتاز. من ناحية أخرى، لا ينبغي أن نتوقع التحرر من الأدوات الاستعمارية، لا سيما القانون، كونه نتيجة موازين قوى لا ربطاً بالمعيار الأخلاقي. يجب التأكد من جميع الوسائل المتاحة للتأثير على ميزان القوى، بما في ذلك خلق فرص للمناقشات السياسية، من دون أن نغفل حقيقة أن أدوات القوى الاستعمارية هي ما نحتاج إلى التحرر منه، وليس من خلاله.

إقرأ على موقع 180  "اليوم التالي".. استحالة إدارة الظهر لقضية فلسطين المتفجرة

Print Friendly, PDF & Email
ألان علم الدين

مترجم وكاتب ومنسق في "مبادرة الدولة الديموقراطية الواحدة" ومناصر لـ"حركة مواطنون ومواطنات في دولة"، لبنان

Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  هل يفك القمر الصناعي الروسي لغز مرفأ بيروت؟